كنوز النت الإسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كنوز النت الإسلامية

منتديات كنوز النت الإسلامية لنشر علوم الدنيا والدين
 
الرئيسيةبوابة كنوز النتمكتبة الصورس .و .جبحـثالأعضاءالمجموعاتالتسجيلدخول

 

 تفسير اضواء البيان سورة البقرة 8

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد الازهرى
المستشار القانوني للمنتديات
المستشار القانوني للمنتديات
محمد الازهرى


ذكر عدد الرسائل : 3286
تاريخ الميلاد : 20/10/1982
العمر : 42
نقاط : 13044
تاريخ التسجيل : 29/05/2010

تفسير اضواء البيان سورة البقرة 8 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان سورة البقرة 8   تفسير اضواء البيان سورة البقرة 8 Emptyالجمعة 18 يونيو 2010, 6:31 am

بعد "لثلاث"، وقد قدمنا أن جميع روايات حديث طاوس عن ابن عباس المذكور عند مسلم ليس في شيء منها التصريح بأن الطلقات الثلاث بلفظ واحد، وقد قدمنا أيضا أن بعض رواياته موافقة للفظ حديث عائشة الثابت في الصحيح. وأنه لا وجه للفرق بينهما، فإن حمل على أن الثلاث مجموعة فحديث عائشة أصح، وفيه التصريح بأن تلك المطلقة لا تحل إلا بعد زوج. وإن حمل على أنها بألفاظ متفرقة، فلا دليل إذن في حديث طاوس عن ابن عباس على محل النزاع، فإن قيل: أنتم تارة تقولون: إن حديث ابن عباس منسوخ، وتارة تقولون: ليس معناه أنها بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة، فالجواب أن معنى كلامنا: أن الطلقات في حديث طاوس لا يتعين كونها بلفظ واحد، ولو فرضنا أنها بلفظ واحد، فجعلها واحدة منسوخ هذا هو ما ظهر لنا في هذه المسألة. والله تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم.
قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، لم يبين في هذه الآية ولا في غيرها من آيات الطلاق حكمة كون الطلاق بيد الرجل دون إذن المرأة، ولكنه بين في موضع آخر أن حكمة ذلك أن المرأة حقل تزرع فيه النطفة كما يزرع البذر في الأرض، ومن رأى أن حقله غير صالح للزراعة فالحكمة تقتضي أن لا يرغم على الازدراع فيه، وأن يترك وشأنه؛ ليختار حقلا صالحا لزراعته وذلك في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [2/223]، كما تقدم إيضاحه.
قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. صرح في هذه الآية الكريمة بأن الزوج لا يحل له الرجوع في شيء مما أعطى زوجته، إلا على سبيل الخلع، إذا خافا إلا يقيما حدود الله، فيما بينهما، فلا جناح عليهما إذن في الخلع. أي: لا جناح عليها هي في الدفع، ولا عليه هو في الأخذ.
وصرح في موضع آخر بالنهي عن الرجوع في شيء مما أعطى الأزواج زوجاتهم، ولو كان المعطى قنطارا وبين أن أخذه بهتان وإثم مبين، وبين أن السبب المانع من أخذ شيء منه هو أنه أفضى إليها بالجماع. وذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [4/21،20]. وبين

(1/141)


--------------------------------------------------------------------------------

في موضع آخر أن محل النهي عن ذلك إذا لم يكن عن طيب النفس من المرأة؛ وذلك في قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [4/4]. وأشار إلى ذلك بقوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [4/24].
تنبيه
أخذ ابن عباس من هذه الآية الكريمة أن الخلع فسخ ولا يعد طلاقا؛ لأن الله تعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ، ثم ذكر الخلع بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [2/229]؛ لم يعتبره طلاقا ثالثا ثم ذكر الطلقة الثالثة بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الآية [2/230].
وبهذا قال عكرمة وطاوس وهو رواية عن عثمان بن عفان وابن عمر، وهو قول إسحاق بن راهويه، وأبي ثور وداود بن علي الظاهري كما نقله عنهم ابن كثير وغيره، وهو قول الشافعي في القديم وإحدى الروايتين عن أحمد.
قال مقيده عفا الله عنه الاستدلال بهذه الآية على أن الخلع لا يعد طلاقا ليس بظاهر عندي؛ لما تقدم مرفوعا إليه صلى الله عليه وسلم من أن الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، وهو مرسل حسن.
قال في "فتح الباري": والأخذ بهذا الحديث أولى، فإنه مرسل حسن يعتضد بما أخرجه الطبري من حديث ابن عباس بسند صحيح، قال: "إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها فيحسن صحبتها، أو يسرحها فلا يظلمها من حقها شيئا".
وعليه ففراق الخلع المذكور لم يرد منه إلا بيان مشروعية الخلع عند خوفهما ألا يقيما حدود الله؛ لأنه ذكر بعد الطلقة الثالثة. وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} إنما كرره؛ ليرتب عليه ما يلزم بعد الثالثة، الذي هو قوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} الأية. ولو فرعنا على أن قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [2/229]، يراد به عدم الرجعة، وأن الطلقة الثالثة هي المذكورة في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} الآية [2/230]، لم يلزم من ذلك أيضا عدم عد الخلع طلاقا؛ لأن الله تعالى ذكر الخلع في معرض منع الرجوع فيما يعطاه الأزواج. فاستثنى منه صورة جائزة، ولا يلزم من ذلك عدم اعتبارها

(1/142)


--------------------------------------------------------------------------------

طلاقا، كما هو ظاهر من سياق الآية.
وممن قال بأن الخلع يعد طلاقا بائنا مالك، وأبو حنيفة، والشافعي في الجديد، وقد روي نحوه عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعطعاء، وشريح، والشعبي، وإبراهيم، وجابر بن زيد، والثوري، والأوزاعي، وأبو عثمان البتي، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين، أو أطلق فهو واحدة بائنة. وإن نوى ثلاثا فثلاث، وللشافعي قول آخر في الخلع وهو: أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن النية فليس هو بشيء بالكلية، قاله ابن كثير.
ومما احتج به أهل القول بأن الخلع طلاق ما رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن جهمان مولى الأسلميين، عن أم بكر الأسلمية أنها اختلعت من زوجها عبد الله خالد بن أسيد، فأتيا عثمان بن عفان في ذلك فقال تطليقة، إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت.
قال الشافعي: ولا أعرف جهمان، وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر، قاله ابن كثير والعلم عند الله تعالى.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود مثله وتكلم فيه بأن في سنده ابن أبي ليلى، وأنه سيىء الحفظ وروي مثله عن علي وضعفه ابن حزم، والله تعالى أعلم.
فروع الأول: ظاهر هذه الآية الكريمة أن الخلع يجوز بأكثر من الصداق؛ وذلك لأنه تعالى عبر بما الموصولة في قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [2/229]، وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم؛ لأنها تعم كل ما تشمله صلاتها كما عقده في "مراقي السعود" بقوله: [الرجز]
صيغه كل أو1 الجميع ... وقد تلا الذي التي الفروع
وهذا هو مذهب الجمهور، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه: وقد اختلف العلماء رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها.
فذهب الجمهور إلى جواز ذلك؛ لعموم قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
ـــــــ
1 البيت مختلّ بسقوط بعض اللفظ بعد "ؤو"

(1/143)


--------------------------------------------------------------------------------

افْتَدَتْ بِهِ}.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إيراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب عن كثير مولى ابن سمرة: أن عمر أتى بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل، ثم دعاها فقال: كيف وجدت ؟ فقالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني. فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها، ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن كثير مولى ابن سمرة فذكر مثله، وزاد فحبسها فيه ثلاثة أيام.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن، أن امرأة أتت عمر بن الخطاب فشكت زوجها فأباتها في بيت الزبل، فلما أصبحت قال لها: كيف وجدت مكانك ؟ قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال: خذ ولو عقاصها.
وقال البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يقل على الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب. قالت: فكانت مني زلة يوما، فقلت له: أختلع منك بكل شيء أملكه، قال: نعم، قالت: ففعلت، قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي، فما دونه، أو قالت ما دون عقاص الرأس.
ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها، وبه يقول ابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي وقبيصة بن ذؤيب والحسن بن صالح وعثمان البتي.
وهذا مذهب مالك، والليث، والشافعي، وأبي ثور، واختاره ابن جرير. وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا يجوز الزيادة عليه. فإن ازداد جاز في القضاء، وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا، فإن أخذ جاز في القضاء.
وقال الإمام أحمد وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه: لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها، وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء، وعمرو بن شعيب، والزهري، وطاوس، والحسن، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان، والربيع بن أنس.

(1/144)


--------------------------------------------------------------------------------

وقال معمر والحكم: كان علي يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها.
وقال الأوزاعي: القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، قلت: ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قصة ثابت بن قيس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد، وبما روى عبد بن حميد حيث قال: أخبرنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، يعني: المختلعة، وحملوا معنى الآية على معنى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، أي: من الذي أعطاها؛ لتقدم قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [2/229]، أي: من ذلك وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه} منه، رواه ابن جرير، ولهذا قال بعده: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2/229]. اهـ من ابن كثير بلفظه.
الفرع الثاني: اختلف العلماء في عدة المختلعة: فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تعتد بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض، كعدة المطلقة منهم: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه في الرواية المشهورة عنهما، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وبه يقول سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة، وسالم، وأبو سلمة، وعمر بن عبد العزيز، وابن شهاب، والحسن، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبو عياض، وخلاس بن عمرو، وقتادة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبو العبيد.
قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم، ومأخذهم في هذا: أن الخلع طلاق فتعتد كسائر المطلقات، قاله ابن كثير.
قال مقيده عفا الله عنه وكون الخلع طلاقا ظاهر من جهة المعنى، لأن العوض المبذول للزوج من جهتها إنما بذلته في مقابلة ما يملكه الزوج، وهو الطلاق؛ لأنه لا يملك لها فراقا شرعا إلا بالطلاق، فالعوض في مقابلته. ويدل له ما أخرجه البخاري في قصة مخالعة ثابت بن قيس زوجه من حديث ابن عباس: "أن امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه من خلق ولا دين، ولكني

(1/145)


--------------------------------------------------------------------------------

أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته ؟" قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" ، فيه دليل على أن العوض مبذول في الطلاق الذي هو من حق الزوج، وقول البخاري عقب سوقه للحديث المذكور.
قال أبو عبد الله: لا يتابع فيه عن ابن عباس لا يسقط الاحتجاج به؛ لأن مراده أن أزهر بن جميل لا يتابعه غيره في ذكر ابن عباس في هذا الحديث، بل أرسله غيره ومراده بذلك: خصوص طريق خالد الحذاء، عن عكرمة، ولهذا عقبه برواية خالد وهو ابن عبد الله الطحان عن خالد، وهو الحذاء عن عكرمة مرسلا، ثم برواية إبراهيم بن طهمان، عن خالد الحذاء مرسلا، وعن أيوب موصولا. ورواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب الموصولة، وصلها الإسماعيلي، قاله الحافظ في "الفتح"، فظهر اعتضاد الطرق المرسلة بعضها ببضع، وبالطرق الموصولة.
وقوله في رواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب الموصولة وأمره ففارقها يظهر فيها أن مراده بالفراق الطلاق في مقابلة العوض؛ بدليل التصريح في الرواية الأخرى بذكر التطليقة، والروايات بعضها يفسر بعضا، كما هو معلوم في علوم الحديث.
وما ذكره بعض العلماء من أن المخالع إذا صرح بلفظ الطلاق لا يكون طلاقا، وإنما يكون فسخا فهو بعيد ولا دليل عليه. والكتاب والسنة يدلان على أن المفارقة بلفظ الطلاق طلاق لا فسخ. والاستدلال على أنه فسخ بإيجاب حيضة واحدة في عدة المختلعة فيه أمران:
أحدهما: ما ذكرنا آنفا من أن أكثر أهل العلم على أن المختلعة تعتد عدة المطلقة ثلاثة قروء.
الثاني: أنه لا ملازمة بين الفسخ والاعتداد بحيضة، ومما يوضح ذلك أن الإمام أحمد وهو، رحمه الله تعالى ـ يقول في أشهر الروايتين عنه: إن الخلع فسخ لا طلاق، ويقول في أشهر الروايتين عنه أيضا: إن عدة المختلعة ثلاثة قروء كالمطلقة، فظهر عدم الملازمة عنده فإن قيل هذا الذي ذكرتم يدل على أن المخالع إذا صرح بلفظ الطلاق كان طلاقا، ولكن إذا لم يصرح بالطلاق في الخلع فلا يكون الخلع طلاقا، فالجواب: أن مرادنا بالاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" أن الطلاق المأمور به

(1/146)


--------------------------------------------------------------------------------

من قبله صلى الله عليه وسلم هو عوض المال إذ لا يملك الزوج من الفراق غير الطلاق. فالعوض مدفوع له عما يملكه كما يدل له الحديث المذكور دلالة واضحة.
وقال بعض العلماء: تعتد المختلعة بحيضة ويروى هذا القول عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر، والربيع بنت معوذ، وعمها، وهو صحابي وأخرجه أصحاب السنن، والطبراني مرفوعا والظاهر أن بعض أسانيده أقل درجاتها القبول، وعلى تقدير صحة الحديث بذلك فلا كلام. ولو خالف أكثر أهل العلم وقد قدمنا عدم الملازمة بين كونه فسخا، وبين الاعتداد بحيضة فالاستدلال به عليه لا يخلو من نظر، وما وجهه به بعض أهل العلم من أن العدة إنما جعلت ثلاث حيض ليطول زمن الرجعة ويتروى الزوج ويتمكن من الرجعة في مدة العدة، فإذا لم تكن عليها رجعة فالمقصود مجرد براءة رحمها من الحمل. وذلك يكفي فيه حيضة كالاستبراء لا يخلو من نظر أيضا؛ لأن حكمة جعل العدة ثلاثة قروء ليست محصورة في تطويل زمن الرجعة،بل الغرض الأعظم منها: الاحتياط لماء المطلق حتى يغلب على الظن بتكرر الحيض ثلاث مرات، أن الرحم لم يشتمل على حمل منه. ودلالة ثلاث حيض على ذلك أبلغ من دلالة حيضة واحدة، ويوضح ذلك أن الطلقة الثالثة لا رجعة بعدها إجماعا.
فلو كانت الحكمة ما ذكر لكانت العدة من الطلقة الثالثة حيضة واحدة، وما قاله بعض العلماء من أن باب الطلاق جعل حكمه واحدا، فجوابه أنه لم يجعل واحدا إلا لأن الحكمة فيه واحدة. ومما يوضح ذلك أن المطلق قبل الدخول لا عدة له على مطلقته إجماعا، بنص قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [33/49]، مع أنه قد يندم على الطلاق كما يندم المطلق بعد الدخول، فلو كانت الحكمة في الاعتداد بالأقراء مجرد تمكين الزوج من الرجعة، لكانت العدة في الطلاق قبل الدخول.
ولما كانت الحكمة الكبرى في الاعتداد بالأقراء هي أن يغلب على الظن براءة الرحم من ماء المطلق؛ صيانة للأنساب، كان الطلاق قبل الدخول لا عدة فيه أصلا؛ لأن الرحم لم يعلق بها شيء من ماء المطلق حتى تطلب براءتها منه بالعدة، كما هو واضح. فإن قيل فما وجه اعتداد المختلعة بحيضة ؟ قلنا: إن كان ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه عنه أصحاب السنن والطبراني فهو تفريق من الشارع بين الفراق المبذول فيه عوض، وبين غيره في قدر العدة، ولا إشكال في ذلك. كما فرق بين الموت قبل

(1/147)


--------------------------------------------------------------------------------

الدخول فأوجب فيه عدة الوفاة. وبين الطلاق قبل الدخول فلم يوجب فيه عدة أصلا. مع أن الكل فراق قبل الدخول. والفرق بين الفراق بعوض، والفراق بغير عوض ظاهر في الجملة، فلا رجعة في الأول بخلاف الثاني.
الفرع الثالث: اختلف العلماء في المخالعة هل يلحقها طلاق من خالعها بعد الخلع على ثلاثة أقوال:
الأول: لا يلحقها طلاقه، لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه بمجرد الخلع، وبهذا قول ابن عباس، وابن الزبير، وعكرمة، وجابر بن زيد، والحسن البصري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور كما نقله عنهم ابن كثير.
الثاني: أنه إن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما وقع، وإن سكت بينهما لم يقع، وهذا مذهب مالك.
قال ابن عبد البر: وهذا يشبه ما روي عن عثمان رضي الله عنه.
الثالث: أنه يلحقها طلاقه ما دامت في العدة مطلقا، وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وبه يقول سعيد بن المسيب، وشريح، وطاوس، وإبراهيم، والزهري، والحاكم، والحكم، وحماد بن أبي سليمان، كما نقله عنهم ابن كثير. وروي ذلك عن ابن مسعود، وأبي الدرداء.
قال ابن عبد البر: وليس ذلك بثابت عنهما.
قال مقيده عفا الله عنه وهذا القول الثالث بحسب النظر أبعد الأقوال؛ لأن المخالعة بمجرد انقضاء صيغة الخلع تبين منه، والبائن أجنبية لا يقع عليها طلاق؛ لأنه لا طلاق لأحد فيما لا يملكه كما هو ظاهر، والعلم عند الله تعالى.
الفرع الرابع: ليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء؛ لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء، وروي عن عبد الله بن أبي أوفى، وماهان الحنفي، وسعيد بن المسيب، والزهري أنهم قالوا: إن رد إليها الذي أعطته جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها، وهو اختيار أبي ثور.
وقال سفيان الثوري: إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة، ولا سبيل له عليها، وإن كان سمى طلاقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة، وبه يقول داود بن

(1/148)


--------------------------------------------------------------------------------

علي الظاهري. ا هـ من ابن كثير.
الفرع الخامس: أجمع العلماء على أن للمختلع أن يتزوجها برضاها في العدة، وما حكاه ابن عبد البر عن جماعة من أنهم منعوا تزويجها لمن خالعها، كما يمنع لغيره فهو قول باطل مردود ولا وجه له بحال. كما هو ظاهر والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الآية. ظاهر قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [2/236]، انقضاء عدتهن بالفعل، ولكنه بين في موضع آخر أنه لا رجعة إلا في زمن العدة خاصة، وذلك في قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [2/228]؛ لأن الإشارة في قوله: {ذَلِكَ} راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه بثلاثة قروء في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} الآية [2/228]. فاتضح من تلك الآية أن معنى {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}. أي: قاربن انقضاء العدة، وأشرفن على بلوغ أجلها.
قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} الآية. صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بالنهي عن إمساك المرأة مضارة لها؛ لأجل الإعتداء عليها بأخذه ما أعطاها؛ لأنها إذا طال عليها الإضرار افتدت منه؛ ابتغاء السلامة من ضرره. وصرح في موضع آخر بأنها إذا أتت بفاحشة مبينة جاز له عضلها، حتى تفتدي منه وذلك في قوله تعالى : {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [4/19]، واختلف العلماء في المراد بالفاحشة المبينة.
فقال جماعة منهم هي: الزنا، وقال قوم هي: النشوز والعصيان وبذاء اللسان. والظاهر شمول الآية للكل كما اختاره ابن جرير.
وقال ابن كثير: إنه جيد، فإذا زنت أو أساءت بلسانها، أو نشزت جازت مضاجرتها؛ لتفتدي منه بما أعطاها على ما ذكرنا من عموم الآية.
قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الآية. ذكر في هذه الآية الكريمة أن الرجل إذا أراد أن يطلب لولده مرضعة غير أمه لا جناح عليه في ذلك، إذا سلم الأجرة المعينة في العقد، ولم يبين هنا الوجه الموجب لذلك، ولكنه بينه في سورة {الطَّلاق} بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [65/6]، والمراد بتعاسرهم: امتناع الرجل من دفع ما تطلبه المرأة، وامتناع المرأة من قبول الإرضاع بما

(1/149)


--------------------------------------------------------------------------------

يبذله الرجل ويرضى به.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل متوفى عنها تعتد بأربعة أشهر وعشر، ولكنه بين في موضع آخر أن محل ذلك ما لم تكن حاملا، فإن كانت حاملا كانت عدتها وضع حملها، وذلك في قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [65/4]، ويزيده إيضاحا ما ثبت في الحديث المتفق عليه من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لسبيعة الأسلمية في الزواج بوضع حملها بعد وفاة زوجها بأيام، وكون عدة الحامل المتوفى عنها بوضع حملها هو الحق، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم خلافا لمن قال: تعتد بأقصى الأجلين. ويروى عن علي وابن عباس، والعلم عند الله تعالى.
تنبيهان
الأول: هاتان الآيتان، أعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ، وقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، من باب تعارض الأعمين من وجه، والمقرر في الأصول الترجيح بينهما، والراجح منهما يخصص به عموم المرجوح كما عقده في "المراقي" بقوله: [الرجز]
وإن يك العموم من وجه ظهر ... فالحكم بالترجيح حتما معتبر
وقد بينت السنة الصحيحة أن عموم: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} ، مخصص لعموم: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية. مع أن جماعة من الأصوليين ذكروا أن الجموع المنكرة لا عموم لها، وعليه فلا عموم في آية البقرة؛ لأن قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} ، جمع منكر فلا يعم بخلاف قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} ، فإنه مضاف إلى معرف بأل، والمضاف إلى المعرف بها من صيغ العموم، كما عقده في "مراقي السعود" بقوله عاطفا على صيغ العموم: [الرجز]
..................... ... وما معرفا بأل قد وجدا
أو بإضافة إلى معرف ... إذا تحقق الخصوص قد نفى
الثاني: الضمير الرابط للجملة بالموصول محذوف؛ لدلالة المقام عليه أي: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم أربعة أشهر وعشرا كقول العرب:

(1/150)


--------------------------------------------------------------------------------

السمن منوان بدرهم، أي: منوان منه بدرهم.
قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} ، ظاهر هذه الآية الكريمة أن المتعة حق لكل مطلقة على مطلقها المتقي، سواء أطلقت قبل الدخول أم لا ؟ فرض لها صداق أم لا ؟ ويدل لهذا العموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} الآية [33/28]، مع قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [33/21]، وقد تقرر في الأصول أن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم يعم حكمه جميع الأمة إلا بدليل على الخصوص كما عقده في "مراقي السعود" بقوله: [الرجز]
وما به قد خوطب النبي ... تعميمه في المذهب السني
وهو مذهب الأئمة الثلاثة، خلافا للشافعي القائل بخصوصه به صلى الله عليه وسلم إلا بدليل على العموم، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وإذا عرفت ذلك فاعلم: أن أزواج النبي مفروض لهن ومدخول بهن، وقد يفهم من موضع آخر أن المتعة لخصوص المطلقة قبل الدخول، وفرض الصداق معا؛ لأن المطلقة بعد الدخول تستحق الصداق، والمطلقة قبل الدخول وبعد فرض الصداق تستحق نصف الصداق. والمطلقة قبلهما لا تستحق شيئا، فالمتعة لها خاصة لجبر كسرها وذلك في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنّ} [2/236]، ثم قال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [2/237]، فهذه الآية ظاهرة في هذا التفصيل، ووجهه ظاهر معقول.
وقد ذكر تعالى في موضع آخر ما يدل على الأمر بالمتعة للمطلقة قبل الدخول وإن كان مفروضا لها، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [33/49]؛ لأن ظاهر عمومها يشمل المفروض لها الصداق وغيرها، وبكل واحدة من الآيات الثلاث أخذ جماعة من العلماء، والأحوط الأخذ بالعموم، وقد تقرر في الأصول أن النص الدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة، وعقده في "مراقي السعود" بقوله: [الرجز]

(1/151)


--------------------------------------------------------------------------------

وناقل ومثبت والآمر ... بعد النواهي ثم هذا الآخر
على إباحة الخ...
فقوله ثم هذا الآخر على إباحة، يعني: أن النص الدال على أمر مقدم على النص الدال على إباحة، للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب.
والتحقيق أن قدر المتعة لا تحديد فيه شرعا لقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} ، فإن توافقا على قدر معين فالأمر واضح، وإن اختلفا فالحاكم يجتهد في تحقيق المناط، فيعين القدر على ضوء قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} الآية ، هذا هو الظاهر، وظاهر قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} ، وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [2/241]، يقتضي وجوب المتعة في الجملة خلافا لمالك ومن وافقه في عدم وجوب المتعة أصلا، واستدل بعض المالكية على عدم وجوب المتعة بأن الله تعالى قال: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [2/236]، وقال: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [2/241]، قالوا: فلو كانت واجبة لكانت حقا على كل أحد، وبأنها لو كانت واجبة لعين فيها القدر الواجب.
قال مقيده عفا الله عنه هذا الاستدلال على عدم وجوبها لا ينهض فيما يظهر؛ لأن قوله: {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و {عَلَى الْمُتَّقِينَ} تأكيد للوجوب وليس لأحد أن يقول لست متقيا مثلا؛ لوجوب التقوى على جميع الناس.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} الآية ما نصه: وقوله {عَلَى الْمُتَّقِينَ} تأكيد لإيجابها؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه وقد قال تعالى في القرآن: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [2/2]، وقولهم لو كانت واجبة لعين القدر الواجب فيها، ظاهر السقوط. فنفقة الأزواج والأقارب واجبة ولم يعين فيها القدر اللازم، وذلك النوع من تحقيق المناط مجمع عليه في جميع الشرائع كما هو معلوم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} المقصود من هذه الآية الكريمة، تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي، فإذا علم الإنسان أن فراره من الموت أو القتل لا ينجيه، هانت عليه مبارزة الأقران؛ والتقدم في الميدان. وقد أشار تعالى أن هذا هو مراده بالآية

(1/152)


--------------------------------------------------------------------------------

حيث أتبعها بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [2/244]، وصرح بما أشار إليه هنا في قوله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً } [33/16]، وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال؛ لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه، ولو فرض نجاته منه فهو ميت عن قريب، كما قال قعنب ابن أم صاحب: [المتقارب]
إذا أنت لاقيت في نجدة ... فلا تتهيبك أن تقدما
فإن المنية من يخشها ... فسوف تصادفه أينما
وإن تتخطك أسبابها ... فإن قصاراك أن تهرما
وقال زهير: [الطويل]
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطىء يعمر فيهرم
وقال أبو اطلطيب: [البسيط]
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا
ولقد أجاد من قال: في الجبن عار وفي الإقدام مكرمة والمرء في الجبن لا ينجو من القدر
وهذا هو المراد بالآيات المذكورة، ويؤخذ من هذه الآية عدم جواز الفرار من الطاعون إذا وقع بأرض وأنت فيها، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الفرار من الطاعون وعن القدوم على الأرض التي هو فيها إذا كنت خارجا عنها.
تنبيه
لم تأت لفظة {أَلَمْ تَرَ} ونحوها في القرآن مما تقدمه لفظ {أَلَمْ} ، معداة إلا بالحرف الذي هو {إِلَى} . وقد ظن بعض العلماء أن ذلك لازم، والتحقيق عدم لزومه وجواز تعديته بنفسه دون حرف الجر، كما يشهد له قول امرىء القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} لم يبين هنا قدر هذه الأضعاف الكثيرة، ولكنه بين في موضع آخر أنها تبلغ سبعمائة ضعف وتزيد

(1/153)


--------------------------------------------------------------------------------

عن ذلك. وذلك في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [2/261].
قوله تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} لم يبين هنا شيئا مما علمه، وقد بين في مواضع أخر أن مما علمه صنعة الدروع كقوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [21/80]، وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ, أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [34/11،10].
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، يفهم من تأكيده هنا بان واللام أن الكفار ينكرون رسالته كما تقرر في فن المعاني، وقد صرح بهذا المفهوم في قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً} [13/43].
قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ، لم يبين هنا هذا الذي كلمه الله منهم وقد بين أن منهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [4/164]، وقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [7/144].
قال ابن كثير: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} ، يعني موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم، وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في "صحيح ابن حبان"، عن أبي ذر رضي الله عنه.
قال مقيده عفا الله عنه تكليم آدم الوارد في "صحيح ابن حبان" يبينه قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [2/35]، وأمثالها من الآيات فإنه ظاهر في أنه بغير واسطة الملك، ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه، فهو رسول إليها ــ بذلك.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} ، ما نصه: وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال: "نعم نبي مكلم" ، قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى اهـ.
وقال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [2/38]، في سورة "البقرة" ما نصه: لأن آدم كان هو النبي صلى الله عليه وسلم أيام حياته، بعد أن أهبط إلى

(1/154)


--------------------------------------------------------------------------------

الأرض، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنيا وهو، الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} ، أي: رسل اهـ محل الحجة منه بلفظه
وفيه وفي كلام ابن كثير المتقدم عن "صحيح ابن حبان" التصريح بأن آدم رسول وهو مشكل مع ما ثبت في حديث الشفاعة المتفق عليه من أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أول الرسل ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [4/163]، والظاهر أنه لا طريق للجمع إلا من وجهين:
الأول: أن آدم أرسل لزوجه وذريته في الجنة، ونوح أول رسول أرسل في الأرض، ويدل لهذا الجمع ما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما، ويقول: "ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض" ، الحديث. فقوله: "إلى أهل الأرض"، لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض، لكان ذلك الكلام حشوا، بل يفهم من مفهوم مخالفته ما ذكرنا. ويتأنس له بكلام ابن عطية الذي قدمنا نقل القرطبي له.
الوجه الثاني: أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه، ونوح هو أول رسول أرسل لقوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} [10/19]. أي: على الدين الحنيف، أي حتى كفر قوم نوح، وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} الآية [2/213]. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ، أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمدا صلى الله عليه وسلم كقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [17/79]، أو قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [34/28]، وقوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [7/158]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [25/1]، وأشار في مواضع أخر إلى أن منهم إبراهيم كقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [4/125]، وقوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [2/124]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [17/55]، وأشار في موضع آخر إلى أن منهم إدريس

(1/155)


--------------------------------------------------------------------------------

وهو قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [19/57]، وأشار هنا إلى أن منهم عيسى بقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [2/87].
تنبيه
في هذه الآية الكريمة، أعني قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية ، إشكال قوي معروف. ووجهه: أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله" ، وثبت أيضا في حديث أبي سعيد المتفق عليه: "لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة" الحديث، وفي رواية: "لا تفضلوا بين أنبياء الله" ، وفي رواية: "لا تخيروني من بين الأنبياء" .
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه: وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين أنبياء الله" ، رواها الأئمة الثقات، أي: لا تقولوا فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان، اهـ.
قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه: والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل، وفي هذا نظر.
الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع.
الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذا الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر.
الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية.
الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم، وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به،اهـ منه بلفظه.
وذكر القرطبي في "تفسيره" أجوبة كثيرة عن هذا الإشكال، واختار أن منع التفضيل في خصوص النبوة، وجوازه في غيرها من زيادة الأحوال والخصوص والكرامات فقد قال ما نصه: قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة هو التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل

(1/156)


--------------------------------------------------------------------------------

في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات.
وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [17/55]، قلت: وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض، إنما هو بما منح من الفضائل وأعطى من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال: إن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [21/29]، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [48/1،2]،
قالوا: فما فضله على الأنبياء ؟ قال: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [14/4]، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [34/28]، فأرسله إلى الجن والإنس، ذكره أبو محمد الدارمي في "مسنده"، وقال أبو هريرة: خير بني آدم نوح وإبراهطيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص من ابن عباس وأبي هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل؛ فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة، واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء به. اهـ محل الغرض منه بلفظه.
واختار ابن عطية كما نقله عنه القرطبي أن وجه الجمع جواز التفضيل إجمالا كقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" ، ولم يعين ومنع التفضيل على طريق الخصوص كقوله: "لا تفضلوني على موسى" ، وقوله: "لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" ، ونحو ذلك والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، يفهم من هذه الآية أن من أتبع إنفاقه المن والأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا في قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [2/262]. وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في

(1/157)


--------------------------------------------------------------------------------

قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} الآية [2/264].
قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [2/257]، صرح في هذه الآية الكريمة بأن الله ولي المؤمنين، وصرح في آية أخرى بأنه وليهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليهم، وأن بعضهم أولياء بعض، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [5/55]، وقال: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [9/71]، وصرح في موضع آخر بخصوص هذه الولاية للمسلمين دون الكافرين وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [47/11]، وصرح في موضع آخر بأن نبيه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو قوله تعالى : {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [33/6]، وبين في آية "البقرة" هذه، ثمرة ولايته تعالى للمؤمنين، وهي إخراجه لهم من الظلمات إلى النور بقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [2/257]، وبين في موضع آخر أن من ثمرة ولايته إذهاب الخوف والحزن عن أوليائه، وبين أن ولايتهم له تعالى بإيمانهن وتقواهم، وذلك في قوله تعالى : {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [10/63،62]، وصرح في موضع آخر أنه تعالى ولي نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنه أيضا يتولى الصالحين، وهو قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [7/196].
قوله تعالى: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} , المراد بالظلمات الضلالة، وبالنور الهدى، وهذه الآية يفهم منها أن طرق الضلال متعددة؛ لجمعه الظلمات وأن طريق الحق واحدة؛ لإفراده النور، وهذا المعنى المشار إليه هنا بينه تعالى في مواضع أخر كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [6/153].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية، ما نصه: ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [6/1]، وقال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [70/37]، إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد

(1/158)


--------------------------------------------------------------------------------

الحق وانتشار الباطل وتعدده وتشعبه منه بلفظه.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}، قال بعض العلماء : {الطَّاغُوتُ } الشيطان ويدل لهذا قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [3/175]، أي يخوفكم من أوليائه. وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [4/76]، وقوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} الآية [18/50]، وقوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ} الآية [7/30]، والتحقيق أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت والحظ الأكبر من ذلك للشيطان، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية [36/60]، وقال: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} [4/117]، وقال عن خليله إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} الآية [19/44]، وقال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [6/121]. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}، بين أن المراد بـ {الَّذِي} الذين بقوله: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [2/264].
قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [2/273]. لم يبين ه
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://www.facebook.com/5abr.3ala.sari3
 
تفسير اضواء البيان سورة البقرة 8
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 1
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 2
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 3
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 4
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 5

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كنوز النت الإسلامية :: © الأقسام الإسلامية © :: ©تحفيظ وتفسير القرآن الكريم©-
انتقل الى: