كنوز النت الإسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كنوز النت الإسلامية

منتديات كنوز النت الإسلامية لنشر علوم الدنيا والدين
 
الرئيسيةبوابة كنوز النتمكتبة الصورس .و .جبحـثالأعضاءالمجموعاتالتسجيلدخول

 

 تفسير اضواء البيان سورة البقرة 3

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد الازهرى
المستشار القانوني للمنتديات
المستشار القانوني للمنتديات
محمد الازهرى


ذكر عدد الرسائل : 3286
تاريخ الميلاد : 20/10/1982
العمر : 42
نقاط : 13044
تاريخ التسجيل : 29/05/2010

تفسير اضواء البيان سورة البقرة 3 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان سورة البقرة 3   تفسير اضواء البيان سورة البقرة 3 Emptyالجمعة 18 يونيو 2010, 6:25 am

واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس، وقد صرح بهذا في قوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [31/28].
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} الآية لم يبين هنا سبب قسوة قلوبهم، ولكنه أشار إلى ذلك في مواضع أخر كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [5/13]، وقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية [57/16].
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} اختلف العلماء في المراد بـ {الأماني} هنا على قولين.
أحدهما: أن المراد بالأمنية القراءة، أي: لا يعلمون من الكتاب إلا قراءة ألفاظ دون إدراك معانيها. وهذا القول لا يتناسب مع قوله {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} [2/78]؛ لأن الأمي لا يقرأ.
الثاني: أن الاستثناء منقطع، والمعنى لا يعلمون الكتاب، لكن يتمنون أماني باطلة، ويدل لهذا القول: قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [2/111]، وقوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [4/123].
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية ، يعني: تقتلون إخوانكم، ويبين أن ذلك هو المراد، كثرة وروده كذلك في القرآن نحو قوله: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [49/11]، أي: لا يلمز أحدكم أخاه وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [24/12]، أي بإخوانهم وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [2/54]، أي: بأن يقتل البرىء من عبادة العجل من عبده منهم إلى غير ذلك من الآيات.
ويوضح هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم، كمثل الجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" .
قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ، يتبين مما قبله أن البعض الذي آمنوا به هو فداء الأسارى منهم، والبعض الذي كفروا به هو إخراجهم من ديارهم وقتلهم ومظاهرة العدو عليهم، وإن كفروا بغير هذا من الكتاب وآمنوا بغيره منه.

(1/39)


--------------------------------------------------------------------------------

قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} ، لم يبين هنا ما هذه البينات ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [3/49]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِِ الْقُدُسِ} هو جبريل على الأصح، ويدل لذلك قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} الآية [26/193]، وقوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} الآية [19/17].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} , لم يبين هنا ما هذه البينات وبينها في مواضع أخر كقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [7/133]، وقوله: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} الآية [26/33،32]، وقوله : {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} الآية [26/63]. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} الآية, قال بعض العلماء هو من السمع بمعنى الإجابة ومنه قولهم سمعا وطاعة أي: إجابة، وطاعة ومنه: سمع الله لمن حمده في الصلاة. أي: أجاب دعاء من حمده، ويشهد لهذا المعنى قوله : {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [24/51]، وهذا قول الجمهور وقيل: إن المراد بقوله {وَاسْمَعُوا} أي: بآذنكم ولا تمتنعوا من أصل الاستماع.
ويدل لهذا الوجه: أن بعض الكفار ربما امتنع من أصل الاستماع خوف أن يسمع كلام الأنبياء، كما في قوله تعالى عن نوح مع قومه: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [71/7].
وقوله عن قوم نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [41/26]، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ

(1/40)


--------------------------------------------------------------------------------

الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [22/72]، وقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [2/93]؛ لأن السمع الذي لا ينافي العصيان هو السمع بالآذان دون السمع بمعنى الإجابة.
قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} ، معنى الآية: أن أحد المذكورين يتمنى أن يعيش ألف سنة وطول عمره لا يزحزحه، أي: لا يبعده عن العذاب فالمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله: {أَنْ يُعَمَّرَ} فاعل اسم الفاعل الذي هو مزحزحه على أصح الأعاريب وفي لو، من قوله: {لَوْ يُعَمَّرُ} ، وجهان:
الأول: وهو قول الجمهور أنها حرف مصدري، وهي وصلتها في تأويل مفعول به ليود، والمعنى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} أي: يتمنى تعمير ألف سنة، ولو: قد تكون حرفا مصدريا لقول قتيلة بنت الحارث:
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
أي: ما كان ضرك منه.
وقال بعض العلماء: إن {لَوْ} هنا هي الشرطية والجواب محذوف وتقديره: لو يعمر ألف سنة، لكان ذلك أحب شيء إليه، وحذف جواب {لَوْ} مع دلالة المقام عليه واقع في القرآن، وفي كلام العرب فمنه في القرآن. قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [102/5]، أي: لو تعلمون علم اليقين لما {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [102/1]. وقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِِ الْجِبَالُ} [13/31]، أي: لكان هذا القرآن أو لكفرتم بالرحمن. ومنه في كلام العرب قول الشاعر: [الطويل]
فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أي لو شيء أتانا رسوله سواك لدفعناه. إذا عرفت معنى الآية فاعلم أن الله قد أوضح هذا المعنى مبينا أن الإنسان لو متع ما متع من السنين ثم انقضى ذلك المتاع وجاءه العذاب أن ذلك المتاع الفائت لا ينفعه، ولا يغني عنه شيئا بعد انقضائه وحلول العذاب محله. وذلك في قوله: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [26/207،206،205]، وهذه هي

(1/41)


--------------------------------------------------------------------------------

أعظم آية في إزالة الداء العضال الذي هو طول الأمل. كفانا الله والمؤمنين شره.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . ظاهر هذه الآية أن جبريل ألقى القرآن في قلب النبي صلى الله عليه وسلم من غير سماع قراءة ونظيرها في ذلك قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} الآية [26/194،193]. ولكنه بين في مواضع أخر أن معنى ذلك أن الملك يقرؤه عليه حتى يسمعه منه، فتصل معانيه إلى قلبه بعد سماعه وذلك هو معنى تنزيله على قلبه. وذلك كما في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [75/19،16]، وقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [20/114].
قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ} ، ذكر في هذه الآية أن اليهود كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم وصرح في موضع آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعاهد لهم وأنهم ينقضون عهدهم في كل مرة، وذلك في قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [8/56،55]، وصرح في آية أخرى بأنهم أهل خيانة إلا القليل منهم، وذلك في قوله: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاًٌ مِنْهُمْ} [5/13].
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} الآية، ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من اليهود نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ولم يؤمنوا به، وبين في موضع آخر أن هؤلاء الذين لم يؤمنوا بالكتاب هم الأكثر، وذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [3/110].
قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} ، لم يبين هنا هذا الذي سئل موسى من قبل ما هو؟ ولكنه في موضع آخر. وذلك في قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} الآية [4/153]
قوله تعالى: {الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ} ، هذه الآية في أهل الكتاب كم

(1/42)


--------------------------------------------------------------------------------

هو واضح من السياق، والأمر في قوله: {بأَمْرِهِ}.
قال بعض العلماء: هو واحد الأوامر. وقال بعضهم: هو واحد الأمور، فعلى القول الأول: بأنه الأمر الذي هو ضد النهي؛ فإن الأمر المذكور هو المصرح به في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [9/29]. وعلى القول بأنه واحد الأمور: فهو ما صرح الله به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل والتشريد كقوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ} الآية [59/3،2]. إلى غير ذلك من الآيات، والآية غير منسوخة على التحقيق.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} الآية.
قال بعض العلماء: نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام ست.
وعلى هذا القول: فالخراب معنوي، وهو خراب المساجد بمنع العبادة فيها. وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية [48/25].
وقال بعض العلماء: الخراب المذكور هو الخراب الحسي. والآية نزلت فيمن خرب بيت المقدس، وهو بختنصر أو غيره وهذا القول يبينه ويشهد له قوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً } [17/7].
قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} هذا الولد المزعوم على زاعمه لعائن الله، قد جاء مفصلا في آيات أخر كقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [9/30]، وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية [16/57].
{قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} يفهم من هذه الآية أن الله علم أن من

(1/43)


--------------------------------------------------------------------------------

ذرية إبراهيم ظالمين. وقد صرح تعالى في مواضع أخر بأن منهم ظالما وغير ظالم. كقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [37/113]، وقوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} الآية [43/28].
قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} ذكر في هذه الآية رفع إبراهيم وإسماعيل لقواعد البيت. وبين في سورة "الحج" أنه أراه موضعه بقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [22/26]، أي: عينا له محله وعرفناه به. قيل: دله عليه بمزنة كان ظلها قدر مساحته، وقيل: دله عليه بريح تسمى الحجوج كنست عنه حتى ظهر أسمه القديم فبنى عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} , لم يبين هنا من هذه الأمة التي أجاب الله بها دعاء نبيه إبراهيم وإسماعيل، ولم يبين هنا أيضا هذا الرسول المسؤول بعثه فيهم من هو ؟ ولكنه يبين في سورة الجمعة أن تلك الأمة العرب، والرسول هو سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [62/3،2]؛ لأن الأميين العرب بالإجماع. والرسول المذكور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إجماعا. ولم يبعث رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده.
وثبت في الصحيح أنه هو الرسول الذي دعا به إبراهيم ولا ينافي ذلك عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الأسود والأحمر.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} الآية، لم يبين هنا ما ملة إبراهيم وبينها بقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [6/161]، فصرح في هذه الآية بأنها دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم. وكذا في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الآية [16/123].
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} ، أشار إلى أنه دين الإسلام هنا بقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، وصرح بذلك في قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}

(1/44)


--------------------------------------------------------------------------------

[3/19]، وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [3/85].
قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} لم يبين هنا هذا الذي أنزل إلى إبراهيم، ولكنه بين في سورة "الأعلى" أنه صحف وأن من جملة ما في تلك الصحف: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [87/17،16] وذلك في قوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [87/19،18].
وذلك في قوله: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} لم يبين هنا ما أوتيه موسى وعيسى، ولكنه بينه في مواضع أخر. فذكر أن ما أوتيه موسى هو التوراة المعبر عنها بالصحف في قوله: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} ، وذلك كقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [6/154] وهو التوراة بالإجماع. وذكر أن ما أوتيه عيسى هو الإنجيل كما في قوله: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ} [57/27].
قوله تعالى: {النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في هذه الآية أن يؤمنوا بما أوتيه جميع النبيين وأن لا يفرقوا بين أحد منهم، حيث قال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} إلى قوله: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، ولم يذكر هنا هل فعلوا ذلك أو لا ؟ ولم يذكر جزاءهم إذا فعلوه ولكنه بين كل ذلك في غير هذا الموضع. فصرح بأنهم امتثلوا الأمر بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [2/285]، وذكر جزاءهم على ذلك بقوله : {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [4/152]
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لم يبين هنا الصراط المستقيم. ولكنه بينه بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [1/7].
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} الآية ، أي: خيارا عدولا. ويدل لأن الوسط الخيار العدول. قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [3/110]، وذلك

(1/45)


--------------------------------------------------------------------------------

معروف في كلام العرب ومنه قول زهير:
هم وسط يرضى الأنام لحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ، لم يبين هنا هل هو شهيد عليهم في الدنيا أو الآخرة ؟ ولكنه بين في موضع آخر: أنه شهيد عليهم في الآخرة وذلك في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [4/42,41].
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} الآية. ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون. وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [3/154]، فقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، بعد قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ} ، دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئا لم يكن عالما به، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، ومعنى {إِلَّا لِنَعْلَمَ} أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس. أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى.
وقوله: {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} أشار إلى أن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم بقوله مخاطبا له: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} الآية ؛ لأن هذا الخطاب له إجماعا.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ} أي صلاتكم إلى بيت المقدس على الأصح ويستروح ذلك من قوله قبله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} الآية ، ولا سيما على القول باعتبار دلالة الاقتران، والخلاف فيها معروف في الأصول.
قوله تعالى: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} , بينه قوله بعده: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [2/144].
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} لم يبين هنا ما اللاعنون،

(1/46)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكنه أشار إلى ذلك في قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [2/161].
قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية ،لم يبين هنا وجه كونهما آية، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر، كقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [50/8،7،6]، وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [67/5،4،3]. وقوله في الأرض: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [67/15].
قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} لم يبين هنا وجه كون اختلافهما آية، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [28/73،72،71]. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} لم يبين هنا كيفية تسخيره، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [7/57]، وقوله : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِه} [24/43].
قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} الآية، المراد بالذين ظلموا الكفار وقد بين ذلك بقوله في آخر الآية: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [167]، ويدل لذلك قوله تعالى عن لقمان مقررا له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [31/13]،

(1/47)


--------------------------------------------------------------------------------

وقوله جل وعلا: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [2/254]، وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [10/106].
قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الآية ، أشار هنا إلى تخاصم أهل النار. وقد بين منه غير ما ذكر هنا في مواضع أخر كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً} [34/33،32،31]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، لم يذكر هنا ما يترتب على اتباع خطواته من الضرر، ولكنه أشار إلى ذلك في سورة "النور"، بقوله: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الآية [24/21].
قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} لم يبين هنا هذا الذي يقولونه عليه بغير علم، ولكنه فصله في مواضع أخر فذكر أن ذلك الذي يقولونه بغير علم هو أن الله حرم البحائر والسوائب ونحوها، وأن له أولادا، وأن له شركاء، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. فصرح بأنه لم يحرم ذلك بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [5/103]، وقوله: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} الآية [6/104]. وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً} الآية [10/59]. وقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [16/116]، إلى غير ذلك من الآيات. ونزه نفسه عن الشركاء المزعومة بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [10/18]، ونحوها من الآيات ونزه نفسه عن الأولاد المزعومة بقوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} [2/116]. ونحوها من الآيات فظهر من هذه الآيات تفصيل، {مَا} أجمل في اسم الموصول الذي هو {مَا} ، من قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .

(1/48)


--------------------------------------------------------------------------------

قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} ، ظاهر هذه الآية أن جميع أنواع الميتة والدم حرام، ولكنه بين في موضع آخر أن ميتة البحر خارجة عن ذلك التحريم وهو قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} الآية [5/96]. إذ ليس للبحر طعام غير الصيد إلا ميتته. وما ذكره بعض العلماء من أن المراد بطعامه قديده المجفف بالملح مثلا، وأن المراد بصيده الطري منه. فهو خلاف الظاهر؛ لأن القديد من صيده فهو صيد جعل قديدا وجمهور العلماء على أن المراد بطعامه ميتته. منهم: أبو بكر الصديق، وزيد بن ثابت، وعبد الله ابن عمر، وأبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وعكرمة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري وغيرهم. كما نقله عنهم ابن كثير. وأشار في موضع آخر إلى أن غير المسفوح من الدماء ليس بحرام وهو قوله: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [6/145]، فيفهم منه أن غير المسفوح كالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم ليس بحرام، إذ لو كان كالمسفوح لما كان في التقييد بقوله: {مَسْفُوحاً}.
فائدة
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أحل له ولأمته ميتتين ودمين، أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في الأنعام إن شاء الله تعالى.
وعنه صلى الله عليه وسلم في البحر "هو الحل ميتته" أخرجه مالك وأصحاب "السنن" والإمام أحمد، والبيهقي والدارقطني في سننهما، والحاكم في "المستدرك"، وابن الجارود في "المنتقى"، وابن أبي شيبة،وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والبخاري.
وظاهر عموم هذا الحديث وعموم قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ } ، يدل على إباحة ميتة البحر مطلقا. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه أنه أكل من العنبر، وهو حوت ألقاه البحر ميتا وقصته مشهورة.
وحاصل تحرير فقه هذه المسألة: أن ميتة البحر على قسمين: قسم لا يعيش إلا في الماء، وإن أخرج منه مات كالحوت. وقسم يعيش في البر، كالضفادع ونحوها.
أما الذي لا يعيش إلا في الماء كالحوت. فميتته حلال عند جميع العلماء

(1/49)


--------------------------------------------------------------------------------

وخالف أبو حنيفة رحمه الله، فيما مات منه في البحر وطفا على وجه الماء. فقال فيه: هو مكروه الأكل، بخلاف ما قتله إنسان أو حسر عنه البحر فمات، فإنه مباح الأكل عنده.
وأما الذي يعيش في البر، من حيوان البحر: كالضفادع، والسلحفاة، والسرطان وترس الماء. فقد اختلف فيه العلماء. فذهب مالك بن أنس إلى أن ميتة البحر من ذلك كله مباحة الأكل، وسواء مات بنفسه أو وجد طافيا أو باصطياد، أو أخرج حيا، أو ألقي في النار، أو دس في طين.
وقال ابن نافع، وابن دينار: ميتة البحر مما يعيش في البر نجسة.
ونقل ابن عرفة قولا ثالثا بالفرق بين أن يموت في الماء، فيكون طاهرا، أو في البر فيكون نجسا؛ وعزاه لعيسى عن ابن القاسم. والضفادع البحرية عند مالك مباحة الأكل، وإن ماتت فيه.
وفي "المدونة": ولا بأس بأكل الضفادع وإن ماتت؛ لأنها من صيد الماء. اهـ.
أما ميته الضفادع البرية فهي حرام بلا خلاف بين العلماء، وأظهر الأقوال منع الضفادع مطلقا ولو ذكيت، لقيام الدليل على ذلك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
أما كلب الماء وخنزيره فالمشهور من مذهب مالك فيهما الكراهة.
قال خليل بن إسحق المالكي في "مختصره"، عاطفا على ما يكره، وكلب ماء وخنزيره.
وقال الباجي: أما كلب البحر وخنزيره، فروى ابن شعبان أنه مكروه وقاله ابن حبيب.
وقال ابن القاسم في "المدونة": لم يكن مالك يجيبنا في خنزير الماء بشيء، ويقول: أنتم تقولون خنزير.
وقال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولو أكله رجل لم أره حراما هذا هو حاصل مذهب مالك في المسألة، وحجته في إباحة ميتة الحيوان البحري كان يعيش في البر أو لا.
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [5/96]، ولا طعام له غير صيده إلا ميتته، كما قاله جمهور العلماء، وهو الحق ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في البحر:

(1/50)


--------------------------------------------------------------------------------

"هو الطهور ماؤه الحل ميتته" ، وقد قدمنا ثبوت هذا الحديث وفيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن ميتة البحر حلال، وهو فصل في محل النزاع. وقد تقرر في الأصول أن المفرد إذا أضيف إلى معرفة كان من صيغ العموم. كقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [24/63]، وقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } [14/34].
وإليه أشار في "مراقي السعود"، بقوله عاطفا على صيغ العموم: [الرجز]
...................... ... وما معرفا بأل قد وجدا
أو بإضافة إلى معرف ... إذا تحقق الخصوص قد نفى
وبه نعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم "ميتته" يعم بظاهره كل ميتة مما في البحر.
ومذهب الشافعي رحمه الله في هذه المسألة هو أن ما لا يعيش إلا في البحر فميتته حلال، بلا خلاف، سواء كان طافيا على الماء أم لا.
وأما الذي يعيش في البر من حيوان البحر فأصح الأقوال فيه وهو المنصوص عن الشافعي في "الأم"، و "مختصر المزني"، واختلاف العراقيين: أن ميتته كله حلال؛ للأدلة التي قدمنا آنفا ومقابله قولان:
أحدهما: منع ميتة البحري الذي يعيش في البر مطلقا.
الثاني: التفصيل بين ما يؤكل نظيره في البر، كالبقرة والشاة فتباح ميتة البحري منه، وبين ما لا يؤكل نظيره في البر كالخنزير والكلب فتحرم ميتة البحري منه، ولا يخفى أن حجة الأول أظهر لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الحل ميتته" وقوله تعالى: {وَطَعَامُهُ} ، كما تقدم.
وأما مذهب الإمام أحمد رحمه الله، فهو أن كل ما لا يعيش إلا في الماء فميتته حلال، والطافي منه وغيره سواء، وأما ما يعيش في البر من حيوان البحر فميتته عنده حرام، فلا بد من ذكاته إلا ما لا دم فيه؛ كالسرطان فإنه يباح عنده من غير ذكاة. واحتج لعدم إباحة ميتة ما يعيش في البر؛ بأنه حيوان يعيش في البر له نفس سائلة فلم يبح بغير ذكاة، كالطير.
وحمل الأدلة التي ذكرنا على خصوص ما لا يعيش إلا في البحر.اهـ.
وكلب الماء عنده إذا ذكي حلال، ولا يخفى أن تخصيص الأدلة العامة يحتاج

(1/51)


--------------------------------------------------------------------------------

إلى نص، فمذهب مالك والشافعي أظهر دليلا، والله تعالى أعلم.
ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن كل ما يعيش في البر لا يؤكل البحري منه أصلا؛ لأنه مستخبث. وأما ما لا يعيش إلا في البحر وهو الحوت بأنواعه فميتته عنده حلال، إلا إذا مات حتف أنفه في البحر وطفا على وجه الماء، فإنه يكره أكله عنده، فما قتله إنسان أو حسر عنه البحر فمات حلال عنده، بخلاف الطافي على وجه الماء. وحجته فيما يعيش في البر منه: أنه مستخبث، والله تعالى يقول: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [7/157]، وحجته في كراهة السمك الطافي ما رواه أبو داود في "سننه": حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي، حدثنا إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ألقي البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه" .اهـ.
قال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري، وأيوب، وحماد عن أبي الزبير أوقفوه على جابر.
وقد أسند هذا الحديث أيضا من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.اهـ.
وأجاب الجمهور عن الاحتجاج الأول بأن ألفاظ النصوص عامة في ميتة البحر، وأن تخصيص النص العام لا بد له من دليل من كتاب أو سنة يدل على التخصيص، كما تقدم.
ومطلق ادعاء أنه خبيث لا يرد به عموم الأدلة الصريحة في عموم ميتة البحر، وعن الاحتجاج الثاني بتضعيف حديث جابر المذكور.
قال النووي في "شرح المهذب"، ما نصه: وأما الجواب عن حديث جابر الذي احتج به الأولون فهو أنه حديث ضعيف باتفاق الحفاظ لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شيء، فكيف وهو معارض بما ذكرناه من دلائل الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة رضي الله عنهم المنتشرة ؟.
وهذا الحديث من رواية يحيى بن سليم الطائفي، عن إسمعيل بن أمية، عن أبي الزبير عن جابر.
قال البيهقي: يحيى بن سليم الطائفي كثير الوهم سيىء الحفظ. قال: وقد رواه

(1/52)


--------------------------------------------------------------------------------

غيره عن إسماعيل بن أمية موقوفا على جابر. قال: وقال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث، فقال: ليس هو بمحفوظ، ويروى عن جابر خلافه. قال: ولا أعرف لأثر ابن أمية عن أبي الزبير شيئا.
قال البيهقي: وقد رواه أيضا يحيى بن أبي أنيسة عن أبي الزبير مرفوعا، ويحيى بن أبي أنيسة متروك لا يحتج به. قال: ورواه عبد العزيز بن عبيد الله، عن وهب بن كيسان عن جابر مرفوعا، وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به، قال: ورواه بقية بن الوليد عن الأوزاعي عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا، ولا يحتج بما ينفرد به بقية، فكيف بما يخالف ؟ قال: وقول الجماعة من الصحابة على خلاف قول جابر مع ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" . اهـ.
وقال البيهقي في "السنن الكبرى" في باب "من كره أكل الطافي" ما نصه: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن فيروز، حدثنا محمد بن إسماعيل الحساني، حدثنا ابن نمير، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أنه كان يقول:"ما ضرب به البحر أو جزر عنه أو صيد فيه فكل، وما مات فيه ثم طفا فلا تأكل". وبمعناه رواه أبو أيوب السختياني وابن جريج، وزهير بن معاوية، وحماد بن سلمة، وغيرهم عن أبي الزبير عن جابر موقوفا وعبد الرزاق وعبد الله بن الوليد العدني،
وأبو عاصم، ومؤمل بن إسماعيل وغيرهم، عن سفيان الثوري موقوفا، وخالفهم أبو أحمد الزبيري فرواه عن الثوري مرفوعا وهو واهم فيه، أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، أنبأ سليمان بن أحمد اللخمي، حدثنا علي بن إسحاق الأصبهاني، حدثنا نصر بن علي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إذا طفا السمك على الماء فلا تأكله، وإذا جزر عنه البحر فكله، وما كان على حافته فكله" . قال سليمان: لم يرفع هذا الحديث عن سفيان إلا أبو أحمد، ثم ذكر البيهقي بعد هذا الكلام حديث أبي داود الذي قدمنا، والكلام الذي نقلناه عن النووي.
قال مقيده عفا الله عنه فتحصل: أن حديث جابر في النهي عن أكل السمك الطافي ذهب كثير من العلماء إلى تضعيفه وعدم الاحتجاج به. وحكى النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه كما قدمنا عنه، وحكموا بأن وقفه على جابر أثبت. وإذن فهو قول صحابي معارض بأقوال جماعة من الصحابة منهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه

(1/53)


--------------------------------------------------------------------------------

وبالآية والحديث المتقدمين. وقد يظهر للناظر أن صناعة علم الحديث والأصول لا تقتضي الحكم برد حديث جابر المذكور؛ لأن رفعه جاء من طرق متعددة وبعضها صحيح، فرواية أبي داود له مرفوعا التي قدمنا، ضعفوها بأن في إسنادها يحيى بن سليم الطائفي، وأنه سيىء الحفظ.
وقد رواه غيره مرفوعا مع أن يحيى بن سليم المذكور من رجال البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، ورواية أبي أحمد الزبيري له عن الثوري مرفوعا عند البيهقي والدارقطني، ضعفوها بأنه واهم فيها. قالوا: خالفه فيها وكيع وغيره، فرووه عن الثوري موقوفا.
ومعلوم أن أبا أحمد الزبيري المذكور وهو محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمرو بن درم الأسدي ثقة ثبت. وإن قال ابن حجر في "التقريب": إنه قد يخطىء في حديث الثوري فهاتان الروايتان برفعه تعضدان برواية بقية بن الوليد له مرفوعا عند البيهقي وغيره، وبقية المذكور من رجال مسلم في "صحيحه"، وإن تكلم فيه كثير من العلماء. ويعتضد ذلك أيضا برواية عبد العزيز بن عبيد الله له، عن وهب بن كيسان، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا.
ورواية يحيى بن أبي أنيسة له عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا، وإن كان عبد العزيز بن عبيد الله ويحيى بن أبي أنيسة المذكوران ضعيفين؛ لاعتضاد روايتهما برواية الثقة، ويعتضد ذلك أيضا برواية ابن أبي ذئب له، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا عند الترمذي وغيره. فالظاهر أنه لا ينبغي أن يحكم على حديث جابر المذكور بأنه غير ثابت؛ لما رأيت من طرق الرفع التي روي بها. وبعضها صحيح كرواية أبي أحمد المذكورة والرفع زيادة، وزيادة العدل مقبولة.
قال في "مراقي السعود": [الرجز]
والرفع والوصل وزيد اللفظ ... مقبولة عند أمام الحفظ
إلخ... نعم لقائل أن يقول: هو معارض بما هو أقوى منه؛ لأن عموم قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم في البحر:" هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" أقوى من حديث جابر هذا؛ ويؤيد ذلك اعتضاده بالقياس؛ لأنه لا فرق في القياس بين الطافي وغيره. وقد يجاب عن هذا بأنه لا يتعارض عام وخاص،

(1/54)


--------------------------------------------------------------------------------

وحديث جابر في خصوص الطافي فهو مخصص لعموم أدلة الإباحة.
فالدليل على كراهة أكل السمك الطافي لا يخلو من بعض قوة، والله تعالى أعلم. والمراد بالسمك الطافي هو الذي يموت في البحر فيطفو على وجه الماء وكل ما علا على وجه الماء ولم يرسب فيه تسميه العرب طافيا. ومن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: [الوافر]
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمين 1
ويحكى في نوادر المجانين أن مجنونا مر به جماعة من بني راسب، وجماعة من بني طفاوة يختصمون في غلام، فقال لهم المجنون: القوا الغلام في البحر فإن رسب فيه فهو من بني راسب، وإن طفا على وجهه فهو من بني طفاوة.
وقال البخاري في "صحيحه"، باب قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} [5/96]. قال عمر: صيده ما اصطيد وطعامه ما رمى به.
وقال أبو بكر: الطافي حلال، وقال ابن عباس طعامه ميتته إلا ما قذرت منها، والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله.
وقال شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء في البحر مذبوحه، وقال عطاء: أما الطير فأرى أن نذبحه.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو ؟ قال: نعم، ثم تلا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} [35/12]. وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء. وقال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم. ولم ير الحسن بالسلحفاة بأسا.
وقال ابن عباس: كل من صيد البحر نصراني أو يهودي أو مجوسي. وقال أبو الدرداء في المري ذبح الخمر النينان والشمس. انتهى من البخاري بلفظه. ومعلوم أن البخاري رحمه الله لا يعلق بصيغة الجزم إلا ما كان صحيحا ثابتا عنده.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، في الكلام على هذه المعلقات التي ذكرها البخاري ما نصه: قوله: قال عمر، هو ابن الخطاب، "صيده" ما اصطيد، و "طعامه" ما رمى به. وصله المصنف في "التاريخ"، وعبد بن حميد من طريق
ـــــــ
1 فوق العرش, بلا كيف,على ما يليق به تعالى.

(1/55)


--------------------------------------------------------------------------------

عمر بن أبي سلمة عن أبيه، عن أبي هريرة قال: لما قدمت البحرين سألني أهلها عما قذف البحر ؟ فأمرتهم أن يأكلوه. فلما قدمت على عمر فذكر قصة. قال: فقال عمر: قال الله تعالى في كتابه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [5/96]، فصيده: ما صيد، وطعامه: ما قذف به. قوله: وقال أبو بكر، هو الصديق، الطافي حلال، وصله، أبو بكر بن أبي شيبة، والطحاوي والدارقطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية حلال. زاد الطحاوي: لمن أراد أكله، وأخرجه الدارقطني، وكذا عبد بن حميد والطبري منها. وفي بعضها أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء، وللدارقطني من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بكر: أن الله ذبح لكم ما في البحر فكلوه كله فإنه ذكي.
قوله: وقال ابن عباس: طعامه ميتته إلا ما قذرت منها، وصله الطبري من طريق أبي بكر بن حفص عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} ، قال طعامه: ميتته. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عباس، وذكر صيد البحر لا تأكل منه طافيا في سنده الأجلح وهو لين، ويوهنه حديث ابن عباس الماضي قبله، قوله: والجري لا تأكله اليهود، ونحن نأكله. وصله عبد الرزاق عن الثوري، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه سئل عن الجرى فقال: لا بأس به، إنما هو شيء كرهته اليهود. وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري به. وقال في روايته: سألت ابن عباس عن الجري، فقال: لا بأس به؛ إنما تحرمه اليهود ونحن نأكله، وهذا على شرط الصحيح. وأخرج عن علي وطائفة نحوه. والجرى، بفتح الجيم، قال ابن التين: وفي نسخة بالكسر، وهو ضبط الصحاح، وكسر الراء الثقيلة قال: ويقال له أيضا: الجريت، وهو ما لا قشر له.
وقال ابن حبيب من المالكية: إنما أكرهه؛ لأنه يقال: إنه من الممسوخ. وقال الأزهري: الجريت نوع من السمك يشبه الحيات. وقيل: سمك لا قشر له. ويقال له أيضا: المرماهي، والسلور مثله. وقال الخطابي: هو ضرب من السمك يشبه الحيات، وقال غيره: نوع عريض الوسط، دقيق الطرفين. قوله: وقال شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء في البحر مذبوح، وقال عطاء: أما الطير فأرى أن تذبحه، وصله المصنف في "التاريخ"، وابن منده في

(1/56)


--------------------------------------------------------------------------------

"المعرفة"، من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير أنهما سمعا شريحا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: كل شيء في البحر مذبوح. قال: فذكرت ذلك لعطاء. فقال: أما الطير فأرى أن تذبحه، وأخرجه الدارقطني وأبو نعيم في "الصحابة"، مرفوعا من حديث شريح، والموقوف أصح.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://www.facebook.com/5abr.3ala.sari3
 
تفسير اضواء البيان سورة البقرة 3
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 1
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 2
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 4
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 5
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 6

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كنوز النت الإسلامية :: © الأقسام الإسلامية © :: ©تحفيظ وتفسير القرآن الكريم©-
انتقل الى: