كنوز النت الإسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كنوز النت الإسلامية

منتديات كنوز النت الإسلامية لنشر علوم الدنيا والدين
 
الرئيسيةبوابة كنوز النتمكتبة الصورس .و .جبحـثالأعضاءالمجموعاتالتسجيلدخول

 

 تفسير اضواء البيان سورة البقرة 5

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد الازهرى
المستشار القانوني للمنتديات
المستشار القانوني للمنتديات
محمد الازهرى


ذكر عدد الرسائل : 3286
تاريخ الميلاد : 20/10/1982
العمر : 42
نقاط : 13044
تاريخ التسجيل : 29/05/2010

تفسير اضواء البيان سورة البقرة 5 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان سورة البقرة 5   تفسير اضواء البيان سورة البقرة 5 Emptyالجمعة 18 يونيو 2010, 6:28 am

والجمع واجب متى ما أمكنا ... إلا فللأخير نسخ بينا
وهو ممكن في الحديثين بحمل حديث الحجاج بن عمرو على ما إذا اشترط ذلك في الإحرام، فيتفق مع الحديثين الثابتين في الصحيح، فإن قيل: يمكن الجمع بين الأحاديث بغير هذا، وهو حمل أحاديث الاشتراط على أنه يحل من غير أن تلزمه حجة أخرى، وحمل حديث عكرمة عن الحجاج بن عمرو وغيره على أنه يحل، وعليه حجة أخرى، ويدل لهذا الجمع أن أحاديث الاشتراط ليس فيها ذكر حجة أخرى.
وحديث الحجاج بن عمرو، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "فقد حل وعليه حجة أخرى" .
فالجواب أن وجوب البدل بحجة أخرى أو عمرة أخرى لو كان يلزم، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقضوا عمرتهم التي صدهم عنها المشركون.
قال البخاري في "صحيحه"، في باب "من قال ليس على المحصر بدل" ما نصه: وقال مالك وغيره ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان، ولا قضاء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا، وحلوا من كل شيء قبل الطواف، وقبل أن يصل الهدي إلى البيت، ثم لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا أن يقضوا شيئا، ولا يعودوا له، والحديبية خارج من الحرم. انتهى منه بلفظه.
وقد قال مالك في "الموطأ"، إنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رءوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي،
ثم لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا، ولا يعودوا لشيء. انتهى بلفظه من "الموطأ". ولا يعارض ما ذكرنا بما رواه الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما، قالوا: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر، أو مات، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهدوا الحديبية، وكانت عدتهم ألفين"؛ لأن الشافعي رحمه الله، قال: والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت؛ لأنا علمنا من متواطىء أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معروفون، ثم اعتمر عمرة القضية، فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال اهـ.
فهذا الشافعي رحمه الله جزم بأنهم تخلف منهم رجال معروفون من غير ضرورة، في نفس، ولا مال. وقد تقرر في الأصول أن المثبت مقدم على النافي.

(1/81)


--------------------------------------------------------------------------------

وقال ابن حجر في "الفتح": ويمكن الجمع بين هذا إن صح، وبين الذي قبله، بأن الأمر كان على طريق الاستحباب؛ لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر.
وقال الشافعي في عمرة القضاء: إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة اهـ.
وروى الواقدي نحو هذا من حديث ابن عمر قاله ابن حجر.
وقال البخاري في "صحيحه" في الباب المذكور، ما نصه: "وقال روح عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع". انتهى محل الغرض منه بلفظه.
وقد ورد عن ابن عباس نحو هذا بإسناد آخر أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وفيه: فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه اهـ. فإذا علمت هذا وعلمت أن ابن عباس رضي الله عنهما ممن روي عنه عكرمة الحديث الذي روي عن الحجاج بن عمرو وأن راوي الحديث من أعلم الناس به، ولا سيما إن كان ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه التأويل، وهو مصرح بأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحجاج بن عمرو وعليه حجة أخرى، محله فيما إذا كانت عليه حجة الإسلام، تعلم أن الجمع الأول الذي ذكرنا هو المتعين، واختاره النووي وغيره من علماء الشافعية، وأن الجمع الأخير لا يصح؛ لتعين حمل الحجة المذكورة على حجة الإسلام اهـ.
وأما على قول من قال إنه لا إحصار إلا بالعدو خاصة وأن المحصر بمرض لا يحل حتى يبرأ ويطوف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم يحل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا، فيهدي أو يصوم، إن لم يجد هديا كما ثبت في "صحيح البخاري"، من حديث ابن عمر كما تقدم.
فهو من حيث أن المريض عندهم غير محصر، فهو كمن أحرم وفاته وقوف عرفة، يطوف ويسعى ويحج من قابل ويهدي، أو يصوم إن لم يجد هديا اهـ.
وفي المسألة قول رابع: وهو أنه لا إحصار بعد النبي صلى الله عليه وسلم بعذر كائنا ما كان وهو ضعيف جدا، ولا معول عليه عند العلماء؛ لأن حكم الإحصار منصوص عليه في

(1/82)


--------------------------------------------------------------------------------

القرآن والسنة ولم يرد فيه نسخ، فادعاء دفعه بلا دليل واضح السقوط كما ترى، هذا هو خلاصة البحث في قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [2/196].
وأما قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، فجمهور العلماء على أن المراد به شاة فما فوقها، وهو مذهب الأئمة الأربعة، وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال طاوس، وعطاء، ومجاهد، وأبو العالية، ومحمد بن علي بن الحسين، وعبد الرحمن بن القاسم، والشعبي، والنخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وقال جماعة من أهل العلم: إن المراد بما استيسر من الهدي إنما هو الإبل والبقر دون الغنم، وهذا القول مروي عن عائشة، وابن عمر، وسالم، والقاسم، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير، وغيرهم.
قال ابن كثير: والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة، وإنما ذبحوا الإبل والبقر.
ففي الصحيحين عن جابر قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة".
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: لا يخفى أن التحقيق في هذه المسألة: أن المراد بما استيسر من الهدي ما تيسر مما يسمى هديا، وذلك شامل لجميع الأنعام: من إبل، وبقر، وغنم، فإن تيسرت شاة أجزأت، والناقة والبقرة أولى بالإجزاء.
وقد ثبت في "الصحيحين"، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أهدى صلى الله عليه وسلم مرة غنما".
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول: إذا كان مع المحصر هدي لزمه نحره إجماعا، وجمهور العلماء على أنه ينحره في المحل الذي حصر فيه، حلا كان أو حرما، وقد نحر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحديبية، وجزم الشافعي وغيره بأن الموضع الذي نحروا فيه من الحديبية من الحل لا من الحرم، واستدل لذلك بدليل واضح من القرآن وهو قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [48/25]، فهو نص

(1/83)


--------------------------------------------------------------------------------

صريح في أن ذلك الهدي لم يبلغ محله، ولو كان في الحرم لكان بالغا محله، وروى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه، قال: "لما حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا بالحديبية، وبعث الله ريحا فحملت شعورهم فألقتها في الحرم"، وعقده أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في غزوة الحديبية بقوله: [الرجز]
ونحروا وحلقوا وحملت ... شعورهم للبيت ريح قد غلت
قال ابن عبد البر في "الاستذكار": فهذا يدل على أنهم نحروا في الحل، وتعقبه ابن حجر في "فتح الباري": بأنه يمكن أن يكونوا أرسلوا هديهم مع من ينحره في الحرم، قال: وقد ورد في ذلك حديث ابن جندب ابن جندب الأسلمي قال: قلت: "يا رسول الله، ابعث معي الهدي حتى أنحره في الحرم". أخرجه النسائي من طريق إسرائيل عن مجزأة بن زاهر، عن ناجية، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن إسرائيل، لكن قال عن ناجية عن أبيه: لكن لا يلزم من وقوع هذا وجوبه، بل ظاهر القصة أن أكثرهم نحر في مكانه وكانوا في الحل وذلك دال على الجواز والله أعلم، انتهى كلام ابن حجر. وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة رحمه الله الجمهور، وقال: لا ينحر المحصر هديه إلا في الحرم، فيلزمه أن يبعث به إلى الحرم، فإذا بلغ الهدي محله حل، وقال: إن الموضع الذي نحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية من طرف الحرم، واستدل بقوله بعد هذه الآية: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [2/196]، ورد هذا الاستدلال بما قدمنا من أنه نحر في الحل. وأن القرآن دل على ذلك، وأن قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} ، معطوف على قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، لا على قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، أو أن المراد بمحله المحل الذي يجوز نحره فيه وذلك بالنسبة إلى المحصر حيث أحصر ولو كان في الحل.
قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أنه إن استطاع إرسال الهدي إلى الحرم أرسله ولا يحل حتى يبلغ الهدي محله، إذ لا وجه لنحر الهدي في الحل مع تيسر الحرم، وإن كان لا يستطيع إرساله إلى الحرم نحره في المكان الذي أحصر فيه من الحل.
قال البخاري في "صحيحه"، في"باب من قال ليس على المحصر بدل" ما نصه:

(1/84)


--------------------------------------------------------------------------------

وقال روح عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما:"إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عذر أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع".
وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله اهـ، محل الغرض منه بلفظه ولا ينبغي العدول عنه؛ لظهور وجهه كما ترى.
الفرع الثاني: إذا لم يكن مع المحصر هدي فهل عليه أن يشتري الهدي ولا يحل حتى يهدي، أو له أن يحل بدون هدي ؟ ذهب جمهور العلماء إلى أن الهدي واجب عليه لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، فلا يجوز له التحلل بدونه إن قدر عليه، ووافق الجمهور أشهب من أصحاب مالك، وخالف مالك وابن القاسم الجمهور في هذه المسألة، فقالا لا هدي على المحصر إن لم يكن ساقه معه قبل الإحصار.
وحجة الجمهور واضحة وهي قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، فتعليقه ما استيسر من الهدي على الإحصار تعليق الجزاء على شرطه، يدل على لزوم الهدي بالإحصار لمن أراد التحلل به، دلالة واضحة كما ترى، فإن عجز المحصر عن الهدي فهل يلزمه بدل عنه أو لا ؟.
قال بعض العلماء: لا بدل إن عجز عنه، وممن قال لا بدل لهدي المحصر أبو حنيفة رحمه الله، فإن المحصر عنده إذا لم يجد هديا يبقى محرما حتى يجد هديا، أو يطوف بالبيت.
وقال بعض من قال بأنه لا بدل له، إن لم يجد هديا حل بدونه، وإن تيسر له بعد ذلك هدي أهداه.
وقال جماعة إن لم يجد الهدي فله بدل، واختلف أهل هذا القول في بدل الهدي.
فقال بعضهم: هو صوم عشرة أيام قياسا على من عجز عما استيسر من الهدي في التمتع، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد، وهو إحدى الروايات عن الشافعي، وأصح الروايات عند الشافعية في بدل هدي المحصر أنه بالإطعام، نص عليه الشافعي في "كتاب الأوسط"، فتقوم الشاة ويتصدق بقيمتها طعاما، فإن عجز صام عن كل مد يوما، وقيل إطعام كإطعام فدية الأذى وهو ثلاثة آصع لستة مساكين، وقيل: بدله صوم ثلاثة أيام،

(1/85)


--------------------------------------------------------------------------------

وقيل بدله صوم بالتعديل، تقوم الشاة ويعرف قدر ما تساوي قيمتها من الأمداد، فيصوم عن كل يوم مدا، وليس على شيء من هذه الأقوال دليل واضح، وأقربها قياسه على التمتع والله تعالى أعلم.
الفرع الثالث: هل يلزم المحصر إذا أراد التحلل حلق أو تقصير أو لا يلزمه شيء من ذلك ؟
اختلف العلماء في هذا فذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله ومحمد إلى أنه لا حلق عليه ولا تقصير، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي، واحتج أهل هذا القول بأن الله قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ، ولم يذكر الحلق ولو كان لازما لبينه، واحتج أبو حنيفة ومحمد لعدم لزوم الحلق، بأن الحلق لم يعرف كونه نسكا إلا بعد أداء الأفعال، وقبله جناية، فلا يؤمر به، ولهذا العبد والمرأة إذا منعهما السيد والزوج لا يؤمران بالحلق إجماعا.
وعن الشافعي في حلق المحصر روايتان مبنيتان على الخلاف في الحلق، هل هو نسك أو إطلاق من محظور؟ وذهب جماعة من أهل العلم منهم مالك وأصحابه: إلى أن المحصر عليه أن يحلق.
قال مقيدة عفا الله عنه: الذي يظهر لنا رجحانه بالدليل: هو ما ذهب إليه مالك وأصحابه من لزوم الحلق، لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .
ولما ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم، أنه حلق لما صده المشركون عام الحديبية وهو محرم، وأمر أصحابه أن يحلقوا وقال: "اللهم ارحم المحلقين" ، قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: "اللهم ارحم المحلقين" ، قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: "والمقصرين" .
فهذه أدلة واضحة على عدم سقوط الحلق عن المحصر، وقياس من قال بعدم اللزوم، الحلق على غيره من أفعال النسك، التي صد عنها، ظاهر السقوط لأن الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة مثلا، كل ذلك منع منه المحصر وصد عنه، فسقط عنه؛ لأنه حيل بينه وبينه، ومنع منه.
وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه وهو قادر على أن يفعله؛ فلا وجه لسقوطه، ولا

(1/86)


--------------------------------------------------------------------------------

شك أن الذي تدل نصوص الشرع على رجحانه، أن الحلاق نسك على من أتم نسكه، وعلى من فاته الحج وعلى المحصر بعدو، وعلى المحصر بمرض.
وعلى القول الصحيح من أن الحلاق نسك، فالمحصر يتحلل بثلاثة أشياء: وهي النية، وذبح الهدي، والحلاق. وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك يتحلل بالنية والذبح.
الفرع الرابع: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نحر قبل أن يحلق في عمرة الحديبية، وفي حجة الوداع، ودل القرآن على أن النحر قبل الحلق في موضعين:
أحدهما: قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .
والثاني: قوله تعالى في سورة "الحج": {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [ الآية 28].
فالمراد بقوله: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} الآية [22/34]، ذكر اسمه تعالى عند نحر البدن إجماعا، وقد قال تعالى بعده عاطفا بثم التي هي للترتيب {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [22/29]. وقضاء التفث يدخل فيه بلا نزاع إزالة الشعر بالحلق، فهو نص صريح في الأمر بتقديم النحر على الحلق، ومن إطلاق التفث على الشعر ونحوه، قول أمية بن أبي الصلت: [ البسيط ]
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ... ولم يسلو لهم قملا وصئبانا
وروى بعضهم بيت أمية المذكور هكذا: وروى بعضهم هكذا: [البسيط]
ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا ... وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
ومنه قول الآخر: [الوافر]
قضو تفثا ونحبا ثم ساروا ... إلى نجد وما انتظروا عليا
فهذه النصوص تدل دلالة لا لبس فيها، على أن الحلق بعد النحر. ولكن إذا عكس الحاج أو المعتمر فحلق قبل أن ينحر، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أن ذلك لا حرج فيه، والتعبير بنفي الحرج يدل بعمومه على سقوط الإثم والدم معا، وقيل فيمن حلق قبل أن ينحر محصرا كان أو غيره، إنه عليه دم، فقد روى ابن أبي شيبة من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة، قال عليه دم.قال إبراهيم وحدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. ذكره في المحصر.

(1/87)


--------------------------------------------------------------------------------

قال الشوكاني في "نيل الأوطار": والظاهر عدم وجوب الدم؛ لعدم الدليل.
قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر: أن الدليل عند من قال بذلك هو الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وسلم، لما صده المشركون عام الحديبية نحر قبل الحلق وأمر أصحابه بذلك، فمن ذلك ما رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن المسور، ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" .
وللبخاري عن المسور أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك اهـ. فدل فعله وأمره على أن ذلك هو اللازم للمحصر ومن قدم الحلق على النحر فقد عكس ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أخل بنسك فعليه دم.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي تدل عليه نصوص السنة الصحيحة أن النحر مقدم على الحلق، ولكن من حلق قبل أن ينحر فلا حرج عليه من إثم ولا دم، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله، بأنه ظن الحلق قبل النحر فنحر قبل أن يحلق، بأن قال له: "افعل ولا حرج" .
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، أيضا عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج" .
وفي رواية للبخاري، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه سأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: "اذبح ولا حرج" ، وقال: رميت بعد ما أمسيت، فقال: "افعل ولا حرج" .
وفي رواية للبخاري، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: "زرت قبل أن أرمي، قال: "لا حرج" قال: حلقت قبل أن أذبح، قال: "لا حرج" ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة. وهي تدل دلالة لا لبس فيها على أن من حلق قبل أن ينحر لا شيء عليه من إثم ولا فدية؛ لأن قوله: "لا حرج" ، نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبنيت على الفتح. والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص صريح في العموم، فالأحاديث إذن نص صريح في عموم النفي لجميع أنواع الحرج من إثم وفدية. والله تعالى أعلم.
ولا يتضح حمل الأحاديث المذكورة على من قدم الحلق جاهلا، أو ناسيا، وإن كان سياق حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه يدل على أن السائل جاهل؛ لأن بعض

(1/88)


--------------------------------------------------------------------------------

تلك الأحاديث الواردة في الصحيح ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل، فيجب استصحاب عمومها حتى يدل دليل على التخصيص بالنسيان والجهل، وقد تقرر أيضا في علم الأصول أن جواب المسؤول لمن سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة؛ لأن تخصيص المنطوط بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال، فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وقد أشار له في "مراقي السعود"، في مبحث موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله عاطفا على ما يمنع اعتباره: [الرجز]
أو جهل الحكم أو النطق انجلب ... للسؤل أو جرى على الذي غلب
كما يأتي بيانه في الكلام على قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية [2/229]. وبه تعلم أن وصف عدم الشعور الوارد في السؤال لا مفهوم له.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال: إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور، ولا يجوز اطراحها بإلحاق العمد بها.
ولهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب، انتهى محل الغرض منه بلفظه.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} ، لم يبين هنا ما هذا الفضل الذي لا جناح في ابتغائه أثناء الحج.
وأشار في آيات أخر إلى أنه ربح التجارة كقوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [73/20]، الضرب في الأرض عبارة عن السفر للتجارة، فمعنى الآية يسافرون يطلبون ربح التجارة. وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [62/10]، أي: بالبيع والتجارة، بدليل قوله قبله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [62/9]، أي: فإذا انقضت صلاة الجمعة فاطلبوا الربح الذي كان محرما عليكم عند النداء لها.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن غلبة إرادة المعنى المعين في القرآن تدل على أنه المراد؛ لأن الحمل على الغالب أولى، ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بالفضل المذكور في الآية ربح التجارة، كما ذكرنا.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [2/199]،لم يبين هنا المكان المأمور بالإفاضة منه المعبر عنه بلفظة

(1/89)


--------------------------------------------------------------------------------

{حَيْثُ} ، التي هي كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان.
ولكنه يبين ذلك بقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [2/198]. وسبب نزولها أن قريشا كانوا يقفون يوم عرفة بالمزدلفة، ويقولون: نحن قطان بيت الله، ولا ينبغي لنا أن نخرج من الحرم؛ لأن عرفات خارج عن الحرم وعامة الناس يقفون بعرفات، فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، وهو عرفات، لا من المزدلفة كفعل قريش.
وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وحكى ابن جرير عليه الإجماع، وعليه فلفظة ثم للترتيب الذكري بمعنى عطف جملة على جملة، وترتيبها عليها في مطلق الذكر، ونظيره قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [90/17،16،15،14،13].
وقول الشاعر: [الخفيف]
إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقال بعض العلماء المراد بقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا} الآية ، ي: من مزدلفة إلى منى، وعليه فالمراد بالناس إبراهيم.
قال ابن جرير في هذا القول: ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح.
قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [2/212]، لم يبين هنا سخرية هؤلاء الكفار من هؤلاء المؤمنين ولكنه بين في موضع آخر أنها الضحك منهم والتغامز وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [83/29،30].
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لم يبين هنا فوقية هؤلاء المؤمنين على هؤلاء الكفرة، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [83/35،34].
وقوله: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [7/49].

(1/90)


--------------------------------------------------------------------------------

قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، لم يصف هذا الخير هنا بالكثرة وقد وصفه بها في قوله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [4/19].
قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [2/217]، لم يبين هنا هل استطاعوا ذلك أو لا ؟ ولكنه بين في موضع آخر أنهم لم يستطيعوا، وأنهم حصل لهم اليأس من رد المؤمنين عن دينهم، وهو قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} الآية [5/3]. وبين في مواضع أخر أنه مظهر دين الإسلام على كل دين كقوله في "براءة"، و "الصف"، و "الفتح"، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [9/33].
قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} ،لم يبين هنا ما هذا الإثم الكبير ؟ ولكنه بين في آية أخرى أنه إيقاع العداوة والبغضاء بينهم، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهي قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [5/91]
قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} الآية ، ظاهر عمومه شمول الكتابيات، ولكنه بين في آية أخرى أن الكتابيات لسن داخلات في هذا التحريم، وهي قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [5/5]، فإن قيل الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [98/6]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [98/1]، وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [2/105]، والعطف يقتضي المغايرة، فالجواب أن أهل الكتاب داخلون في اسم المشركين كما صرح به تعالى في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [9/31،30]
قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، لم يبين هنا هذا المكان

(1/91)


--------------------------------------------------------------------------------

المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة حيث ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين.
إحداهما: هي قوله هنا: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} [2/232]؛ لأن قوله: {فَأْتُوا} أمر بالإتيان بمعنى الجماع وقوله: {حَرْثَكُمْ} ، يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد، كما هو ضروري.
الثانية: قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ} [2/187]؛ لأن المراد بما كتب الله لكم، الولد، على قول الجمهور وهو اختيار ابن جرير، وقد نقله عن ابن عباس، ومجاهد، والحكم، وعكرمة، والحسن البصري، والسدي، والربيع، والضحاك بن مزاحم، ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل. فالقبل، إذن هو المأمور بالمباشرة فيه، بمعنى الجماع فيكون معنى الآية فالآن باشروهن ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد، الذي هو القبل دون غيره، بدليل قوله: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [2/187]، يعني الولد.
ويتضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} [2/223]، يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل، سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة أو على جنب، أو غير ذلك، ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .
فظهر من هذا أن جابرا رضي الله عنه يرى أن معنى الآية، فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها.
والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع كما عقده صاحب "طلعة الأنوار"، بقوله: [لرجز]
تفسير صاحب له تعلق ... بالسبب الرفع له محقق
وقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، ما نصه: وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل: {أَنَّى شِئْتُمْ} ، شامل للمسالك بحكم عمومها، فلا حجة فيها؛ إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة، حسان

(1/92)


--------------------------------------------------------------------------------

شهيرة، رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا، بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في "مسنده"، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم.
وقد جمعها أبو الفرج الجوزي بطرقها في جزء سماه "تحريم المحل المكروه".
ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه "إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار" قلت:
وهذا هو الحق المتبع، والصحيح في المسألة.
ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه، وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير 1 من فعله وهذا هو اللائق به رضي الله عنه، وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي وقد تقدم.
وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه، وروى الدارمي في "مسنده"، عن سعيد بن يسار أبي الحباب. قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض لهن ؟ قال: وما التحميض ؟ فذكرت له الدبر. فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وأسند عن خزيمة بن ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيها الناس، إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن" ، ومثله عن علي بن طلق، وأسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة" .
وروي أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تلك اللوطية الصغرى" ، يعني إتيان المرأة في دبرها.
وروي عن طاوس أنه قال: كان بدأ عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن، قال ابن المنذر وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغنى به عما سواه، من القرطبي بلفظه. وقال القرطبي أيضا ما نصه: وقال مالك لابن وهب، وعلي بن زياد، لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل، فقال: كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي. ثم قال: ألستم قوما عربا ؟ ألم يقل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ، وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت ؟ منه بلفظه أيضا
ـــــــ
1 ليس بالكفر المخرج عن الملة, إنما هو كفر دون كفر, نظير قولهم عن الرياء: الشرك الأصغر.

(1/93)


--------------------------------------------------------------------------------

ومما يؤيد أنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن، أن الله تعالى حرم الفرج في الحيض لأجل القذر العارض له، مبينا أن ذلك القذر هو علة المنع بقوله: {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [2/222]. فمن باب أولى تحريم الدبر للقذر والنجاسة اللازمة، ولا ينتقض ذلك بجواز وطء المستحاضة؛ لأن دم الإستحاضة ليس في الاستقذار كدم الحيض، ولا كنجاسة الدبر؛ لأنه دم انفجار العرق فهو كدم الجرح، ومما يؤيد منع الوطء في الدبر إطباق العلماء على أن الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها معيبة ترد بذلك العيب.
قال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء في ذلك، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بالقوي أن الرتقاء لا ترد بالرتق. والفقهاء كلهم على خلاف ذلك.
قال القرطبي: وفي إجماعهم هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ولو كان موضعا للوطء، ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. فإن قيل: قد يكون رد الرتقاء لعلة عدم النسل فلا ينافي أنها توطأ في الدبر، فالجواب أن العقم لا يرد به، ولو كانت علة رد الرتقاء عدم النسل لكان العقم موجبا للرد.
وقد حكى القرطبي الإجماع على أن العقم لا يرد به، في تفسير قوله تعالى : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ، فإذا تحققت من هذه الأدلة أن وطء المرأة في دبرها حرام. فاعلم أن من روى عنه جواز ذلك كابن عمر، وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين، والمتأخرين، يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر، كما يبينه حديث جابر والجمع واجب إذا أمكن. قال ابن كثير في تفسير قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ما نصه: قال أبو محمد، عبد الرحمن بن عبد الله الدارمي في "مسنده": حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب، قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري أيحمض لهن ؟ قال: وما التحميض ؟ فذكر الدبر، فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟. وكذا رواه ابن وهب، وقتيبة عن الليث.
وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك. فكل ما ورد عنه مما يحتمل، ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم، منه بلفظه، وقد علمت أن قوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} ،

(1/94)


--------------------------------------------------------------------------------

لا دليل فيه للوطء في الدبر؛ لأنه مرتب بالفاء التعقيبية، على قوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} ، ومعلوم أن الدبر ليس محل حرث، ولا ينتقض هذا بجواز الجماع في عكن البطن، وفي الفخذين، والساقين، ونحو ذلك مع أن الكل ليس محل حرث؛ لأن ذلك يسمى استمناء لا جماعا. والكلام في الجماع؛ لأن المراد بالإتيان في قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ، الجماع والفارق موجود؛ لأن عكن البطن ونحوها لا قذر فيها، والدبر فيه القذر الدائم، والنجس الملازم.
وقد عرفنا من قوله: {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} [2/222]، أن الوطء في محل الأذى لا يجوز.
وقال بعض العلماء: معنى قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، أي من المكان الذي أمركم الله تعالى بتجنبه؛ لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوه إلى غيره، ويروى هذا القول عن ابن عباس ومجاهد، وقتادة، والربيع وغيرهم، وعليه فقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّه} يبينه: {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} الآية ؛ لأن من المعلوم أن محل الأذى الذي هو الحيض إنما هو القبل، وهذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا، وهذا القول مبني على أن النهي عن الشيء أمر بضده؛ لأن ما نهى الله عنه فقد أمر بضده، ولذا تصح الإحالة في قوله: {أَمَرَكُمُ اللَّهُ} على النهي في قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، والخلاف في النهي عن الشيء هو أمر بضده معروف في الأصول، وقد أشار له في "مراقي السعود"، بقوله: [الرجز]
والنهي فيه غابر الخلاف ... أو أنه أمر بالائتلاف
وقيل لا قطعا كما في المختصر ... وهو لدى السبكي رأي ما انتصر
ومراده بغابر الخلاف: هو ما ذكر قبل هذا من الخلاف في الأمر بالشيء ، هل هو عين النهي عن ضده، أو مستلزم له أو ليس عينه ولا مستلزما له ؟ يعني أن ذلك الخلاف أيضا في النهي عن الشيء هل هو عين الأمر بضده ؟ أو ضد من أضداده إن تعددت ؟ أو مستلزم لذلك ؟ أو ليس عينه ولا مستلزما له ؟ وزاد في النهي قولين:
أحدهما: أنه أمر بالضد اتفاقا.
والثاني: أنه ليس أمرا به قطعا، وعزا الأخير لابن الحاجب في "مختصره"، وأشار إلى أن السبكي في"جمع الجوامع"، ذكر أنه لم ير ذلك القول لغير ابن الحاجب.

(1/95)


--------------------------------------------------------------------------------

وقال الزجاج: معنى {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، أي: من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا يحل، كما إذا كن صائمات، أو محرمات، أو معتكفات.
وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} ، يعني طاهرات غير حيض، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، لم يصرح هنا بالمراد بما كسبته قلوبهم، ولم يذكر هنا ما يترتب على ذلك إذا حنث، ولكنه بين في سورة "المائدة"، أن المراد بما كسبت القلوب، هو عقد اليمين بالنية والقصد، وبين أن اللازم في ذلك إذا حنث كفارة، هي: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة ومن عجز عن واحد من الثلاثة فصوم ثلاثة أيام، وذلك في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} الآية [5/89]
قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، ظاهر هذه الآية شمولها لجميع المطلقات، ولكنه بين في آيات أخر خروج بعض المطلقات من هذا العموم، كالحوامل المنصوص على أن عدتهن وضع الحمل، في قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [65/4]. وكالمطلقات قبل الدخول المنصوص على أنهن لا عدة عليهن أصلا، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [33/49].
أما اللواتي لا يحضن، لكبر أو صغر فقد بين أن عدتهن ثلاثة أشهر في قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [65/4].
قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فيه إجمال؛ لأن القرء يطلق لغة على الحيض، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "دعي الصلاة أيام أقرائك" . ويطلق القرء لغة أيضا على الطهر ومنه قول الأعشى: [الطويل]
أفي كل يوم أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا

(1/96)


--------------------------------------------------------------------------------

مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
ومعلوم أن القرء الذي يضيع على الغازي من نسائه هو الطهر دون الحيض، وقد اختلف العلماء في المراد بالقروء في هذه الآية الكريمة، هل هو الأطهار أو الحيضات ؟
وسبب الخلاف اشتراك القرء بين الطهر والحيض كما ذكرنا، وممن ذهب إلى أن المراد بالقرء في الآية الطهر، مالك والشافعي وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر والفقهاء السبعة، وأبان بن عثمان، والزهري وعامة فقهاء المدينة، وهو رواية عن أحمد، وممن قال: بأن القروء الحيضات، الخلفاء الراشدون الأربعة، وابن مسعود، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وابن عباس، ومعاذ بن جبل، وجماعة من التابعين وغيرهم، وهو الرواية الصحيحة عن أحمد.
واحتج كل من الفريقين بكتاب وسنة، وقد ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب أننا في مثل ذلك نرجح ما يظهر لنا أن: دليله أرجح أما الذين قالوا القروء الحيضات، فاحتجوا بأدلة كثيرة منها قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ، قالوا: فترتيب العدة بالأشهر على عدم الحيض يدل على أن أصل العدة بالحيض، والأشهر بدل من الحيضات عند عدمها، واستدلوا أيضا بقوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنّ} [2/228].
قالوا: هو الولد، أو الحيض، واحتجوا بحديث "دعي الصلاة أيام أقرائك" ، قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم هو مبين الوحي وقد أطلق القرء على الحيض،
فدل ذلك على أنه المراد في الآية، واستدلوا بحديث اعتداد الأمة بحيضتين، وحديث استبرائها بحيضة.
وأما الذين قالوا: القروء الأطهار، فاحتجوا بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [65/1]، قالوا: عدتهن المأمور بطلاقهن لها، الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية، ويزيده إيضاحا قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث ابن عمر المتفق عليه: "فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله" ، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث المتفق عليه، بأن الطهر هو العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، مبينا أن ذلك هو معنى قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، وهو نص من كتاب الله وسنة نبيه في محل النزاع.
قال مقيده عفا الله عنه الذي يظهر لي أن دليل هؤلاء هذا، فصل في محل النزاع؛

(1/97)


--------------------------------------------------------------------------------

لأن مدار الخلاف هل القروء الحيضات أو الأطهار ؟ وهذه الآية، وهذا الحديث، دلا على أنها الأطهار.
ولا يوجد قي كتاب الله، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يقاوم هذا الدليل، لا من جهة الصحة، ولا من جهة الصراحة في محل النزاع؛ لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب الله تعالى.
وقد صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم، بأن الطهر هو العدة مبينا أن ذلك هو مراد الله جل وعلا، بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، فالإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: "فتلك العدة" ، راجعة إلى حال الطهر الواقع فيه الطلاق؛ لأن معنى قوله "فليطلقها طاهرا" ، أي: في حال كونها طاهرا، ثم بين أن ذلك الحال الذي هو الطهر هو العدة مصرحا بأن ذلك هو مراد الله في كتابه العزيز، وهذا نص صريح في أن العدة بالطهر. وأنث بالإشارة لتأنيث الخبر، ولا تخلص من هذا الدليل لمن يقول هي الحيضات إلا إذا قال العدة غير القروء، والنزاع في خصوص القروء كما قال بهذا بعض العلماء.
وهذا القول يرده إجماع أهل العرف الشرعي، وإجماع أهل اللسان العربي، على أن عدة من تعتد بالقروء هي نفس القروء لا شيء آخر زائد على ذلك. وقد قال تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [65/1]، وهي زمن التربص إجماعا، وذلك هو المعبر عنه بثلاثة قروء التي هي معمول قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ} [2/228]، في هذه الآية فلا يصح لأحد أن يقول: إن على المطلقة التي تعتد بالأقراء شيئا يسمى العدة، زائدا على ثلاثة القروء المذكورة في الآية الكريمة البتة، كما هو معلوم.
وفي القاموس: وعدة المرأة أيام أقرائها، وأيام إحدادها على الزوج، وهو تصريح منه بأن العدة هي نفس القروء لا شيء زائد عليها، وفي اللسان: وعدة المرأة أيام أقرائها، وعدتها أيضا أيام إحدادها على بعلها، وإمساكها عن الزينة شهورا كان أو أقراء أو وضع حمل حملته من زوجها.
فهذا بيان بالغ من الصحة والوضوح والصراحة في محل النزاع، ما لا حاجة معه إلى كلام آخر. وتؤيده قرينة زيادة التاء في قوله: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، لدلالتها على تذكير المعدود وهو الأطهار؛ لأنها مذكرة والحيضات مؤنثة.
وجواب بعض العلماء عن هذا بأن لفظ القرء مذكر ومسماه مؤنث وهو الحيضة،

(1/98)


--------------------------------------------------------------------------------

وأن التاء إنما جىء بها مراعاة للفظ وهو مذكر لا للمعنى المؤنث.
يقال فيه: إن اللفظ إذا كان مذكرا، ومعناه مؤنثا لا تلزم التاء في عدده، بل تجوز فيه مراعاة المعنى، فيجرد العدد من التاء كقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: [الطويل]
وكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فجرد لفظ الثلاث من التاء؛ نظرا إلى أن مسمى العدد نساء،
مع أن لفظ الشخص الذي أطلقه على الأنثى مذكر، وقول الآخر: [الطويل]
وإن كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر
فمجرد العدد من التاء مع أن البطن مذكر؛ نظرا إلى معنى القبيلة، وكذلك العكس، كقوله: [الوافر]
ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... لقد عال الزمان على عيالي
فإنه قد ذكر لفظ الثلاثة مع أن الأنفس مؤنثة لفظا؛ نظرا إلى أن المراد بها أنفس ذكور، وتجوز مراعاة اللفظ فيجرد من التاء في الأخير وتلحقه التاء في الأول ولحوقها إذن مطلق احتمال، ولا يصح الحمل عليه دون قرينة تعينه، بخلاف عدد المذكر لفظا ومعنى، كالقرء بمعنى الطهر فلحوقها له لازم بلا شك، واللازم الذي لا يجوز غيره أولى بالتقديم من المحتمل الذي يجوز أن يكون غيره بدلا عنه ولم تدل عليه قرينة كما ترى.
فإن قيل ذكر بعض العلماء: أن العبرة في تذكير واحد المعدود وتأنيثه إنما هي باللفظ، ولا تجوز مراعاة المعنى إلا إذا دلت عليه قرينة، أو كان قصد ذلك المعنى كثيرا، والآية التي نحن بصددها ليس فيها أحد الأمرين، قال الأشموني في شرح قول ابن مالك: [الرجز]
ثلاثة بالتاء قل للعشرة ... في عد ما آحاده مذكرة
في الضد جرد إلخ... ...
ما نصه: الثاني اعتبار التأنيث في واحد المعدود إن كان اسما فبلفظه، تقول: ثلاثة أشخص، قاصدا نسوة، وثلاث أعين قاصدا رجال؛ لأن لفظ شخص مذكر، ولفظ عين مؤنث هذا ما لم يتصل بالكلام ما يقوي المعنى؛ أو يكثر فيه قصد المعنى.
فإن اتصل به ذلك جاز مراعاة المعنى، فالأول كقوله:

(1/99)


--------------------------------------------------------------------------------

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر.
وكقوله: وإن كلابا البيت.
والثاني كقوله: ثلاثة أنفس وثلاث ذود.اهـ منه.
وقال الصبان في "حاشيته" عليه: وبما ذكره الشارح يرد ما استدل به بعض العلماء في قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [2/228]. {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [24/4]، على أن الأقراء الأطهار لا الحيض، وعلى أن شهادة النساء غير مقبولة؛ لأن الحيض جمع حيضة؛ فلو أريد الحيض لقيل ثلاث، ولو أريد النساء لقيل بأربع.
ووجه الرد أن المعتبر هنا اللفظ، ولفظ قرء وشهيد مذكرين، منه بلفظه.
فالجواب والله تعالى أعلم أن هذا خلاف التحقيق، والذي يدل عليه استقراء اللغة العربية جواز مراعاة المعنى مطلقا، وجزم بجواز مراعاة المعنى في لفظ العدد ابن هشام، نقله عنه السيوطي، بل جزم ص
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://www.facebook.com/5abr.3ala.sari3
 
تفسير اضواء البيان سورة البقرة 5
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 1
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 2
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 3
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 4
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 6

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كنوز النت الإسلامية :: © الأقسام الإسلامية © :: ©تحفيظ وتفسير القرآن الكريم©-
انتقل الى: