كنوز النت الإسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كنوز النت الإسلامية

منتديات كنوز النت الإسلامية لنشر علوم الدنيا والدين
 
الرئيسيةبوابة كنوز النتمكتبة الصورس .و .جبحـثالأعضاءالمجموعاتالتسجيلدخول

 

 تفسير اضواء البيان سورة البقرة 7

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد الازهرى
المستشار القانوني للمنتديات
المستشار القانوني للمنتديات
محمد الازهرى


ذكر عدد الرسائل : 3286
تاريخ الميلاد : 20/10/1982
العمر : 42
نقاط : 13044
تاريخ التسجيل : 29/05/2010

تفسير اضواء البيان سورة البقرة 7 Empty
مُساهمةموضوع: تفسير اضواء البيان سورة البقرة 7   تفسير اضواء البيان سورة البقرة 7 Emptyالجمعة 18 يونيو 2010, 6:30 am

الأول: أن الثلاث المذكورة فيه التي كانت تجعل واحدة، ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها واقعة بلفظ واحد، ولفظ طلاق الثلاث لا يلزم منه لغة ولا عقلا ولا شرعا أن تكون بلفظ واحد، فمن قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات، في وقت واحد، فطلاقه هذا طلاق الثلاث؛ لأنه صرح بالطلاق فيه ثلاث مرات، وإذا قيل لمن جزم بأن المراد في الحديث إيقاع الثلاث بكلمة واحدة، من أين أخذت كونها بكلمة واحدة ؟ فهل في لفظ من ألفاظ الحديث أنها بكلمة واحدة ؟ وهل يمنع إطلاق الطلاق الثلاث على الطلاق بكلمات متعددة ؟ فإن قال: لا، يقال له طلاق الثلاث إلا إذا كان بكلمة واحدة، فلا شك في أن دعواه هذه غير صحيحة، وإن اعترف بالحق وقال: يجوز إطلاقه على ما أوقع بكلمة واحدة، وعلى ما أوقع بكلمات متعددة، وهو أسد بظاهر اللفظ، قيل له: وإذن فجزمك بكونه بكلمة واحدة لا وجه له، وإذا لم يتعين في الحديث كون الثلاث بلفظ واحد سقط الاستدلال به من أصله في محل النزاع. ومما يدل على أنه لا يلزم من لفظ طلاق الثلاث في هذا الحديث كونها بكلمة واحدة، أن الإمام أبا عبد الرحمن النسائي مع جلالته وعلمه وشدة فهمه، ما فهم من هذا الحديث إلا أن المراد بطلاق الثلاث فيه، أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، بتفريق الطلقات؛ لأن لفظ الثلاث أظهر في إيقاع الطلاق ثلاث مرات. ولذا ترجم في "سننه"، لرواية أبي داود المذكورة في هذا الحديث. فقال: "باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة" ثم قال: أخبرنا أبو داود سليمان بن سيف قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس، ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة ؟ قال: نعم، فترى هذا الإمام الجليل صرح بأن طلاق الثلاث في هذا الحديث ليس بلفظ واحد بل بإلفاظ متفرقة، ويدل على صحة ما فهمه النسائي رحمه الله من الحديث ما ذكره ابن القيم في "زاد المعاد"، في الرد على من استدل لوقوع الثلاث دفعة، بحديث عائشة: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت. الحديث. فإنه قال فيه ما نصه: ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ؟ بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا وقال ثلاثا، إلا من فعل وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم. كما يقال قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا. اهـ منه بلفظه.

(1/121)


--------------------------------------------------------------------------------

وهو دليل واضح لصحة ما فهمه أبو عبد الرحمن النسائي رحمه الله، من الحديث؛ لأن لفظ الثلاث في جميع رواياته أظهر في أنها طلقات ثلاث واقعة مرة بعد مرة، كما أوضحه ابن القيم في حديث عائشة المذكور آنفا.
وممن قال: بأن المراد بالثلاث في حديث طاوس المذكور، الثلاث المفرقة بألفاظ نحو أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ابن سريج فإنه قال: يشبه أن يكون ورد في تكرير اللفظ، كأن يقول أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وكانوا أولا على سلامة صدورهم، يقبل منهم أنهم أرادوا التأكيد، فلما كثر الناس في زمن عمر وكثر فيهم الخداع ونحوه؛ مما يمنع قبول من ادعى التأكيد، حمل عمر اللفظ على ظاهر التكرار، فأمضاه عليهم. قاله ابن حجر في "الفتح"، وقال: إن هذا الجواب ارتضاه القرطبي، وقواه بقول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة.
وقال النووي في "شرح مسلم"، ما نصه: وأما حديث ابن عباس فاختلف الناس في جوابه وتأويله، فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال لها: أنت طالق، أن طالق، أنت طالق، ولم ينو تأكيدا، ولا استئنافا، يحكم بوقوع طلقة؛ لقلة إرادتهم الاستئناف بذلك، فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد. فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه وكثر استعمال الناس لهذه الصيغة، وغلب منهم إرادة الاستئناف بها، حملت عند الإطلاق على الثلاث؛ عملا بالغالب السابق إلى الفهم في ذلك العصر.
قال مقيده عفا الله عنه: وهذا الوجه لا إشكال فيه؛ لجواز تغير الحال عند تغير القصد؛ لأن الأعمال بالنيات، "ولكل امرىء ما نوى" ، وظاهر اللفظ يدل لهذا كما قدمنا.
وعلى كل حال، فادعاء الجزم بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد ادعاء خال من دليل كما رأيت، فليتق الله من تجرأ على عزو ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه ليس في شيء من روايات حديث طاوس كون الثلاث المذكورة بلفظ واحد، ولم يتعين ذلك من اللغة، ولا من الشرع، ولا من العقل كما ترى.
قال مقيده عفا الله عنه: ويدل لكون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد ما تقدم في حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أحمد، وأبي يعلى، من قوله: طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد وقوله صلى الله عليه وسلم: "كيف طلقتها" ؟

(1/122)


--------------------------------------------------------------------------------

قال: ثلاثا في مجلس واحد؛ لأن التعبير بلفظ المجلس يفهم منه أنها ليست بلفظ واحد، إذ لو كان اللفظ واحدا لقال بلفظ واحد ولم يحتج إلى ذكر المجلس، إذ لا داعي لذكر الوصف الأعم وترك الأخص بلا موجب، كما هو ظاهر الجواب الثاني، عن حديث ابن عباس هو: أن معنى الحديث أن الطلاق الواقع في زمن عمر ثلاثا كان يقع قبل ذلك واحدة؛ لأنهم كانوا لا يستعملون الثلاث أصلا، أو يستعملونها نادرا. وأما في عهد عمر فكثر استعمالهم لها.
ومعنى قوله: فأمضاه عليهم، على هذا القول، أنه صنع فيه من الحكم بإيقاع الطلاق ما كان يصنع قبله، ورجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة الرازي. وكذا أورده البيهقي بإسناده الصحيح إلى أبي زرعة أنه قال: معنى هذا الحديث عندي إنما تطلقون أنتم ثلاثا، كانوا يطلقون واحدة. قال النووي: وعلى هذا فيكون الخبر وقع عن اختلاف عادة الناس خاصة، لا عن تغيير الحكم في المسألة الواحدة، وهذا الجواب نقله القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [2/229]، عن المحقق القاضي أبي الوليد الباجي، والقاضي عبد الوهاب، والكيا الطبري.
قال مقيده عفا الله عنه: ولا يخفى ما في هذا الجواب من التعسف، وإن قال به بعض أجلاء العلماء.
الجواب الثالث: عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما، هو القول بأنه منسوخ، وأن بعض الصحابة لم يطلع على النسخ إلا في عهد عمر، فقد نقل البيهقي في "السنن الكبرى"، في باب من جعل الثلاث واحدة عن الإمام الشافعي ما نصه:
قال الشافعي: فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة، يعني أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يشبه والله أعلم أن يكون ابن عباس علم أن كان شيئا فنسخ، فإن قيل: فما دل على ما وصفت ؟ قيل: لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف. قال الشيخ: ورواية عكرمة عن ابن عباس، قد مضت في النسخ وفيها تأكيد لصحة هذا التأويل. قال الشافعي: فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر، فقال فيه ابن عباس بقول عمر رضي الله عنه، قيل: قد علمنا أن ابن عباس رضي الله عنهما يخالف عمر رضي الله عنه في نكاح المتعة، وفي بيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلافه ؟ اهـ

(1/123)


--------------------------------------------------------------------------------

محل الحاجة من البيهقي بلفظه.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، ما نصه: الجواب الثالث دعوى النسخ، فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ ذلك، قال البيهقي: ويقويه ما أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحوي،
عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك. والترجمة التي ذكر تحتها أبو داود الحديث المذكور هي قوله: "باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث".
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية ، بعد أن ساق حديث أبي داود المذكور آنفا ما نصه: ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم، عن علي بن الحسين به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة يعني: ابن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رجلا قال لامرأته لا أطلقك أبدا، ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك ؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، فأنزل الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}، قال: فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق، وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان، عن يعلى بن شبيب، مولى الزبير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: فذكره بنحو ما تقدم، ورواه الترمذي عن قتيبة عن يعلى بن شبيب به، ثم رواه عن أبي كريب، عن ابن إدريس، عن هشام، عن أبيه مرسلا وقال: هذا أصح. ورواه
الحاكم في "مستدركه"، من طريق يعقوب بن حميد بن كليب، عن يعلى بن شبيب به، وقال: صحيح الإسناد.
ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: لم يكن للطلاق وقت، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها، ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس، فقال: والله لأتركنك لا أيما، ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارا، فأنزل الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فوقت الطلاق ثلاثا لا رجعة فيه بعد الثالثة، حتى تنكح زوجا غيره. وهكذا روي عن قتادة مرسلا، ذكره السدي وابن زيد،

(1/124)


--------------------------------------------------------------------------------

وابن جرير كذلك. واختار أن هذا تفسير هذه الآية.ا هـ من ابن كثير بلفظه.
وفي هذه الروايات دلالة واضحة لنسخ المراجعة بعد الثلاث، وإنكار المازري ــ رحمه الله ــ ادعاء النسخ مردود بما رده به الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"؛ فإنه لما نقل عن المازري إنكاره للنسخ من أوجه متعددة، قال بعده ما نصه: قلت: نقل النووي هذا الفصل في "شرح مسلم" وأقره، وهو متعقب في مواضع:
أحدها: أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل: إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر، وإنما قال ما تقدم: يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ، أي اطلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعا. ولذلك أفتى بخلافه، وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ.
الثاني: إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب؛ فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما.
الثالث: أن تغليطه من قال المراد ظهور النسخ عجيب أيضا؛ لأن المراد بظهوره انتشاره، وكلام ابن عباس أنه كان يفعل في زمن أبي بكر، محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ، فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ. اهـ محل الحاجة من "فتح الباري" بلفظه، ولا إشكال فيه؛ لأن كثيرا من الصحابة اطلع على كثير من الأحكام لم يكن يعلمه، وقد وقع ذلك في خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، فأبو بكر لم يكن عالما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم،
في ميراث الجدة حتى أخبره المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة، وعمر لم يكن عنده علم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الجنين حتى أخبره المذكوران قبل، ولم يكن عنده علم من أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف. ولا من الاستئذان ثلاثا، حتى أخبره أبو موسى الأشعري، وأبو سعيد الخدري، وعثمان لم يكن عنده علم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب السكنى للمتوفى عنها زمن العدة، حتى أخبرته فريعة بنت مالك.
والعباس بن عبد المطلب، وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما، لم يكن عندهما علم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" الحديث، حتى طلبا ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمثال هذا كثيرة جدا، وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله، واعتراف المخالف به في نكاح المتعة، فإن مسلما روى عن جابر

(1/125)


--------------------------------------------------------------------------------

رضي الله عنه: "أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقا"ما أشبه الليلة بالبارحة": [الطويل]
فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما، ويدعي استحالته في الأخرى، مع أن كلا منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل: أن ذلك الأمر كان يفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر.
ومن أجاز نسخ نكاح المتعة، وأحال نسخ جعل الثلاث واحدة، يقال له: ما لبائك تجر وبائي لا تجر ؟ فإن قيل: نكاح المتعة صح النص بنسخه. قلنا: قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث. وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة، الإمام أبو داود رحمه الله تعالى ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث تطليقات وأكثر، قال في "سننه": "باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث"، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} الآية [2/228]. وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك، وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية . وأخرج نحوه النسائي وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد، قال فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق يهم، وروى مالك في "الموطأ"، عن هشام بن عروة عن أبيه، أنه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها، ثم قال: لا آويك ولا أطلقك، فأنزل الله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ، من كان طلق منهم أو لم يطلق.
ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم، وعلمهم، وورعهم، ويؤيده: أن كثيرا جدا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك، كابن عباس، وعمر، وابن عمر، وخلق لا يحصى.

(1/126)


--------------------------------------------------------------------------------

والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث، قال بعض العلماء: إنه قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ، كما جاء مبينا في الروايات المتقدمة، ولا مانع عقلا ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر، مع أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة، في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع أيضا، كما جاء في رواية عند مسلم.
ومع أن القرآن دل على تحريم غير الزوجة والسرية، بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [23/6،5]، ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في سورة "النساء"، في الكلام على قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية [4/24]،. والذين قالوا: بالنسخ، قالوا: في معنى قول عمر: إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، أن المراد بالأناة، أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد. ومعنى استعجالهم أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد، على القول بأن ذلك هو معنى الحديث. وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه، وإمضاؤه له عليهم إذن هو اللازم، ولا ينافيه قوله فلو أمضيناه عليهم، يعني ألزمناهم بمقتضى ما قالوا، ونظيره: قول جابر عند مسلم في نكاح المتعة: فنهانا عنها عمر. فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر، والنسخ ثابت فيهما معا كما رأيت، وليست الأناة في المنسوخ، وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاث دفعة. وعلى القول الأول: إن المراد بالثلاث التي كانت تجعل واحدة، أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فالظاهر في إمضائه لها عليهم أنه من حيث تغير قصدهم من التأكيد إلى التأسيس كما تقدم. ولا إشكال في ذلك.
أما كون عمر كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة، فتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها ثلاثا، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فلا يخفى بعده، والعلم عند الله تعالى.
الجواب الرابع: عن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن رواية طاوس عن ابن عباس مخالفة لما رواه عنه الحفاظ من أصحابه، فقد روى عنه لزوم الثلاث دفعة سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري، كما نقله البيهقي في "السنن الكبرى"، والقرطبي وغيرهما.

(1/127)


--------------------------------------------------------------------------------

وقال البيهقي في "السنن الكبرى": إن البخاري لم يخرج هذا الحديث؛ لمخالفة هؤلاء لرواية طاوس عن ابن عباس.
وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، طلاق الثلاث واحدة، بأي شيء تدفعه ؟ قال برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، وكذلك نقل عنه ابن منصور قاله ابن القيم.
قال مقيده عفا الله عنه: فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك الله به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده، وتغير عقائده، أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال للأثرم وابن منصور: إنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد؛ لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وهو هو، ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك هذا الحديث عمدا؛ لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد. ولا شك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك، فإن قيل: رواية طاوس في حكم المرفوع، ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس، والمرفوع لا يعارض بالموقوف.
فالجواب أن الصحابي إذا خالف ما روي ففيه للعلماء قولان: وهما روايتان عن أحمد رحمه الله:
الأولى: أنه لا يحتج بالحديث؛ لأن أعلم الناس به راويه وقد ترك العمل به، وهو عدل، عارف، وعلى هذه رواية فلا إشكال.
وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء أن العبرة بروايته لا بقوله. فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى، أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالا قويا لأن تكون الطلقات مفرقة، كما جزم به النسائي وصححه النووي، والقرطبي، وابن سريج فالحاصل أن ترك ابن عباس لجعل الثلاث بفم واحد واحدة يدل على أن معنى الحديث الذي روي ليس

(1/128)


--------------------------------------------------------------------------------

كونها بلفظ واحد كما سترى بيانه في كلام القرطبي في المفهم في الجواب الذي بعد هذا.
واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى في الثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، أن ابن عباس قال: إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عكرمة، أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحفاظ لإسماعيل، في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة.
الجواب الخامس: هو ادعاء ضعفه وممن حاول تضعيفه ابن العربي المالكي، وابن عبد البر، والقرطبي.
قال ابن العربي المالكي: زل قوم في آخر الزمان فقالوا: إن الطلاق الثلاث في كلمة لا يلزم، وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول فحكوه عن علي، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، وعزوه إلى الحجاج بن أرطاة الضعيف المنزلة، المغمور المرتبة، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه وقالوا: إن قوله أنت طالق ثلاثا كذب؛ لأنه لم يطلق ثلاثا، كما لو قال: طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة، وكما لو قال: أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة.
ولقد طوفت في الآفاق، ولقيت من علماء الإسلام، وأرباب المذاهب كل صادق، فما سمعت لهذه المسألة بخبر، ولا أحسست لها بأثر، إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزا، ولا يرون الطلاق واقعا، ولذلك قال فيهم ابن سكرة الهاشمي: [السريع]
يا من يرى المتعة في دينه ... حلا وإن كانت بلا مهر
ولا يرى تسعين تطليقة ... تبين منه ربة الخدر
من هاهنا طابت مواليدكم ... فاغتنموها يا بني الفطر
وقد اتفق علماء الإسلام، وأرباب الحل والعقد في الأحكام، على أن الطلاق الثلاث في كلمة، وإن كان حراما في قول بعضهم، وبدعة في قول الآخرين، لازم. وأين هؤلاء البؤساء من عالم الدين، وعلم الإسلام، محمد بن إسماعيل البخاري، وقد قال في

(1/129)


--------------------------------------------------------------------------------

"صحيحه": "باب جواز الطلاق الثلاث"، لقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} .
وذكر حديث اللعان: فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يغير عليه النبي صلى الله عليه وسلم،
ولا يقر على الباطل؛ ولأنه جمع ما فسح له في تفريقه، فألزمته الشريعة حكمه وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت، لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد.
وقد أدخل مالك في "موطئه" عن علي أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة، فهذا في معناها، فكيف إذا صرح بها. وأما حديث الحجاج بن أرطاة فغير مقبول في الملة، ولا عند أحد من الأئمة. فإن قيل: ففي "صحيح مسلم" عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور، قلنا: هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه:
الأول: أنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة ؟ ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين. وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم: نقل العدل عن العدل. ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا.
الثاني: أن هذا الحديث لم يرو إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا من طريق طاوس، فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد ؟ وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس ؟ وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاوس ؟ اهـ محل الغرض من كلام ابن العربي، وقال ابن عبد البر: ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، والعراق، والمشرق، والمغرب. وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس.
قال مقيده - عفا الله عنه- إن مثل هذا لا يثبت به تضعيف هذا الحديث؛ لأن الأئمة كمعمر وابن جريج وغيرهما رووه عن ابن طاوس وهو إمام، عن طاوس، عن ابن عباس، ورواه عن طاوس أيضا إبراهيم بن ميسرة، وهو ثقة حافظ. وانفراد الصحابي لا يضر ولو لم يرو عنه أصلا إلا واحد، كما أشار إليه العراقي في "ألفيته" بقوله: [الرجز]
في الصحيح أخرجا المسيبا ... وأخرج الجعفي لابن تغلبا

(1/130)


--------------------------------------------------------------------------------

يعني: أن الشيخين أخرجا حديث المسيب بن حزن، ولم يرو عنه أحد غير ابنه سعيد.
وأخرج البخاري حديث عمرو بن تغلب النمري، ويقال العبدي ولم يرو عنه غير الحسن البصري هذا مراده. وقد ذكر ابن أبي حاتم أن عمرو بن تغلب روى عنه أيضا الحكم بن الأعرج، قاله ابن حجر، وابن عبد البر وغيرهما.
والحاصل أن حديث طاوس ثابت في "صحيح مسلم" بسند صحيح، وما كان كذلك لا يمكن تضعيفه إلا بأمر واضح، نعم لقائل أن يقول: إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه، أن ذلك يدل على عدم صحته. ووجهه أن توفر الدواعي يلزم منه أن النقل تواترا والاشتهار، فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع؛ لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وهذه قاعدة مقررة في الأصول، أشار إليها في "مراقي السعود" بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر: [الرجز]
..................... ... وخبر الآحاد في السني
حيث دواعي نقله تواترا ... نرى لها لو قاله تقررا
وجزم بها غير واحد من الأصوليين، وقال صاحب "جمع الجوامع" عاطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر. والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة. اهـ منه بلفظه.
ومراده أن مما يجزم بعدم صحته، الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله.
وقال ابن الحاجب في "مختصره الأصولي" مسألة: إذا انفرد واحد فيما يتوفر الدواعي إلى نقله، وقد شاركه خلق كثير. كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة.
اهـ محل الغرض منه بلفظه. وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول.
قال مقيده عفا الله عنه: ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في زمن أبي بكر، وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك. فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده، متوفرة توفرا لا يمكن إنكاره، لأن يرد بذلك التغيير الذي أحدثه

(1/131)


--------------------------------------------------------------------------------

عمر فسكوت جميع الصحابة عنه وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين:
أحدهما: أن حديث طاوس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناه أنها بلفظ واحد، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا، وكما جزم به النسائي وصححه النووي والقرطبي وابن سريج. وعليه فلا إشكال لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى" فمن قال أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. ونوى التأكيد فواحدة، وأن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث. واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرىء ما نوى" .
والثاني: أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله، والأول أولى وأخف من الثاني، وقال القرطبي في المفهم في الكلام على حديث طاوس المذكور: وظاهر سياقه يقتضي عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد ؟ قال: فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره، إن لم يقتض القطع ببطلانه. اهـ منه بواسطة نقل ابن حجر في "فتح الباري" عنه، وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى.
الجواب السادس: عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما هو حمل لفظ الثلاث في الحديث على أن المراد بها البتة كما قدمنا في حديث ركانة، وهو من رواية ابن عباس أيضا، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" بعد أن ذكر هذا الجواب ما نصه: وهو قوي ويؤيده إدخال البخاري في هذا الباب، الآثار التي فيها البتة، والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث، كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما، وأن البتة إذا أطلقت حمل على الثلاث إلا أن أراد المطلق واحدة فيقبل، فكأن بعض رواته حمل لفظ البتة على الثلاث؛ لاشتهار التسوية بينهما، فرواها بلفظ الثلاث. وإنما المراد لفظة البتة، وكانوا في العصر الأول يقبلون ممن قال أردت بالبتة واحدة، فلما كان عهد عمر أمضى الثلاث في ظاهر الحكم. اهـ من "فتح الباري" بلفظه، وله وجه من النظر كما لا يخفى، وما يذكره كل ممن قال بلزوم الثلاث دفعة، ومن قال بعدم لزومها من الأمور النظرية ليصحح به كل مذهبه، لم نطل به الكلام؛ لأن الظاهر سقوط ذلك كله، وأن هذه المسألة إن لم يمكن

(1/132)


--------------------------------------------------------------------------------

تحقيقها من جهة النقل فإنه لا يمكن من جهة العقل، وقياس أنت طالق ثلاثا على أيمان اللعان في أنه لو حلفها بلفظ واحد لم تجز، قياس مع وجود الفارق؛ لأن من اقتصر على واحدة من الشهادات الأربع المذكورة في آية اللعان أجمع العلماء على أن ذلك كما لو لم يأت بشيء منها أصلا، بخلاف الطلقات الثلاث فمن اقتصر على واحدة منها اعتبرت إجماعا، وحصلت بها البينونة بانقضاء العدة إجماعا.
الجواب السابع: هو ما ذكره بعضهم من أن حديث طاوس المذكور ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره،
والدليل إنما هو فيما علم به وأقره، لا فيما لم يعلم فيه.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ لأن جماهير المحدثين والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم له حكم المرفوع، وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم وأقره.
الجواب الثامن: أن حديث ابن عباس المذكور في غير المدخول بها خاصة؛ لأنه إن قال لها أنت طالق بانت بمجرد اللفظ، فلو قال ثلاثا لم يصادف لفظ الثلاث محلا؛ لوقوع البينونة قبلها. وحجة هذا القول أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا قال في "مراقي السعود": [الرجز]
وحمل مطلق على ذاك وجب ... إن فيهما اتحد حكم والسبب
وما ذكره الأبي رحمه الله من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين، أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل فمردود؛ بأنه لا دليل عليه. وأنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء، ولا وجه للفرق بينهما. وما ذكره الشوكاني ـ رحمه الله ـ في "نيل الأوطار" من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة، وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه، لا يظهر؛ لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عن قيد عدم الدخول، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى، والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد، ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا. نعم لقائل أن يقول إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكور وارد على سؤال إبي الصهباء، وأبو الصهباء لم يسأل إلا عن غير المدخول بها، فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له؛ لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة

(1/133)


--------------------------------------------------------------------------------

الجواب للسؤال.
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة، كون الكلام واردا جوابا لسؤال؛ لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج حكم المفهوم عن المنطوق.
وأشار إليه في "مراقي السعود" في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله: [الرجز]
أو جهل الحكم أو النطق انجلب ... للسؤل أو جرى على الذي غلب
ومحل الشاهد منه قوله: أو النطق انجلب للسؤل.
وقد قدمنا أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد عن طاوس وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون، ومن لم يعرف من هو، لا يصح الحكم بروايته. ولذا قال النووي في "شرح مسلم" ما نصه: وأما هذه الرواية التي لأبي داود فضعيفة، رواها أيوب عن قوم مجهولين، عن طاوس، عن ابن عباس، فلا يحتج بها والله أعلم، انتهى منه بلفظه. وقال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه: الرواة عن طاوس مجاهيل، انتهى منه بلفظه، وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاوس فيها، وقال ابن القيم في "زاد المعاد" بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصه: وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد، انتهى محل الغرض منه بلفظه فانظره مع ما تقدم. هذا ملخص كلام العلماء في هذه المسألة مع ما فيها من النصوص الشرعية.
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ الذي يظهر لنا صوابه في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وهو أن الحق فيها دائر بين أمرين:
أحدهما: أن يكون المراد بحديث طاوس المذكور كون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد.
الثاني: أنه إن كان معناه أنها بلفظ واحد فإن ذلك منسوخ ولم يشتهر العلم بنسخه بين الصحابة إلا في زمان عمر، كما وقع نظيره في نكاح المتعة.
أما الشافعي فقد نقل عنه البيهقي في "السنن الكبرى" ما نصه: فإن كان معنى قول ابن عباس إن الثلاث كانت تحسب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واحدة، يعني أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يشبه، والله أعلم، أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيء

(1/134)


--------------------------------------------------------------------------------

فنسخ، فإن قيل: فما دل على ما وصفت ؟ قيل: لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه، كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف.
قال الشيخ: رواية عكرمة، عن ابن عباس قد مضت في النسخ وفيه تأكيد لصحة هذا التأويل، قال الشافعي: فإن قيل فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر رضي الله عنهم قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر رضي الله عنه في نكاح المتعة، وفي بيع الدينار بالدينارين، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف ما قال ؟ اهـ محل الغرض منه بلفظه.
ومعناه واضح في أن الحق دائر بين الأمرين المذكورين؛ لأن قوله فإن كان معنى قول ابن عباس... الخ يدل على أن غير ذلك محتمل، وعلى أن المعنى أنها ثلاث بفم واحد، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم على جعلها واحدة، فالذي يشبه عنده أن يكون منسوخا، ونحن نقول: إن الظاهر لنا دوران الحق بين الأمرين كما قال الشافعي رحمه الله تعالى، إما أن يكون معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث ليست بلفظ واحد، بل بألفاظ متفرقة بنسق واحد كأنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وهذه الصورة تدخل لغة في معنى طلاق الثلاث دخولا لا يمكن نفيه، ولا سيما على الرواية التي أخرجها أبو داود التي جزم ابن القيم بأن إسنادها أصح أسناد، فإن لفظها: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس: بلى ! كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم، فإن هذه الرواية بلفظ طلقها ثلاثا وهو أظهر في كونها متفرقة بثلاثة ألفاظ، كما جزم به ابن القيم في رده الاستدلال بحديث عائشة الثابت في الصحيح. فقد قال في "زاد المعاد" ما نصه: وأما استدلالكم بحديث عائشة أن رجلا طلق ثلاثا فتزوجت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم هل تحل للأول؟ قال: "لا، حتى تذوق العسيلة" فهذا مما لا ننازعكم فيه، نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني. ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد؟ بل الحديث حجة لنا، فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا، وقال ثلاثا، إلا من فعل وقال مرة بعد مرة، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم. كما يقال قذفه ثلاثا، وشتمه ثلاثا، وسلم عليه ثلاثا، انتهى منه بلفظه.

(1/135)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرفت أن لفظ رواية أبي داود موافق للفظ عائشة الثابت في الصحيح الذي جزم فيه ابن القيم، بأنه لا يدل على أن الثلاث بفم واحد، بل دلالته على أنها بألفاظ متفرقة متعينة في جميع لغات الأمم،
ويؤيده أن البيهقي في "السنن الكبرى" قال ما نصه: وذهب أبو يحيى الساجي إلى أن معناه إذا قال للبكر: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. كانت واحدة فغلظ عليهم عمر رضي الله عنه فجعلها ثلاثا، قال الشيخ ورواية أيوب السختياني تدل على صحة هذا التأويل، اهـ منه بلفظه.
ورواية أيوب المذكورة هي التي أخرجها أبو داود وهي المطابق لفظها حديث عائشة الذي جزم فيه ابن القيم، بأنه لا يدل إلا على أن الطلقات المذكورة ليست بفم واحد، بل واقعة مرة بعد مرة وهي واضحة جدا فيما ذكرنا، ويؤيده أيضا أن البيهقي نقل عن ابن عباس ما يدل على أنها إن كانت بألفاظ متتابعة فهي واحدة، وإن كانت بلفظ واحد فهي ثلاث، وهو صريح في محل النزاع، مبين أن الثلاث التي تكون واحدة هي المسرودة بألفاظ متعددة؛ لأنها تأكيد للصيغة الأولى.
ففي "السنن الكبرى" للبيهقي ما نصه: قال الشيخ: ويشبه أن يكون أراد إذا طلقها ثلاثا تترى، روى جابر بن يزيد عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما في رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، قال عقدة كانت بيده أرسلها جميعا. وإذا كانت تترى فليس بشيء. قال سفيان الثوري تترى يعني أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإنها تبين بالأولى، والثنتان ليستا بشيء، وروي عن عكرمة عن ابن عباس ما دل على ذلك، انتهى منه بلفظه.
فهذه أدلة واضحة على أن الثلاث في حديث طاوس ليست بلفظ واحد، بل مسرودة بألفاظ متفرقة كما جزم به الإمام النسائي رحمه الله وصححه النووي والقرطبي وابن سريج وأبو يحيى الساجي، وذكره البيهقي عن الشعبي عن ابن عباس، وعن عكرمة عن ابن عباس، وتؤيده رواية أيوب التي صححها ابن القيم كما ذكره البيهقي وأوضحناه آنفا مع أنه لا يوجد دليل يعين كون الثلاث المذكورة في حديث طاوس المذكور بلفظ واحد، لا من وضع اللغة، ولا من العرف، ولا من الشرع، ولا من العقل؛ لأن روايات حديث طاوس ليس في شيء منها التصريح بأن الثلاث المذكورة واقعة بلفظ واحد، ومجرد لفظ الثلاث، أو طلاق الثلاث، أو الطلاق الثلاث، لا يدل على أنها بلفظ واحد لصدق كل تلك العبارات على الثلاث الواقعة بألفاظ متفرقة كما

(1/136)


--------------------------------------------------------------------------------

رأيت، ونحن لا نفرق في هذا بين البر والفاجر، ولا بين زمن وزمن، وإنما نفرق بين من نوى التأكيد، ومن نوى التأسيس، والفرق بينهما لا يمكن إنكاره، ونقول الذي يظهر أن ما فعله عمر إنما هو لما علم من كثرة قصد التأسيس في زمنه، بعد أن كان في الزمن الذي قبله قصد التأكيد هو الأغلب كما قدمنا، وتغيير معنى اللفظ لتغير قصد اللافظين به لا إشكال فيه، فقوة هذا الوجه واتجاهه وجريانه على اللغة، مع عدم إشكال فيه كما ترى. وبالجملة بلفظ رواية أيوب التي أخرجها أبو داود.
وقال ابن القيم: إنها بأصح إسناد مطابق للفظ حديث عائشة الثابت في "الصحيحين"، الذي فيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأنها لا تحل للأول حتى يذوق عسيلتها الثاني كما ذاقها الأول. وبه تعرف أن جعل الثلاث في حديث عائشة متفرقة في أوقات متباينة، وجعلها في حديث طاوس بلفظ واحد تفريق لا وجه له مع اتحاد لفظ المتن في رواية أبي داود، ومع أن القائلين برد الثلاث المجتمعة إلى واحدة لا يجدون فرقا في المعنى بين رواية أيوب وغيرها من روايات حديث طاوس.
ونحن نقول للقائلين برد الثلاث إلى واحدة إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة وحديث طاوس أنها مجتمعة أو مفرقة، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج، وإن كانت متفرقة فلا حجة لكم أصلا في حديث طاوس على محل النزاع؛ لأن النزاع في خصوص الثلاث بلفظ واحد.
أما جعلكم الثلاث في حديث عائشة مفرقة، وفي حديث طاوس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه، ولا سيما أن بعض رواياته مطابق لفظه للفظ حديث عائشة، وأنتم لا ترون فرقا بين معاني ألفاظ رواياته من جهة كون الثلاث مجتمعة لا متفرقة.
وأما على كون معنى حديث طاوس أن الثلاث التي كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، هي المجموعة بلفظ واحد فإنه على هذا يتعين النسخ كما جزم به أبو داود رحمه الله، وجزم به ابن حجر في "فتح الباري"، وهو قول الشافعي كما قدمنا عنه، وقال به غير واحد من العلماء.
وقد رأيت النصوص الدالة على النسخ التي تفيد أن المراد بجعل الثلاث واحدة، أنه في الزمن الذي كان لا فرق فيه بين واحدة وثلاث، ولو متفرقة؛ لجواز الرجعة ولو بعد مائة تطليقة، متفرقة كانت أو لا. وأن المراد بمن كان يفعله في زمن أبي بكر هو من

(1/137)


--------------------------------------------------------------------------------

لم يبلغه النسخ، وفي زمن عمر اشتهر النسخ بين الجميع. وادعاء أن مثل هذا لا يصح يرده بإيضاح وقوع مثله في نكاح المتعة، فإنا قد قدمنا أن مسلما روى عن جابر أنها كانت تفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وفي بعض من زمن عمر قال: فنهانا عنها عمر. وهذه الصورة هي التي وقعت في جعل الثلاث واحدة، والنسخ ثابت في كل واحدة منهما، فادعاء إمكان إحداهما واستحالة الأخرى في غاية السقوط كما ترى؛ لأن كل واحدة منهما، روى فيها مسلم في "صحيحه" عن صحابي جليل، أن مسألة تتعلق بالفروج كانت تفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر، ثم غير حكمها عمر، والنسخ ثابت في كل واحدة منهما. وأما غير هذين الأمرين فلا ينبغي أن يقال؛ لأن نسبة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وخلق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم تركوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءوا بما يخالفه من تلقاء أنفسهم عمدا غير لائق، ومعلوم أنه باطل بلا شك.
وقد حكى غير واحد من العلماء أن الصحابة أجمعوا في زمن عمر على نفوذ الطلاق الثلاث دفعة واحدة.
والظاهر أن مراد المدعي لهذا الإجماع هو الإجماع السكوتي، مع أن بعض العلماء ذكر الخلاف في ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين. وقد قدمنا كلام أبي بكر بن العربي القائل: بأن نسبة ذلك إلى بعض الصحابة كذب بحت، وأنه لم يثبت عن أحد منهم جعل الثلاث بلفظ واحد واحدة، وما ذكره بعض أجلاء العلماء من أن عمر إنما أوقع عليهم الثلاث مجتمعة عقوبة لهم، مع أنه يعلم أن ذلك خلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في زمن أبي بكر رضي الله عنه فالظاهر عدم نهوضه؛ لأن عمر لا يسوغ له أن يحرم فرجا أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح منه أن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيح ذلك الفرج بجواز الرجعة ويتجرأ هو على منعه بالبينونة الكبرى، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [ 95/7]، ويقول: {ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [10/59]، ويقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [ 42/21].
والمروي عن عمر في عقوبة من فعل ما لا يجوز من الطلاق هو التعزير الشرعي المعروف، كالضرب. أما تحريم المباح من الفروج فليس من أنواع التعزيزات؛ لأنه يفضي إلى حرمته على من أحله الله له وإباحته لمن حرمه عليه؛ لأنه إن أكره على إبانتها

(1/138)


--------------------------------------------------------------------------------

وهي غير بائن في نفس الأمر لا تحل لغيره؛ لأن زوجها لم يبنها عن طيب نفس وحكم الحاكم وفتواه لا يحل الحرام في نفس الأمر،
ويدل له حديث أم سلمة المتفق عليه فإن فيه:"فمن قضيت له فلا يأخذ من حق أخيه شيئا، فكأنما أقطع له قطعة من نار" ويشير له قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [33/37]؛ لأنه يفهم منه أنه لو لم يتركها اختيارا لقضائه وطره منها ما حلت لغيره.
وقد قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ما نصه: وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر، إنها كانت تفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر، قال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك.
ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منا بذلة، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق، والله أعلم. اهـ منه بلفظه.
وحاصل خلاصة هذه المسألة أن البحث فيها من ثلاث جهات:
الأولى: من جهة دلالة النص القولي أو الفعلي الصريح.
الثانية: من جهة صناعة علم الحديث والأصول.
الثالثة: من جهة أقوال أهل العلم فيها أما أقوال أهل العلم فيها فلا يخفى أن الأئمة الأربعة وأتباعهم وجل الصحابة وأكثر العلماء على نفوذ الثلاث دفعة بلفظ واحد، وادعى غير واحد على ذلك إجماع الصحابة وغيرهم.
وأما من جهة نص صريح من قول النبي صلى ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://www.facebook.com/5abr.3ala.sari3
 
تفسير اضواء البيان سورة البقرة 7
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 1
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 2
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 3
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 4
» تفسير اضواء البيان سورة البقرة 5

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كنوز النت الإسلامية :: © الأقسام الإسلامية © :: ©تحفيظ وتفسير القرآن الكريم©-
انتقل الى: