كاتب الموضوع | رسالة |
---|
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "البلد" الجمعة 11 ديسمبر 2009, 6:02 am | |
| سورة البلد اغترار الإنسان بقوته تذكير الله بنعمه للعظة والتوجيه بَين يَدَيْ السُّورَة * هذه السورة الكريمة مكية، وأهدافها نفس أهداف السور المكية، من تثبيت العقيدة والإِيمان، والتركيز على الإِيمان بالحساب والجزاء، والتمييز بين الأبرار والفجار. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالبلد الحرام، الذي هو سكنُ النبي عليه الصلاة والسلام، تعظيماً لشأنه، وتكريماً لمقامه الرفيع عند ربه، ولفتاً لأنظار الكفار إلى أن إيذاء الرسول في البلد الأمين من أكبر الكبائر عند الله تعالى. * ثم تحدثت عن بعض كفار مكة، الذين اغتروا بقوتهم، فعاندوا الحقَّ، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفقوا أموالهم في المباهاة والمفاخرة، ظناً منهم أن إنفاق الأموال يدفع عنهم عذاب الله، وقد ردت عليهم الآيات بالحجة القاطعة والبرهان الساطع. * ثم تناولت أهوال القيامة وشدائدها، وما يكون بين يدي الإِنسان في الآخرة من مصاعب ومتاعب وعقباتٍ لا يستطيع أن يقطعها ويجتازها إلا بالإِيمان والعمل الصالح. * وختمت السورة الكريمة بالتفريق بين المؤمنين والكفار في ذلك اليوم العصيب، وبينت مآل السعداء، ومآل الأشقياء، في دار الجزاء. اغترار الإنسان بقوته
{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ(1)وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2)وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3)لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4)أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ(5)يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا(6)أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ(7)}.
سبب النزول:
نزول الآية (5) :
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقدِرَ}: روي أن هذه الآية: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟} نزلت في أبي الأشدّ بن كَلَدة الْجُمَحي، الذي كان مغتراً بقوته البدنية. قال ابن عباس: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت في عداوة محمد مالاً كثيراً، وهو في ذلك كاذب.
نزول الآية (6) : {يَقُولُ أَهْلَكْتُ..} قال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب، فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يُكَفِّر، فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق، فيكون طغياناً منه، أو أسفاً عليه، فيكون ندماً منه. {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} هذا قسمٌ، أقسم سبحانه بالبلد الحرام "مكة" التي شرَّفها الله تعالى بالبيت العتيق - قبلة أهل الشرق والغرب - وجعلها مهبط الرحمات، وإليها تجبى ثمرات كل شيء، وجعلها حرماً آمناً، وجعل حرمتها منذ خلق السماوات والأرض، فلما استجمعت تلك المزايا والفضائل أقسم الله تعالى بها قال ابن جزي: أراد بالبلد "مكة" باتفاق، وأقسم بها تشريفاً لها {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} أي وأنت يا محمد ساكنٌ ومقيم بمكة بلد الله الأمين قال البيضاوي أقسم بالبلد الحرام وقيَّده بحلوله عليه السلام فيه - أي إقامته فيه - إظهاراً لمزيد فضله، وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله {وَوَالِدٍ} أي وأُقسم بآدم وذريته الصالحين قال مجاهد: الوالد آدم عليه السلام {وَمَا وَلَدَ} جميع ذريته قال ابن كثير: وما ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسنٌ قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأُم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن وهو "آدم" أبو البشر وولده وقال الخازن: أقسم الله تعالى بمكة لشرفها وحرمتها، وبآدم بالأنبياء والصالحين من ذريته، لأن الكافر - وإن كان من ذريته - لا حرمة له حتى يقسم به {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} هذا هو المقسم عليه أي لقد خلقنا الإِنسان في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يقاسي أنواع الشدائد، من وقت نفخ الروح فيه إلى حين نزعها منه قال ابن عباس: {فِي كَبَدٍ} أي في مشقة وشدة، من حمله، وولادته، ورضاعه، وفطامه، ومعاشه، وحياته، وموته، وأصل الكبد: الشدة، وقيل: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق قال أبو السعود: والآية تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من كفار مكة .. ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان الجاحد بقدرة الله، والمكذب للبعث والنشور فقال {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أي أيظن هذا الشقي الفاجر، المغتر بقوته، أنَّ الله تعالى لا يقدر عليه لشدته وقوته ؟ قال المفسرون: نزلت في "أبي الأشد بن كلدة" كان شديداً مغتراً بقوته، وكان يبسط له الأديم – الجلد – فيوضع تحت قدميه، ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلّ قدماه، ومعنى الآية: أيظن هذا القوي المارد، المستضعف للمؤمنين، أنه لن يقدر على الانتقام منه أحد ؟ {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا} أي يقول هذا الكافر: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم قال الألوسي: أي يقول فخراً ومباهاة على المؤمنين: أنفقت مالاً كثيراً، وأراد بذلك ما أنفقه "رياءً وسمعةً" وعبر عن الإِنفاق بالإِهلاك، إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع، فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً، وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}؟ أي أيظن أنَّ الله تعالى لم يره حين كان ينفق، ويظن أن أعماله تخفى على رب العباد ؟ ليس الأمر كما يظن، بل إن الله رقيب مطلعٌ عليه، سيسأله يوم القيامة ويجازيه عليه. تذكير الله بنعمه للعظة والتوجيه
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8)وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9)وَهَدَيْنَاهُ النجْدَيْنِ(10)فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12)فَكُّ رَقَبَةٍ(13)أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(14)يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15)أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ(16)ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ(17)أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(18)وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ(19)عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ(20)}.
ثم ذكَّره تعالى بنعمه عليه ليعتبر ويتعظ فقال {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} أي ألم نجعل له عينين يبصر بهما ؟ {وَلِسَانًا} أي ولساناً ينطق به فيعبر عما في ضميره ؟ {وَشَفَتَيْنِ} أي وشفتين يطبقهما على فمه، ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك ؟ قال الخازن: يريد أن نعم الله على عبده متظاهرة، يقرره بها كي يشكره {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي وبينا له طريقي الخير والشر، والهدى والضلال، ليسلك طريق السعادة، ويتجنب طريق الشقاوة قال ابن مسعود: {النَّجْدَيْنِ} الخير والشر كقوله تعالى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فهلا أنفق ماله في اجتياز العقبة الكؤود، بدل أن ينفقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟! قال أبو حيّان: والعقبةُ استعارةٌ للعمل الشاق على النفس، من حيث بذل المال، تشبيهاً لها بعقبة الجبل وهو ما صعب منه وقت الصعود، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها، ومعنى اقتحمها دخلها بسرعة وشدة، وهو مثلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، حتى ينال رضى الرحمن {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} أي وما أعلمك ما اقتحام العقبة ؟ وفيه تعظيم لشأنها وتهويل .. ثم فسرها تعالى بقوله {فَكُّ رَقَبَةٍ} أي هي عتق الرقبة في سبيل الله، وتخليص صاحبها من الأسر والرقِّ، فمن أعتق رقبة كانت له فداء من النار {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي أو أن يطعم الفقير في يوم عصيب ذي مجاعة، قال الصاوي وقيَّد الإِطعام بيوم المجاعة، لأن إخراج المال فيه أشد على النفس {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} أي أطعم اليتيم الذي بينه وبينه قرابة {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أو المسكين الفقير البائس الذي قد لصق بالتراب من فقره وضره، وهو كناية عن شدة الفقر والبؤس قال ابن عباس: هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} أي عمل هذه القربات لوجه الله تعالى، وكان مع ذلك مؤمناً صادق الإِيمان قال المفسرون: وفي الآية إشارة إلى أن هذه القُرَب والطاعات لا تنفع إلا مع الإِيمان {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي وأوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإِيمان وطاعة الرحمن، وبالرحمة والشفقة على الضعفاء المساكين {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الجليلة، هم أصحاب الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ويسعدون بدخول جنات النعيم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} قرن بين الأبرار والفجار على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، لبيان المفارقة الهائلة بين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشرار أي والذين جحدوا نبوة محمد وكذبوا بالقرآن هم أهل الشمال - أهل النار - لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، وعبر عنهم بضمير الغائب إشارة إلى أنهم غائبون عن حضرة قدسه، وكرامة أُنسه {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ} أي عليهم نارٌ مطبقة مغلقة، لا يدخل فيها روحٌ ولا ريحان، ولا يخرجون منها أبد الزمان .. اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، ونجنا من ذلك يا رب. _________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "الفجر" الجمعة 11 ديسمبر 2009, 6:05 am | |
| سورة الْفَجْر التذكير بقوم عاد وثمود وفرعون وما حل بهم من العذاب حال الطغاة المتجبرين، وجحود الإنسان ندم المقصرين عند رؤية العذاب بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الْفَجْر مكية، وهي تتحدث عن أمور ثلاثة رئيسية وهي : 1- ذكر قصص بعض الأمم المكذبين لرسل الله، كقوم عاد، وثمود، وقوم فرعون، وبيان ما حلَّ بهم من العذاب والدمار بسبب طغيانهم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ..} الآيات. 2- بيان سنة الله تعالى في ابتلاء العباد في هذه الحياة بالخير والشر، والغنى والفقر، وطبيعة الإِنسان في حبه الشديد للمال {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ..} الآيات. 3- الآخرة وأهوالها وشدائدها، وانقسام الناس يوم القيامة إِلى سعداء وأشقياء، وبيان مآل النفس الشريرة، والنفس الكريمة الخيِّرة {كَلا إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} إِلى نهاية السورة الكريمة. التذكير بقوم عاد وثمود وفرعون وما حل بهم من العذاب
{وَالْفَجْرِ(1)وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ(3)وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ(4)هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ(5)أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ(6)إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ(7)الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ(8)وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9)وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ(10)الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ(11)فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12)فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13)إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)}. {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هذا قسمٌ أي أُقسم بضوء الصبح عند مطاردته ظلمة الليل، وبالليالي العشر المباركات من أول ذي الحجة، لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج قال المفسرون : أقسم تعالى بالفجر لما فيه من خشوع القلب في حضرة الرب، وبالليالي الفاضلة المباركة وهي عشر ذي الحجة، لأنها أفضل أيام السنة، كما ثبت في صحيح البخاري (ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إِلى الله فيهن من هذه الأيام - يعني عشر ذي الحجة - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: ولا الجهادُ في سبيل الله، إِلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) {وَالشَّفعِ وَالْوَتْرِ} أي وأُقسم بالزوج والفرد من كل شيء فكأنه تعالى أقسم بكل شيء، لأن الأشياء إِما زوجٌ وإِما فردٌ، أو هو قسمٌ بالخلق والخالق، فإِن الله تعالى واحد "وتر" والمخلوقات ذكرٌ وأنثى "شفع" {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} أي وأُقسم بالليل إِذا يمضي بحركة الكون العجيبة، والتقييد بسريانه لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أي هل فيما ذكر من الأشياء قسمٌ مقنع لذي لب وعقل ؟! والاستفهام تقريريٌ لفخامة شأن الأمور المقسم بها، كأنه يقول : إِن هذا لقسمٌ عظيمٌ عند ذوي العقول والألباب، فمن كان ذا لُب وعقل علم أن ما أقسم الله عز وجل به من هذه الأشياء فيها عجائب، ودلائل تدل على توحيده وربوبيته، فهو حقيق بأن يُقسم به لدلالته على الإِله الخالق العظيم قال القرطبي: قد يُقسم الله بأسمائه وصفاته لعلمه، ويُقسم بأفعاله لقدرته كما قال تعالى {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} ويُقسم بمفعولاته لعجائب صنعه كما قال {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وجواب القسم محذوف تقديره: ورب هذه الأشياء ليعذبنَّ الكفار، ويدل عليه قوله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} ؟ أي ألم يبلغك يا محمد ويصل إِلى علمك، ماذا فعل الله بعاد قوم هود ؟ {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} أي عاداً الأولى أهل إرم ذات البناء الرفيع، الذين كانوا يسكنون بالأحقاف بين عُمان وحضرموت {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} أي تلك القبيلة التي لم يخلق الله مثلهم في قوتهم، وشدتهم، وضخامة أجسامهم ! والمقصود من ذلك تخويف أهل مكة بما صنع تعالى بعاد، وكيف أهلكهم وكانوا أطول أعماراً، وأشدَّ قوة من كفار مكة؟! قال ابن كثير: وهؤلاء "عاد الأولى" وهم الذين بعث الله فيهم رسوله "هوداً" عليه السلام فكذبوه وخالفوه وكانوا عتاة متمردين جبارين، خارجين عن طاعة الله مكذبين لرسله، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمَّرهم، وجعلهم أحاديث وعِبراً {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي وكذلك ثمود الذين قطعوا صخر الجبال، ونحتوا بيوتاً بوادي القُرى {وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين} وكانت مساكنهم في الحجر بين الحجاز وتبوك قال المفسرون: أول من نحت الجبال والصخور والرخام قبيلة ثمود وكانوا لقوتهم يخرجون الصخور، وينقبون الجبال فيجعلونها بيوتاً لأنفسهم، وقد بنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بوادي القرى {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} أي وكذلك فرعون الطاغية الجبار، ذي الجنود والجموع والجيوش التي تشد ملكه قال أبو السعود: وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربونها في منازلهم أو لتعذيبه بالأوتاد {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} أي أولئك المتجبرين "عاداً، وثمود، وفرعون" الذين تمردوا وعتوا عن أمر الله، وجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} أي فأكثروا في البلاد الظلم والجور والقتل، وسائر المعاصي والآثام {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أي فأنزل عليهم ربك ألواناً شديدة من العذاب بسب إِجرامهم وطغيانهم قال المفسرون: استعمل لفظ الصبّ لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب، كما قال القائل "صببنا على الظالمين سياطنا" والمراد أنه تعالى أنزل على كل طائفة نوعاً من العذاب، فأُهلكت عادٌ بالريح، وثمود بالصيحة، وفرعون وجنوده بالغرق كما قال تعالى {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} أي إِن ربك يا محمد ليرقب عمل الناس، ويحصيه عليهم، ويجازيهم به قال ابن جزي: المرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد، والمراد أنه تعالى رقيب على كل إِنسان، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار، وفي ذلك تهديدٌ لكفار قريش.
حال الطغاة المتجبرين، وجحود الإنسان
{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18)وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا(19)وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20)}.
ولما ذكر تعالى ما حلَّ بالطغاة المتجبرين، ذكر هنا طبيعة الإِنسان الكافر، الذي يبطر عند الرخاء، ويقنط عند الضراء فقال {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} أي إِذا اختبره وامتحنه ربه بالنعمة {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} أي فأكرمه بالغنى واليسار، وجعله منعماً في الدنيا بالبنين والجاه والسلطان {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} أي فيقول ربي أحسن إليَّ بما أعطاني من النعم التي أستحقها، ولم يعلم أن هذا ابتلاء له أيشكر أم يكفر ؟ {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي وأما إِذا اختبره وامتحنه ربه بالفقر وتضييق الرزق {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} أي فيقول غافلاً عن الحكمة: إِن ربي أهانني بتضييقه الرزق عليَّ قال القرطبي: وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، وإِنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظّ في الدنيا وقلّته، وأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه المؤدي إلى حظ الآخرة، وإِن وسَّع عليه في الدنيا حمده وشكره، وإِنما أنكر تعالى على الإِنسان قوله {رَبِّي أَكْرَمَنِ} وقوله {رَبِّي أَهَانَنِ} لأنه إِنما قال ذلك على وجه الفخر والكبر، لا على وجه الشكر، وقال: أهانن على وجه التشكي من الله وقلة الصبر، وكان الواجب عليه أن يشكر على الخير، ويصبر على الشر، ولهذا ردعه وزجره بقوله {كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} أي ليس الإِكرام بالغنى، والإِهانة بالفقر كما تظنون، بل الإِكرام والإِهانة بطاعة الله ومعصيته ولكنكم لا تعلمون، ثم قال { بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} أي بل أنتم تفعلون ما هو شرٌ من ذلك، وهو أنكم لا تكرمون اليتيم مع إِكرام الله لكم بكثرة المال !! {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي ولا يحض بعضكم بعضاً ولا يحثه على إِطعام المحتاج وعون المسكين {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا} أي وتأكلون الميراث أكلاً شديداً، لا تسألون أمن حلالٍ هو أم من حرام ؟ قال ابن جزي: هو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يُعطون من الميراث أنثى ولا صغيرا، بل ينفرد به الرجال {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} أي وتحبون المال حباً كثيراً مع الحرص والشره، وهذا ذمٌ لهم لتكالبهم على المال، وبخلهم بإِنفاقه.
ندم المقصرين عند رؤية العذاب
{كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21)وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)وَجِاْىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23)يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(26)يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً(28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي(29)وَادْخُلِي جَنَّتِي(30)}.
سبب النزول : نزول الآية (27) : {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ..} : أخرج ابن أبي حاتم عن بريدة في قوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} قال : نزلت في حمزة.
وأخرج أيضاً عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يشتري بئر رُومة، يستعذب بها، غفر الله له، فاشتراها عثمان، فقال : هل لك أن تجعلها سقاية للناس ؟ قال: نعم، فأنزل الله في عثمان: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ..}.
{كَلا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} {كَلا} للردع أي ارتدعوا أيها الغافلون وانزجروا عن ذلك، فأمامكم أهوال عظيمة في ذلك اليوم العصيب، وذلك حين تزلزل الأرض وتحرك تحريكاً متتابعاً، قال الجلال: أي زلزلت حتى ينهدم كل بناءٍ عليها وينعدم {وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي وجاء ربك يا محمد لفصل القضاء بين العباد، وجاءت الملائكة صفوفاً متتابعة صفاً بعد صف قال ابن جزي: قال المنذر بن سعيد: معناه ظهوره للخلق هنالك، وهذه الآية وأمثالها مما يجب الإِيمان به من غير تكييفٍ ولا تمثيل وقال ابن كثير: قام الخلائق من قبورهم لربهم، وجاء ربك لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعون إِليه بسيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، فيجيء الربُ تبارك وتعالى لفصل القضاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً {وَجِاْىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} أي وأحضرت جهنم ليراها المجرمون كقوله {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} وفي الحديث (يُؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها) {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ} أي في ذلك اليوم الرهيب، والموقف العصيب، يتذكر الإِنسان عمله، ويندم على تفريطه وعصيانه، ويريد أن يقلع ويتوب {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أي ومن أين يكون له الانتفاع بالذكرى وقد فات أوانها ؟! {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أي يقول نادماً متحسراً: يا ليتني قدمت عملاً صالحاً ينفعني في آخرتي، لحياتي الباقية قال تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي ففي ذلك اليوم ليس أحد أشد عذاباً من تعذيب الله من عصاه {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} أي ولا يقيد أحدٌ بالسلاسل والأغلال مثل تقييد الله للكافر الفاجر، وهذا في حق المجرمين من الخلائق، فأما النفس الزكية المطمئنة فيقال لها {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} أي يا أيتها النفس الطاهرة الزكية المطمئنة بوعد الله التي لا يلحقها اليوم خوفٌ ولا فزع {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} أي ارجعي إِلى رضوان ربك وجنته، راضيةً بما أعطاك الله من النعم، مرضيةً عنده بما قدمت من عمل قال المفسرون: هذا الخطاب والنداء يكون عند الموت، فيقال للمؤمن عند احتضاره تلك المقالة {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي فادخلي في زمرة عبادي الصالحين {وَادْخُلِي جَنَّتِي} أي وادخلي جنتي دار الأبرار الصالحين. _________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "الغاشية" الجمعة 11 ديسمبر 2009, 6:07 am | |
| سورة الْغَاشِيَة أهوال القيامة وأحوال الكفار في النار حال السعداء أهل الجنة التفكر في الخلق بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الْغَاشِيَة مكية، وقد تناولت موضوعين أساسيين وهما :
1- القيامة وأحوالها وأهوالها، وما يلقاه الكافر من العناء والبلاء، وما يلقاه المؤمن فيها من السعادة والهناء.
2- الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، وقدرته الباهرة، في خلق الإِبل العجيبة، والسماء البديعة، والجبال المرتفعة، والأرض الممتدة الواسعة، وكلها شواهد على وحدانية الله وجلال سلطانه. وختمت السورة الكريمة بالتذكير برجوع الناس جميعاً إلى الله سبحانه للحساب والجزاء. أهوال القيامة وأحوال الكفار في النار
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ(1)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ(5)لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ(6)لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ(7)}.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} الاستفهام للتشويق إلى استماع الخبر، وللتنبيه والتفخيم لشأنها أي هل جاءك يا محمد خبرُ الداهية العظيمة التي تغشى الناس وتعمُّهم بشدائدها وأهوالها، وهي القيامة ؟ قال المفسرون: سميت غاشية لأنها تغشى الخلائق بأهوالها وشدائدها، وتعمُّهم بما فيها من المكاره والكوارث العظيمة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي وجوهٌ في ذلك اليوم ذليلة خاضعةٌ مهينة {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي دائبة العمل فيما يُتعبها ويشقيها في النار قال المفسرون: هذه الآية في الكفار، يتعبون ويشقون بسبب جر السلاسل والأغلال، وخوضهم في النار خوض الإِبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ودركاتها كما قال تعالى {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} وهذا جزاء تكبرهم في الدنيا عن عبادة الله، وانهماكهم في اللذات والشهوات {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} أي تدخل ناراً مسعَّرة شديدة الحر قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي تسقى من عين متناهية الحرارة، وصل حرها وغليانها درجة النهاية {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} أي ليس لأهل النار طعام إلا الضريع وهو نبتٌ ذو شوك تسميه قريش "الشبرق" وهو أخبث طعامِ وأبشعه وهو سم قاتل قال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه وأخبثه .. ذكر تعالى هنا أن طعامهم الضريع {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} وقال في الحاقَّة {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} ولا تنافي بينهما، لأن العقاب ألوان، والمعذبون أنواع، فمنهم من يكون طعامه الزقوم، ومنهم من يكون طعامه الضريع، ومنهم من يكون طعامه الغسلين، وهكذا يتنوع العذاب {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} أي لا يفيد القوة والسمن في البدن، ولا يدفع الجوع عن آكله قال أبو السعود: أي ليس من شأنه الإِسمانُ والإِشباع، كما هو شأن طعام الدنيا، وقد روي أنه يُسلَّط عليهم الجوع بحيث يضطرهم إلى أكل الضريع، فإذا أكلوه يُسلط عليهم العطش فيضطرهم إلى شرب الحميم، فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ}. حال السعداء أهل الجنة
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ(8)لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(10)لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيةً(11)فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(12)فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ(13)وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ(14)وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15)وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ(16) }.
ولما ذكر حال الأشقياء أهل النار، أتبعه بذكر حال السعداء أهل الجنة فقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} أي وجوه المؤمنين يوم القيامة ناعمة ذات بهجةٍ وحسن، وإشراق ونضارة كقوله تعالى {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي لعملها الذي عملته في الدنيا وطاعتها لله راضية مطمئنة، لأن هذا العمل أورثها الفردوس دار المتقين {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي في حدائق وبساتين مرتفعة مكاناً وقدراً، وهم في الغرفات آمنون {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} أي لا تسمع في الجنة شتماً، أو سباً، أو فحشاً قال ابن عباس: لا تسمع أذى ولا باطلاً {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي فيها عيونٌ تجري بالماء السلسبيل لا تنقطع أبداً قال الزمخشري: التنوين في {عينٌ} للتكثير أي عيونٌ كثيرة تجري مياهها {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} أي في الجنة أسرة مرتفعة، مكلله بالزبرجد والياقوت، عليها الحور العين، فإِذا أراد وليُّ الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} أي واقداح موضوعة على حافات العيون، معدة لشرابهم لا تحتاج إلى من يملأَها {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} أي ووسائد - مخدَّات - قد صُفَّ بعضها إلى جانب بعض ليستندوا عليها {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} أي وفيها طنافس فاخرة لها حمل رقيق مبسوطة في أنحاء الجنة. التفكر في الخلق
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17)وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18)وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19)وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20)فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21)لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22)إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ(23)فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ(24)إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)} سبب النزول :
نزول الآية (17) :
{أَفَلا يَنْظُرُونَ..}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد عن قتادة قال: لما نعت الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}.
ثم ذكر تعالى الدلائل والبراهين الدالة على قدرته ووحدانيته فقال {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} أي أفلا ينظر هؤلاء الناس نظر تفكر واعتبار، إلى الإِبل - الجمال - كيف خلقها الله خلقاً عجيباً بديعاً يدل على قدرة خالقها ؟! قال ابن جزي: في الآية حضٌ على النظر في خلقتها، لما فيها من العجائب في قوتها، وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف، وصبرها على العطش، وكثرة المنافع التي فيها، من الركوب والحمل عليها، وأكل لحومها، وشرب ألبانها وغير ذلك {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} أي وإلى السماء البديعة المحكمة، كيف رفع الله بناءها، وأعلى سمكها بلا عمد ولا دعائم ؟ {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} أي إلى الجبال الشاهقة كيف نصبت على الأرض نصباً ثابتاً راسخاً لا يتزلزل ؟ ! {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} أي وإلى الأرض التي يعيشون عليها، كيف بسطت ومُهدت حتى صارت شاسعة واسعة يستقرون عليها، ويزرعون فيها أنواع المزروعات؟! قال الألوسي: ولا ينافي هذا، القول بأنها كرة أو قريبة من الكرة لمكان عظمها. والحكمةُ في تخصيص هذه الأشياء بالذكر، أن القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً في الأودية والبراري منفردين عن الناس، والإِنسان إذا ابتعد عن المدينة أقبل على التفكر، فأول ما يقع بصره على البعير الذي يركبه فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر فوقه لم ير غير السماء، وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى أسفل من بعيره الذي هو راكبٌ عليه لم يرَ غير الأرض وهذه كلها مخلوقات تدلّ على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنه الرب العظيم، الخالق المالك المتصرف، الذي لا يستحق العبادة سواه .. ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد ولم يعتبر بذلك الكفار، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بوعظهم وتذكيرهم فقال {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} أي فعظهم يا محمد وخوّفهم، ولا يهمنَّك أنهم لا ينظرون ولا يتفكرون، فإنما أنت واعظ ومرشد {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} أي لست بمتسلط عليهم ولا قاهر لهم حتى تجبرهم على الإِيمان {إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} أي لكن من أعرض عن الوعظ والتذكير، وكفر بالله العلي القدير {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} أي فيعذبه الله بنار جهنم الدائم عذابها قال القرطبي: وإنما قال {الأَكْبَرَ} لأنهم عُذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} أي إلينا رجوعهم بعد الموت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أي ثم إن علينا وحدنا حسابهم وجزاءهم. _________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "الأعلى" الجمعة 11 ديسمبر 2009, 6:11 am | |
| سورة الأَعْلَى تنزيه الله عز وجل وتمجيده التذكير، وتطهير النفس من الشرك، وتفضيل الآخرة على الدنيا بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الأَعْلَى من السور المكية، وهي تعالج باختصار المواضيع الآتية : 1- الذاتِ العلية وبعض صفات الله جل وعلا، والدلائل على القدرة والوحدانية. 2- الوحي والقرآن المنزَّل على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وتيسير حفظه عليه صلى الله عليه وسلم. 3- الموعظة الحسنة التي ينتفع بها أهل القلوب الحيَّة، ويستفيد منها أهل السعادة والإِيمان. * ابتدأت السورة الكريمة بتنزيه الله جل وعلا، الذي خلق فأبدع، وصوَّر فأحسن، وأخرج العشب، والنبات، رحمة بالعباد {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى..} الآيات. * ثم تحدثت عن الوحي والقرآن، وآنست الرسول صلى الله عليه وسلم بالبشارة بتحفيظه هذا الكتاب المجيد، وتيسير حفظه عليه، بحيث لا ينْساه أبداً {سَنُقْرِئُكَ فلا تَنسَى* إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}. * ثم أمرت بالتذكير بهذا القرآن، الذي يستفيدُ من نوره المؤمنون، ويتعظ بهديه المتقون، {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى* سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى..} الآيات. * وختمت السورة ببيان فوز من طهَّر نفسه من الذنوب والآثام، وزكاها بصالح الأعمال {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} إِلى نهاية السورة الكريمة. تنزيه الله عز وجل وتمجيده
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1)الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى(4)فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى(5)سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى(6)إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(7)وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى(8)}.
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي نزِّه يا محمد ربك العلي الكبير عن صفات النقص، وعما يقوله الظالمون، مما لا يليق به سبحانه وتعالى من النقائص والقبائح، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إِذا قرأ هذه الآية قال: "سبحان ربي الأعلى" .. ثم ذكر من أوصافه الجليلة، ومظاهر قدرته الباهرة، ودلائل وحدانيته وكماله فقال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي خلق المخلوقات جميعها، فأتقن خلقها، وأبدع صنعها، في أجمل الأشكال، وأحسن الهيئات قال أبو حيّان: أي خلق كل شيء فسواه، بحيث لم يأت متفاوتاً، بل متناسباً على إحكام وإتقان، للدلالة على أنه صادر من عالم حكيم {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} أي قدَّر في كل شيء خواصه ومزاياه بما تجلُّ عنه العقول والأفهام، وهدى الإِنسان لوجه الانتفاع بما أودعه فيها، وهدى الإِنعام إلى مراعيها، ولو تأملت ما في النباتات من الخواص، وما في المعادن من المزايا والمنافع، واهتداء الإِنسان لاستخراج الأدوية والعقاقير النافعة من النباتات، واستخدام المعادن في صنع المدافع والطائرات، لعلمتَ حكمةَ العلي القدير، الذي لولا تقديره وهدايته لكنا نهيم في دياجير الظلام كسائر الأنعام قال المفسرون: إِنما حذف المفعول لإفادة العموم أي قدَّر لكل مخلوق وحيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعَرَّفه وجه الانتفاع به {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي أنبت ما ترعاه الدواب، من الحشائش والأعشاب {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي فصيَّره بعد الخضرة أسود بالياً، بعد أن كان ناضراً زاهياً، ولا يخفى ما في المرعى من المنفعة بعد صيرورته هشيماً يابساً، فإنه يكون طعاماً جيداً لكثير من الحيوانات، فسبحان من أحكم كل شيء {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} !! وبعد أن ذكر دلائل قدرته ووحدانيته، ذكر فضله وإنعامه على رسوله فقال {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} أي سنقرئك يا محمد هذا القرآن العظيم فتحفظه في صدرك ولا تنساه {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي لكن ما أراد الله نسخه فإنك تنساه .. وفي هذه الآية معجزة له عليه الصلاة والسلام، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام، وكونه يحفظ هذا الكتاب العظيم من غير دراسة ولا تكرار ولا ينساه أبداً، من أعظم البراهين على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى ووعدٌ لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} أي هو تعالى عالم بما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي ونوفقك للشريعة السمحة البالغة اليسر، التي هي أيسر وأسهل الشرائع السماوية، وهي شريعة الإِسلام. التذكير، وتطهير النفس من الشرك، وتفضيل الآخرة على الدنيا {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى(9)سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10)وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى(11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12)ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا(13)قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى(14)وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15)بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى(18)صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(19)}. {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أي فذكر يا محمد بهذا القرآن حيث تنفع الموعظة والتذكرة كقوله {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} قال ابن كثير: ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال علي رضي الله عنه "ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان فتنة لبعضهم" وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله" ؟ {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} أي سينتفع بهذه الذكرى والموعظة من يخاف الله تعالى {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} أي ويرفضها ويبتعد عن قبول الموعظة الكافر المبالغ في الشقاوة {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} أي الذي يدخل نار جهنم المستعرة، العظيمة الفظيعة قال الحسن: النار الكبرى نارُ الآخرة، والصغرى نارُ الدنيا {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا الحياة الطيبة الكريمة، بل هو دائم في العذاب والشقاء {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} أي قد فاز من طهَّر نفسه بالإِيمان، وأخلص عمله للرحمن {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي وذكر عظمة ربه وجلاله، فصلى خشوعاً وامتثالاً لأمره {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي بل تفضلون أيها الناس هذه الحياة الفانية على الآخرة الباقية، فتشتغلون لها وتنسون الآخرة {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي والحال أن الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى، لأن الدنيا فانية، والآخرة باقية،والباقي خيرٌ من الفاني، فكيف يؤثر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى ؟ وكيف يهتم بدار الغرور. ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلود ؟ قرأ ابن مسعود هذه الآية فقال لأصحابه: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ قالوا: لا، قال: لأن الدنيا أحضرت وعجلت لنا بطعامها، وشرابها، ونسائها، ولذاتها، وبهجتها، وإن الآخرة غُيبتْ وزُويت عنا، فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} أي إنَّ هذه المواعظ المذكورة في هذه السورة، مثبتة في الصحف القديمة المنزلة على إبراهيم وموسى عليهما السلام، فهي مما توافقت فيه الشرائع، وسطرته الكتب السماوية، كما سطره هذا الكتاب المشهود. _________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "الطارق" السبت 12 ديسمبر 2009, 7:07 am | |
| سورة الطَّارِق توكيل الملائكة بحفظ النفوس قسمه تعالى على صدق الكتاب المعجز بَين يَدَيْ السُّورَة * هذه السورة الكريمة من السور المكية، وهي تعالج بعض الأمور المتعلقة بالعقيدة الإِسلامية، ومحور السورة يدور حول الإِيمان بالبعث والنشور، وقد أقامت البرهان الساطع والدليل القاطع على قدرة الله جل وعلا على إِمكان البعث، فإِن الذي خلق الإِنسان من العدم قادرٌ على إِعادته بعد موته. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات الكواكب الساطعة، التي تطلع ليلاً لتضيء للناس سُبلهم، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، على أن كلَّ إِنسان قد وُكل به من يحرسه، ويتعهد أمره من الملائكة الأبرار {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ* إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}. * ثم ساقت الأدلة والبراهين، على قدرة ربّ العالمين، على إِعادة الإِنسان بعد فنائه {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ* إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}.
* ثم أخبرت عن كشف الأسرار، وهتك الأستار في الآخرة، حيث لا معين للإِنسان ولا نصير {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ* فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}.
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن العظيم، معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الخالدة، وحجته البالغة إِلى الناس أجمعين، وبيَّنت صدق هذا القرآن، وأوعدت الكفرة المجرمين بالعذاب الأليم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ* وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ* إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ* إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ كَيْدًا* فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}. توكيل الملائكة بحفظ النفوس
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ(1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ(2)النَّجْمُ الثَّاقِبُ(3)إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ(4)فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(7)إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ(8)يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ(9)فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ(10)}.
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} أي أقسم بالسماء وبالكواكب النيرة، التي تظهر ليلاً وتختفي نهاراً قال المفسرون: سُمي النجم طارقاً لأنه إِنما يظهر بالليل ويختفي بالنهار، وكلُّ ما يجيء ليلاً فهو طارق {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} استفهام للتفخيم والتعظيم أي وما الذي أعلمك يا محمد ما حقيقة هذا النجم ؟ ثم فسره بقوله {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} أي النجم المضيء الذي يثقب الظلام بضيائه قال الصاوي: قد كثر منه تعالى في كتابه المجيد ذكرُ الشمس والقمر والنجوم، لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها، ومغاربها عجيبة دالة على انفراد خالقها بالكمالات، لأن الصّنعة تدل على الصانع {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} هذا جواب القسم أي كلُّ نفسٍ إِلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خيرٍ وشر كقوله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ} قال ابن كثير: أي كلُّ نفسٍ عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات .. ثم أمر تعالى بالنظر والتفكر في خلق الإِنسان، تنبيهاً على إمكان البعث والحشر فقال {فَلْينظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} ؟ أي فلينظر الإِنسان في أول نشأته نظرة تفكر واعتبار، من أي شيءٍ خلقه الله ؟ {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي خلق من المنيّ المتدفق، الذي ينصب بقوة وشدة، يتدفق من الرجل والمرأة فيتكون منه الولد بإذن الله {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} أي يخرج هذا الماء من بين الصلب وعظم الصدر، من الرجل والمرأة {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي إن الله تعالى الذي خلق الإِنسان ابتداءً، قادر على إِعادته بعد موته قال ابن كثير: نبه تعالى الإِنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وأرشده إِلى الاعتراف بالمعاد، لأن من قدر على البداءة، فهو قارد على الإِعادة بطريق الأولى {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي يوم تمتحن القلوب وتختبر، ويُعرف ما بها من العقائد والنيات، ويميز بين ما طاب منها وما خبث {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} أي فليس للإِنسان في ذلك الوقت قوة تدفع عنه العذاب، ولا ناصر ينصره ويجيره، قال ابن جزي : لما كان دفع المكاره في الدنيا إِما بقوة الإِنسان، أو بنصرة غيره له، أخبره الله تعالى أنه يعدمها يوم القيامة، فلا قوة له في نفسه، ولا أحد ينصره من الله. قسمه تعالى على صدق الكتاب المعجز
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ(11)وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ(12)إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ(13)وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ(14)إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15)وَأَكِيدُ كَيْدًا(16)فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(17)}. ولما ذكر تعالى أمر المبدأ والمعاد، عاد فأقسم على صدق هذا الكتاب المعجز فقال {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} أي أُقسم بالسماء ذات المطر، الذي يرجع على العباد حيناً بعد حين قال ابن عباس: الرَّجع المطرُ ولولاه لهلك الناس وهلكت مواشيهم {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي وأُقسم بالأرض التي تتصدع وتنشق، فيخرج منها النبات والأشجار والأزهار قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات والثمار .. أقسم سبحانه وتعالى بالسماء التي تفيض علينا الماء، وبالأرض التي تخرج لنا الثمار والنبات، والسماء للخلق كالأب، والأرض لهم كالأم، ومن بينهما تتولد النعم العظيمة، والخيرات العميمة، التي بها بقاء الإِنسان والحيوان {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي إِن هذا القرآن لقولٌ فاصل بين الحق والباطل، قد بلغ الغاية في بيانه وتشريعه وإِعجازه {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي ليس فيه شيءٌ من اللهو والباطل والعبث، بل هو جدٌّ كله، لأنه كلام أحكم الحاكمين، فجديرٌ بقارئه أن يتعظ بآياته، ويستنير بتوجيهاته وإِرشاداته {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} أي إِن هؤلاء المشركين - كفار مكة - يعملون المكايد لإِطفاء نور الله، وإِبطال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَكِيدُ كَيْدًا} أي وأجازيهم على كيدهم بالإِمهال ثم النكال، حيث آخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر كقوله تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} قال أبو السعود: أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث أستدرجهم من حيث لا يعلمون {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} أي لا تستعجل في هلاكهم والانتقام منهم، وأمهلهم قليلاً فسوف ترى ما أصنع بهم، وهذا منتهى الوعيد والتهديد _________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "البروج" السبت 12 ديسمبر 2009, 7:13 am | |
| سورة الْبُرُوج قصة أصحاب الأخدود عقاب الكفار وثواب المؤمنين انتقام الله الشديد من أعداء رسله وأوليائه بَين يَدَيْ السُّورَة
* هذه السورة الكريمة من السور المكية، وهي تعرض لحقائق العقيدة الإِسلامية، والمحورُ الذي تدور عليه السورة الكريمة هي حادثة "أصحاب الأخدود" وهي قصة التضحية بالنفس في سبيل العقيدة والإِيمان. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات النجوم الهائلة، ومداراتها الضخمة، التي تدور فيها تلك الأفلك، وباليوم العظيم المشهود وهو يوم القيامة، وبالرسل والخلائق على هلاك ودمار المجرمين، الذين طرحوا المؤمنين في النار ليفتنوهم عن دينهم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ* قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} الآيات. * ثم تلاها الوعيد والإِنذار لأولئك الفجار على فعلتهم القبيحة الشنيعة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}. * وبعد ذلك تحدثت عن قدرة الله على الانتقام من أعدائه الذين فتنوا عباده وأولياءه {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ* إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ* وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ* ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}. * وختمت السورة الكريمة بقصة الطاغية الجبار "فرعون" وما أصابه وقومه من الهلاك والدمار بسبب البغي والطغيان {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ* بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ* وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ* بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} وهو ختم رائع يناسب موضوع السورة الكريمة. قصة أصحاب الأخدود {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ(2)وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ(3)قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ(4)النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ(5)إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6)وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ(7)وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(8)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(9)}. {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} أي وأُقسم بالسماء البديعة ذات المنازل الرفيعة، التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها قال المفسرون: سميت هذه المنازل بروجاً لظهورها، وشبهت بالقصور لعلوها وارتفاعها لأنها منازل للكواكب السيارة {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} أي وأُقسم باليوم الموعود وهو يوم القيامة، الذي وعد الله به الخلائق بقوله {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} أي وأُقسم بمحمد والأنبياء الذين يشهدون على أممهم يوم القيامة، وبجميع الأمم والخلائق الذين يجتمعون في أرض المحشر للحساب كقوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} وقيل: الشاهد هذه الأمة، والمشهود سائر الأمم ودليله {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} هذا هو جواب القسم، والجملة دعائية أي قاتل الله ولعن أصحاب الأخدود، الذين شقوا الأرض طولاً وجعلوها أخاديد، وأضرموا فيها النار ليحرقوا بها المؤمنين قال القرطبي: الأخدودُ الشقُّ العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد، ومعنى {قُتِلَ} أي لعن، قال ابن عباس: كل شيءٍ في القرآن {قُتِلَ} فهو لعن .. ثم فصَّل تعالى المراد من الأخدود فقال {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} أي النار العظيمة المتأججة، ذات الحطب واللهب، التي أضرمها الكفار في تلك الأخاديد لإِحراق المؤمنين قال أبو السعود: وهذا وصف لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما فيها من الحطب، والقصدُ وصف النار بالشدة والهول .. ثم بالغ تعالى في وصف المجرمين فقال {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أي حين هم جلوس حول النار، يتشفون بإِحراق المؤمنين فيها، ويشهدون ذلك الفعل الشنيع والغرض تخويف كفار قريش، فقد كانوا يعذبون من أسلم من قومهم، ليرجعوا عن الإِسلام، فذكر الله تعالى قصة "أصحاب الأخدود" وعيداً للكفار، وتسليةً للمؤمنين المعذبين، ثم قال تعالى {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي وما كان لهم ذنب ولا انتقموا منهم، إِلا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد الغالب الذي لا يُضام من لاذَ بجنابه، الحميد في جميع أقواله وأفعاله، والغرضُ أن سبب البطش بهم، وتحريقهم بالنار، لم يكن إِلا إيمانهم بالله الواحد الأحد، وهذا ليس بذنب يستحقون به العقوبة، لكنّه الطغيان والإِجرام {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هذا الإِله الجليل المالك لجميع الكائنات، المستحق للمجد والثناء قال أبو حيّان: وإِنما ذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به، وهو كونه تعالى {عزيزاً} أي غالباً قادراً يُخشى عقابه {حميداً} أي مُنعماً يجب له الحمد على نعمه {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له، إِنما ذكر ذلك تقريراً لأن ما نقموه منهم هو الحقُّ الذي لا ينقمه إِلا مبطلٌ منهمك في الغي {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي هو تعالى مطَّلع على أعمال عباده، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم، وفيه وعدٌ للمؤمنين، ووعيدٌ للمجرمين. عقاب الكفار وثواب المؤمنين {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ(11)}. ثم شدَّد تعالى النكير على المجرمين الذين عذبوا المؤمنين فقال {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي عذبوا وأحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار ليفتنوهم عن دينهم {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي ثم لم يرجعوا عن كفرهم وطغيانهم {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي فلهم عذاب جهنم المخزي بكفرهم، ولهم العذاب المحرق بإِحراقهم المؤمنين .. ولما ذكر مصير المجرمين أعقبه بذكر مصير المؤمنين فقال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي الذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والعمل الصالح {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي لهم البساتين والحدائق الزاهرة، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة قال الطبري: هي أنهار الخمر واللبن والعسل {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي ذلك هو الظفر العظيم بغاية المطلوب، الذي لا سعادة ولا فوز بعده. انتقام الله الشديد من أعداء رسله وأوليائه
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12)إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ(13)وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ(14)ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ(15)فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(16)هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ(17)فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ(18)بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ(19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ(20)بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ(21)فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ(22)}.
ثم أخبر تعالى عن انتقامه الشديد من أعداء رسله وأوليائه فقال {إِنَّ بطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي إِن انتقام الله وأخذه الجبابرة والظلمة، بالغ الغاية في الشدة قال أبو السعود: البطش الأخذ بعنف، وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، وهو بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إِياهم بالعذاب والانتقام {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ}أي هو جل وعلا الخالق القادر، الذي يبدأ الخلق من العدم، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} أي وهو الساتر لذنوب عباده المؤمنين، اللطيف المحسن إِلى أوليائه، المحبُّ لهم قال ابن عباس: يودُّ أولياءه كما يودُّ أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة {ذُو الْعَرْشِ} أي صاحب العرش العظيم، وإِنما أضاف العرش إِلى الله وخصَّه بالذكر، لأن العرش أعظم المخلوقات، وأوسعُ من السماواتِ السبع، وخلقُه بهذا الوصف يدل على عظمة خالقه {الْمَجِيدُ} أي هو تعالى المجيدُ، العالي على جميع الخلائق، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه قال القرطبي: أي لا يمتنع عليه شيء يريده. روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إِليك الطبيبُ ؟ قال : نعم : قالوا : فماذا قال لك ؟ قال قال لي :{إِني فعَّال لما أريد}. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} ؟ استفهامٌ للتشويق أي هل بلغك يا محمد خبر الجموع الكافرة، الذين تجنَّدوا لحرب الرسل والأنبياء ؟ هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وما أنزل عليهم من النقمة والعذاب ؟ قال القرطبي : يؤنسه بذلك ويسليه، ثم بيَّن تعالى مَنْ هم فقال {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي هم فرعون وثمود، أولي البأس والشدة، فقد كانوا أشد بأساً، وأقوى مراساً من قومك، ومع لك فقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي لم يعتبر كفار قريش بما حلَّ بأولئك الكفرة المكذبين، بل هم مستمرون في التكذيب فهم أشد منهم كفراً وطغياناً {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي والله تعالى قادرٌ عليهم، لا يفوتونه ولا يعجزونه، لأنهم في قبضته في كل حينٍ وزمان {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} أي بل هذا الذي كذبوا به، كتابٌ عظيم شريف، متناهٍ في الشرف والمكانة، قد سما على سائر الكتب السماوية، في إِعجازه ونظمه وصحة معانيه {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أي هو في اللوح المحفوظ الذي في السماء، محفوظٍ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل. _________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "الانشقاق" الإثنين 21 ديسمبر 2009, 11:46 pm | |
| سورة الانشقاق
أهوال يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين
تأكيد وقوع يوم القيامة، وما يرافقه من أهوال
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة الانشقاق مكية، وقد تناولت الحديث عن أهوال القيامة، كشأن سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية.
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر بعض مشاهد الآخرة، وصوَّرت الانقلاب الذي يحدث في الكون عند قيام الساعة {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ* وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ*}.
* ثم تحدثت عن خلق الإِنسان الذي يكدّ ويتعب في تحصيل أسباب رزقه ومعاشه، ليقدِّم لآخرته ما يشتهي من صالحٍ أو طالحٍ، ومن خيرٍ أو شر، ثم هناك الجزاء العادل {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} الآيات.
* ثم تناولت موقف المشركين من هذا القرآن العظيم، وأقسمت بأنهم سيلقون الأهوال والشدائد، ويركبون الأخطار في ذلك اليوم العصيب الذي لا ينفع فيه مال ولا ولد {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ* وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ* وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ* لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بتوبيخ المشركين على عدم إِيمانهم بالله، مع وضوح آياته وسطوع براهينه، وبشرتهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ* بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ* فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
أهوال يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين
{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ(1)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2)وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ(3)وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ(4)وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(5)يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6)فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8)وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا(12)إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13)إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ(14)بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا(15) }.
{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} هذه الآيات بيان لأهوال القيامة، وتصويرٌ لما يحدث بين يدي الساعة من كوارث وأهوال يفزع لها الخيال والمعنى: إِذا تشققت السماء وتصدَّعت مؤذنة بخراب الكون قال الألوسي: تنشق لهول يوم القيامة {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وانقادت لحكمه وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع وأن تنشق من أهوال القيامة {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} أي وإِذا الأرض زادت سَعَةً بإِزالة جبالها وآكامها، وصارت مستوية لا بناء فيها ولا وهاد ولا جبال {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز والمعادن وتخلت عنهم قال القرطبي: أخرجت أمواتها وتخلت عنهم، وألقت ما في بطنها من الكنوز والمعادن كما تلقي الحامل ما في بطنها من الحمل، وذلك يؤذن بعظم الهول {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وأطاعت، وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع .. وجواب {إِذَا} محذوف ليكون أبلغ في التهويل أي إِذا حدث كل ما تقدم، لقي الإِنسان من الشدائد والأهوال، ما لا يحيط به الخيال .. ثم أخبر تعالى عن كدِّ الإِنسان وتعبه في هذه الحياة، وأنه يلقى جزاءه عند الله فقال {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} الخطاب عام لكل إِنسان أي أنت يا ابن آدم جاهدٌ ومجدٌّ بأعمالك التي عاقبتها الموت، والزمانُ يطير وأنت في كل لحظة تقطع شوطاً من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرعٌ إِلى الموت، ثم تلاقي ربك فيكافئك على عملك، إِن كان خيراً فخيرٌ، وإِن كان شراً فشرٌّ قال أبو حيّان: كادحٌ أي جاهد في عملك من خير وشر طول حياتك إِلى لقاء ربك، فملاقٍ جزاء كدحك من ثواب وعقاب .. ثم ذكر تعالى انقسام الناس إِلى سعداء، وأشقياء وإِلى من يأخذ كتابه بيمينه، ومن يأخذ كتابه بشماله فقال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه، وهذه علامة السعادة {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} أي فسوف يكون حسابه سهلاً هيناً يُجازى على حسناته، ويُتجاوز عن سيئاته، وهذا هو العرضُ كما جاء في الحديث الصحيح {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أي ويرجع إِلى أهله في الجنة مبتهجاً مسروراً بما أعطاه الله من الفضل والكرامة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} أي وأمَّا من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره، وهذه علامة الشقاوة {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} أي يصيح بالويل والثبور، ويتمنى الهلاك والموت {وَيَصْلَى سَعِيرًا} أي ويدخل ناراً مستعرة، يقاسي عذابها وحرَّها {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أي لأنه كان في الدنيا مسروراً مع أهله، غافلاً لاهياً، لا يفكر في العواقب، ولا تخطر بباله الآخرة قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها، فأعقبهم به الحزن الطويل {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي إِنه ظنَّ لن يرجع إِلى ربه، ولن يحييه الله بعد موته للحساب والجزاء، فلذلك كفر وفجر {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} أي بلى سيعيده الله بعد موته، ويجازيه على أعماله كلها خيرها وشرها، فإِنه تعالى مطلع على العباد، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم.
تأكيد وقوع يوم القيامة، وما يرافقه من أهوال
{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ(16)وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ(17)وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ(18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ(19)فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(20)وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ(21)بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ(22)وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ(23)فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(24) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(25)}
{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} {لا} لتأكيد القسم أي فأقسم قسماً مؤكداً بحمرة الأفق بعد غروب الشمس {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي وبالليل وما جمع وضمَّ إِليه، وما لفَّ في ظلمته من الناس والدواب والهوام قال المفسرون: الليل يسكن فيه كل الخلق، ويجمع ما كان منتشراً في النهار من الخلق والدواب والأنعام، فكلٌ يأوي إِلى مكانه وسربه، ولهذا امتن تعالى على العباد بقوله {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} فإِذا جاء النهار انتشروا، وإِذا جاء الليل أوى كل شيء إِلى مأواه {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي وأقسمُ بالقمر إِذا تكامل ضوؤه ونوره، وصار بدراً ساطعاً مضيئاً {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} هذا جواب القسم أي لتلاقُنَّ يا معشر الناس أهوالاً وشدائد في الآخرة عصيبة قال الألوسي: يعني لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها وقال الطبري: المراد أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} استفهام يقصد به التوبيخ أي فما لهؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون بالبعث بعد الموت، بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على وقوعه؟ {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي وإِذا سمعوا آيات القرآن، لم يخضعوا ولم يسجدوا للرحمن؟ {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} أي بل طبيعة هؤلاء الكفار التكذيب والعناد والجحود، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب قال ابن عباس: {يُوعُونَ} أي يضمرون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فبشرهم على كفرهم وضلالهم بعذاب مؤلم موجع، واجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم قال ابن جزي: ووضع البشارة في موضع الإِنذار تهكم بالكفار {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي لكنْ الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي لهم ثوابٌ في الآخرة غير منقوص ولا مقطوع، بل هو دائم مستمر. ختم تعالى السورة الكريمة ببيان نعيم الأبرار، بعد أن ذكر مآل الفجار، وهو توضيح لما أجمله في أول السورة من ملاقاة كل عامل لجزائه في قوله {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}.
_________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "المطففين" الإثنين 21 ديسمبر 2009, 11:49 pm | |
| سورة المُطَفِّفِين
عقاب المطففين في الكيل والوزن مآل الفجار مآل الأبرار معاملة الكفار في الآخرة بمثل معاملتهم للمؤمنين في الدنيا
بَين يَدَيْ السُّورَة
* هذه السورة الكريمة مكية، وأهدافها نفس أهداف السور المكية، تعالج أمور العقيدة وتتحدث عن الدعوة الإِسلامية في مواجهة خصومها الألداء.
* ابتدأت السورة الكريمة بإِعلان الحرب على المطففين في الكيل والوزن، الذين لا يخافون الآخرة ولا يحسبون حساباً للوقفة الرهيبة بين يدي أحكم الحاكمين {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.
* ثم تحدثت عن الأشقياء الفجار، وصوَّرت جزاءهم يوم القيامة، حيث يساقون إِلى الجحيم مع الزجر والتهديد {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} الآيات. * ثم عرضت لصفحة المتقين الأبرار، وما لهم من النعيم الخالد الدائم، في دار العز والكرامة، وذلك في مقابلة ما أعدَّه الله للأشقياء الأشرار، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب {إِنَّ الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يُسقون من رحيقٍ مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}. * وختمت السورة الكريمة بمواقف أهل الشقاء والضلال، من عباد الله الأخيار، حيث كانوا يهزءون بهم في الدنيا ويسخرون عليهم لإِيمانهم وصلاحهم {إِن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون} إلى آخر السورة الكريمة.
عقاب المطففين في الكيل والوزن
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1)الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2)وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)} سبب النزول : نزول الآية (1) :
أخرج النسائي وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كانوا من أبخس الناس كيلاً، فأنزل الله : {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} أي هلاك وعذاب ودمار، لأولئك الفجار الذين ينقصون المكيال والميزان، ثم بيَّن أوصافهم القبيحة بقوله {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} أي إِذا أخذوا الكيل من الناس أخذوه وافياً كاملاً لأنفسهم {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أي وإِذا كالوا للناس أو وزنوا لهم، ينقصون الكيل والوزن قال المفسرون: نزلت في رجلٍ يُعرف بـ "أبي جهينة" كان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر وهو وعيدٌ لكل من طفَّف الكيل والوزن، وقد أهلك الله قوم شعيب لبخسهم في المكيال والميزان، وفي الحديث (ولا طففوا الكيل إِلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين) {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} أي ألا يعلم ويستيقن أولئك المطففون أنهم سيبعثون ليوم عصيب، شديد الهول، كثير الفزع ؟! {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي يوم يقفون في المحشر حفاةً عراةً، خاشعين خاضعين لرب العالمين قال أبو حيّان: وفي هذا الإِنكار والتعجيب، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس لله خاضعين، ووصفهُ برب العالمين، دليلٌ على عظم هذا الذنب وهو التطفيف، وفي الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى يغيب أحدهم في رشحه إِلى أنصاف أُذنيه. مآل الفجار
{كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ(7)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ(8)كِتَابٌ مَرْقُومٌ(9)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ(10)الذين يكذبون بيوم الدين(11)وما يكذِّب به إلا كلُّ معتدٍ أثيم(12) إِذا تتلى عليه آياتُنا قال أساطيرُ الأولين(13)كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون(14)كلاَّ إِنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون(15)ثمَّ إِنَّهم لصالوا الجحيم(16)ثم يُقال هذا الذي كنتم به تكذبون(17)}
ثم ذكر تعالى مآل الفجار، ومآل الأبرار فقال {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} أي ليرتدع هؤلاء المطففون عن غفلتهم عن البعث والجزاء، فإِن كتاب أعمال الأشقياء الفجار، لفي مكان ضيّق في أسفل سافلين {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} استفهام للتعظيم والتهويل أي هل تعلم ما سجين؟ {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} أي هو كتاب مكتوبٌ كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى، أُثبتت فيه أعمالهم الشريرة قال ابن كثير : {سِجِّينٌ} مأخوذ من السجن وهو الضيق، ولما كان مصير الفجار إِلى جهنم وهي أسفل سافلين، وهي تجمع الضيق والسفول، أخبر تعالى أنه كتاب مرقوم أي مكتوبٌ مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين {الذين يكذبون بيوم الدين} أي يكذبون بيوم الحساب والجزاء {وما يكذِّب به إلا كلُّ معتدٍ أثيم} أي وما يكذب بيوم الحساب والجزاء ألا كل متجاوز الحد في الكفر والضلال، مبالغ في العصيان والطغيان، كثير الآثام، ثم وضّح من إِجرامه فقال {إِذا تتلى عليه آياتُنا قال أساطيرُ الأولين} أي إِذا تليت عليه آيات القرآن، الناطقة بحصول البعث والجزاء، قال عنها: هذه حكايات وخرافات الأوائل، سطروها وزخرفوها في كتبهم {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} أي ليرتدع هذا الفاجر عن ذلك القول الباطل، فليس القرآن أساطير الأولين، بل غطَّى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب، فطمس بصائرهم فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي قال المفسرون: الرَّان هو الذنب على الذنب حتى يسودَّ القلب {كلاَّ إِنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} أي ليرتدع هؤلاء المكذبون عن غيهم وضلالهم، فهم في الآخرة محجوبون عن رؤية المولى جل وعلا فلا يرونه قال الشافعي: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل وقال مالك: لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلَّى لأوليائه حتى رأوه {ثمَّ إِنَّهم لصالوا الجحيم} أي ثم إِنهم مع الحرمان عن رؤية الرحمن، لداخلو الجحيم وذائقو عذابها الأليم {ثم يُقال هذا الذي كنتم به تكذبون} أي ثم تقول لهم خزنة جهنم على وجه التقريع والتوبيخ: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا {أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تُبصرون}؟ مآل الأبرار
{كلاَّ إِن كتاب الأبرار لفي علّيين(18)وما أدراك ما علِّيون(19)كتابٌ مرقومٌ(20) يشهده المقربون(21)إِن الأبرار لفي نعيم(22) على الأرائك ينظرون(23)تعرفُ في وجوههم نضرةَ النَّعيم(24)يُسْقونَ من رحيقٍ مختوم(25)ختامُه مسك وفي ذلك فليتنافس المُتنافسون(26)ومزاجه منْ تسنيم(27)عيناً يشربُ بها المقربون(28)}
وبعد الحديث عن حال الفجار، ذكر تعالى نعيم الأبرار فقال {كلاَّ إِن كتاب الأبرار لفي علّيين} {كلاَّ} ردعٌ وزجر أي ليس الأمر كما يزعمون من مساواة الفجار بالأبرار، بل كتابهم في سجين، وكتاب الأبرار في عليين، وهومكان عالٍ مشرَّف في أعلى الجنة قال ابن جزي : ولفظ {علِّيين} للمبالغة، وهو مشتق من العلوِّ لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة، أو لأنه في مكان عليٍّ رفيع فقد روي أنه تحت العرش {وما أدراك ما علِّيون} تفخيمٌ وتعظيم لشأنه أي وما أعلمك يا محمد ما هو عليّون ؟ {كتابٌ مرقومٌ} {يشهده المقربون} أي كتابُ الأبرار كتابٌ مسطَّر، مكتوب في أعمالهم، وهو في عليين في أعلى درجات الجنة، يشهده المقربون من الملائكة قال المفسرون : إِن روح المؤمن إِذا قُبضت صُعد بها إِلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكةُ بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إِلى العرش، فيخرج لهم رقٌّ فيكتب فيه ويختم عليه بالنجاة من الحساب والعذاب ويشهده المقربون {إِن الأبرار لفي نعيم} أي إِن المطيعين لله في الجنات الوارفة، والظلال الممتدة يتنعمون {على الأرائك ينظرون} أي هم على السرر المزينة بفاخر الثياب والستور، ينظرون إِلى ما أعدَّ الله لهم من أنواع الكرامة والنعيم في الجنة {تعرفُ في وجوههم نضرةَ النَّعيم} أي إِذا رأيتهم تعرف أنهم أهل نعمة، لما ترى في وجوههم من النور والبياض والحسن، ومن بهجة السرور ورونقه {يُسْقونَ من رحيقٍ مختوم} أي يُسقون من خمرٍ في الجنة، بيضاء طيبة صافية، لم تكدرها الأيدي، قد ختم على تلك الأواني فلا يفك ختمها إِلا الأبرار {ختامُه مسك} أي آخر الشراب تفوح منه رائحة المسك {وفي ذلك فليتنافس المُتنافسون} أي وفي هذا النعيم والشراب الهنيء، فليرغب بالمبادرة إِلى طاعة الله، وليتسابق المتسابقون قال الطبري : التنافسُ مأخوذ من الشيء النفيس الذي يحرص عيه الناس، وتشتهيه وتطلبه نفوسهم والمعنى فليستبقوا في طلب هذا النعيم، ولتحرص عليه نفوسهم {ومزاجه منْ تسنيم} أي يمزج ذلك الرحيق من عينٍ عالية رفيعة، هي أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه تسمى "التسنيم"، ولهذا قال بعده {عيناً يشربُ بها المقربون} أي هي عينٌ في الجنة يشرب منها المقرّبون وحدهم، وتمزج لسائر أهل الجنة قال ابن جزي: تسنيم اسمٌ لِعَينٍ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة الأبرار. معاملة الكفار في الآخرة بمثل معاملتهم للمؤمنين في الدنيا
{إِن الذينَ أجرموا كانوا من الذين آمَنوا يضحكون(29)وإِذا مروا بِهم يتغامزُون(30) وإِذا انقلبوا إِلى أهلهم انقلبوا فكهين(31)وإِذا رأوهم قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون(32)وما أُرسلوا عليهم حافظين(33)فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون(34) على الأرائك ينظرون(35)هل ثُوّب الكفَّار ما كانوا يفعلون(36)}
سبب النزول:
نزول الآية (29):
ذكر العلماء في سبب النزول وجهين :
الأول: أن المراد من قوله تعالى: {إن الذين أجرموا} أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السَّهْمي، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم.
الثاني: جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم، فقالوا: رأينا اليوم الأصلع، فضحكوا منه، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما ذكر تعالى نعيم الأبرار، أعقبه بذكر مآل الفجار، تسليةً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم فقال {إِن الذينَ أجرموا كانوا من الذين آمَنوا يضحكون} أي إن المجرمين الذين من طبيعتهم الإِجرام وارتكاب الآثام، كانوا في الدنيا يضحكون من المؤمنين استهزاءً بهم قال في التسهيل : نزلت هذه الآية في صناديد قريش كأبي جهل وغيره، مرَّ بهم علي بن أبي طالب وجماعة من المؤمنين، فضحكوا منهم واستخفوا بهم {وإِذا مروا بِهم يتغامزُون} أي وإِذا مرَّ هؤلاء المؤمنين، غمز بعضهم بعضاً بأعينهم سخرية واستهزاءً بهم قال المفسرون: كان المشركون إِذا مرَّ بهم أصحاب رسول الله، تغامزوا بأعينهم احتقاراً لهم وازدراءً يقولون: جاءكم ملوك الدنيا، يسخرون منهم لإِيمانهم واستمساكهم بالدين {وإِذا انقلبوا إِلى أهلهم انقلبوا فكهين} أي وإِذا انصرف المشركون ورجعوا إِلى منازلهم وأهليهم، رجعوا متلذذين يتفكهون بذكر المؤمنين والاستخفاف بهم قال أبو حيّان: أي رجعوا متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم استخفافاً بأهل الإِيمان {وإِذا رأوهم قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون} أي وإِذا رأى الكفار المؤمنين قالوا: إِن هؤلاء لضالون لإِيمانهم بمحمد، وتركهم شهوات الحياة قال تعالى رداً عليهم {وما أُرسلوا عليهم حافظين} أي وما أُرسل الكفار حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم، وفيه تهكم وسخرية بالكفار كأنه يقول : أنا ما أرسلتهم رقباء، ولا وكلتهم بحفظ أعمال عبادي المؤمنين، حتى يرشدوهم إِلى مصالحهم، فلم يشغلون أنفسهم فيما لا يعنيهم ؟ {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون} أي ففي هذا اليوم - يوم القيامة - يضحك المؤمنون من الكفار، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، جزاءً وفاقاً {على الأرائك ينظرون} أي والمؤمنون على أسرَّة الدر والياقوت، ينظرون إِلى الكفار ويضحكون عليهم قال القرطبي: يقال لأهل النار وهم في النار اخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإِذا رأوها قد فتحت أقبلوا إِليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إِليهم على الأرائك، فإِذا انتهوا إِلى أبوابها أغلقت دونهم، فيضحك منهم المؤمنون {هل ثُوّب الكفَّار ما كانوا يفعلون} أي هل جوزي الكفار في الآخرة بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين من السخرية والاستهزاء ؟ نعم.
_________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "الانفطار" الإثنين 21 ديسمبر 2009, 11:53 pm | |
| سورة الانفطار
أمارات الانقلاب الكوني، وجحود الإنسان نعم الله توبيخ المشركين على تكذيبهم بيوم الحساب بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة الانفطار من السور المكية، وهي تعالج - كسابقتها سورة التكوير - الانقلاب الكوني الذي يصاحب قيام الساعة، وما يحدث في ذلك اليوم الخطير من أحداث جسام، ثم بيان حال الأبرار، وحال الفجار، يوم البعث والنشور. * ابتدأت السورة الكريمة ببيان مشاهد الانقلاب الذي يحدث في الكون، من انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور، وما يعقب ذلك من الحساب والجزاء {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ* وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ* وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}. * ثم تحدثت عن جحود الإِنسان وكفرانه لنعم ربه، وهو يتلقى فيوض النعمة منه جل وعلا، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها، ولا يعرف لربه قدره، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} ؟! * ثم ذكرت علَّة هذا الجحود والإِنكار ووضحت أن الله تعالى وكَّل بكل إِنسان ملائكةً يسجلون عليه أعماله، ويتعقبون أفعاله {كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ* وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}. * وذكرت السورة انقسام الناس في الآخرة إِلى قسمين : أبرار، وفجار، وبيَّنت مآل كل من الفريقين {إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين ..} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بتصوير ضخامة يوم القيامة وهوله، وتجرد النفوس يومئذٍ من كل حول وقوة، وتفرد الله جل وعلا بالحكم والسلطان {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً، والأمر يومئذٍ لله}. أمارات الانقلاب الكوني، وجحود الإنسان نعم الله
{إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ(1)وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ(2)وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ(3)وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ(4)عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ(5)يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6)الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ(8)} سبب النزول :
نزول الآية (6) :
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ} : أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ..} الآية قال :نزلت في أُبيّ بن خَلَف. وقيل : نزلت في أبي الأشدّ بن كَلَدة الْجُمَحِيّ، وقال ابن عباس: الإنسان هنا الوليد بن المغيرة.
{ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ } أي إِذا السماء انشقت بأمر الله لنزول الملائكة كقوله تعالى {ويوم تشقق السماءُ بالغمام ونُزِّل الملائكةُ تنزيلاً} {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} أي وإِذا النجوم تساقطت وتناثرت، وزالت عن بروجها وأماكنها {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} أي وإِذا البحار فتح بعضها إِلى بعض، فاختلط عذبها بمالحها، وأصبحت بحراً واحداً {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أي وإِذا القبور قلبت، ونبش ما فيها من الموتى، وصار ما في باطنها ظاهراً على وجهها {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} هذا هو الجواب أي علمت عندئذٍ كل نفس ما أسلفت من خير أو شر، وما قدمت من صالح أو طالح قال الطبري: ما قدمت من عمل صالح، وما أخرت من شيء سنَّه فعمل به بعده ثم بعد ذكر أحوال الآخرة وأهوالها، انتقلت الآيات لتذكير الإِنسان الغافل الجاهل بما أمامه من أهوال وشدائد فقال تعالى { يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أيْ أيُّ شيءٍ خدعك بربك الحليم الكريم، حتى عصيته وتجرأت على مخالفة أمره، مع إِحسانه إِليك وعطفه عليك ؟ وهذا توبيخ وعتاب كأنه قال : كيف قابلتَ إِحسان ربك بالعصيان، ورأفته بك بالتمرد والطغيان {هل جزاء الإِحسان إِلاّ الإِحسانُ} ؟ ثم عدَّد نعمه عليه فقال {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} أي الذي أوجدك من العدم، فجعلك سوياً سالم الأعضاء، تسمع وتعقل وتبصر {فَعَدَلَكَ} أي جعلك معتدل القامة منتصباً في أحسن الهيئات والأشكال {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} أي ركبك في أي صورة شاءها واختارها لك من الصور الحسنة العجيبة ولم يجعلك في الشكل كالبهيمة كقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
توبيخ المشركين على تكذيبهم بيوم الحساب
{كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ(9)وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10)كِرَامًا كَاتِبِينَ(11)يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13)وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ(14)يَصْلَونَهَا يَوْمَ الدِّينِ(15)وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ(16)وَمَا أَدرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ(17)ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَومُ الدِّينِ(18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله}.
ثم وبَّخ المشركين على تكذيبهم بيوم الدين فقال {{كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} أي ارتدعوا يا أهل مكة، ولا تغتروا بحلم الله، بل أنتم تكذبون بيوم الحساب والجزاء {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} أي والحالُ أن عليكم ملائكة حفظة يضبطون أعمالكم ويراقبون تصرفاتكم قال القرطبي: أي عليكم رقباء من الملائكة {كِرَامًا كَاتِبِينَ} أي كراماً على الله، يكتبون أقوالكم وأعمالكم {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} أي يعلمون ما يصدر منكم من خير وشر، ويسجلونه في صحائف أعمالكم، لتجازوا به يوم القيامة .. ثم بيَّن تعالى انقسام الخلق يوم القيامة إِلى أبرار وفجار، وذكر مآل كلٍ من الفريقين فقال {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} أي إِن المؤمنين الذين اتقوا ربهم في الدنيا، لفي بهجة وسرور لا يوصف، يتنعمون في رياض الجنة بما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون في الجنة {وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} أي وإِن الكفرة الفجار، الذين عصوا ربهم في الدنيا، لفي نار محرقةٍ، وعذاب دائم مقيم في دار الجحيم {يَصْلَونَهَا يَوْمَ الدِّينِ} أي يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} أي وليسوا بغائبين عن جهنم، بعيدين عنها لا يرونها، بل هي أمامهم يَصْلَونَ ويذوقون سعيرها ولا يخرجون منها أبداً. {وَمَا أَدرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} تعظيمٌ له وتهويل أي ما أعلمك ما هو يوم الدين ؟ وأيُّ شيءٍ هو في شدته وهوله ؟ {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَومُ الدِّينِ} ؟ كرر ذكره تعظيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره كقوله {الحاقة ما الحاقة ؟ وما أدراك ما الحاقة} ؟ كأنه يقول : إِن يوم الجزاء من شدته بحيث لا يدري أحدٌ مقدار هوله وعظمته، فهو فوق الوصف والبيان {يَومَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا} أي هو ذلك اليوم الرهيب الذي لا يستطيع أحد أن ينفع أحداً بشيء من الأشياء، ولا أن يدفع عنه ضراً {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله} أي والأمر في ذلك اليوم لله وحده لا ينازعه فيه أحد.
_________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "التكوير" الإثنين 21 ديسمبر 2009, 11:55 pm | |
| سورة التكوير القيامة وما يصحبها من انقلاب كوني القسم على صدق القرآن وصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة التكوير من السور المكية، وهي تعالج حقيقتين هامتين هما: "حقيقة القيامة" وحقيقة "الوحي والرسالة" وكلاهما من لوازم الإِيمان.
* ابتدأت السورة الكريمة ببيان القيامة وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل، يشمل الشمس، والنجوم، والجبال، والبحار، والأرض، والسماء، والأنعام، والوحوش، كما يشمل البشر، ويهز الكون هزاً عنيفاً طويلاً، ينتثر فيه كل الوجود، ولا يبقى شيء إِلا وقد تبدَّل وتغيَّر من هول ما يحدث في ذلك اليوم الرهيب {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ* وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ* وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ* وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} الآيات. * ثم تناول حقيقة الوحي، وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي الذي نزل لينقلهم من ظلمات الشرك والضلال، إِلى نور العلم والإِيمان {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوَارِ الْكُنَّسِ* وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة ببيان بطلان مزاعم المشركين حول القرآن العظيم، وذكرت أنه موعظةٌ من الله تعالى لعباده {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ* إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ* لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. القيامة وما يصحبها من انقلاب كوني
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ(2)وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ(3)وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(5)وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ(6)وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(7)وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8)بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9)وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ(10)وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ(11)وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ(12)وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ(13)عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14)}.
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} هذه الآيات بيانٌ لأهوال القيامة وما يكون فيها من الشدائد والكوارث، وما يعتري الكون والوجود من مظاهر التغيير والتخريب والمعنى: إِذا الشمس لُفَّت ومُحِيَ ضوءها {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} أي وإِذا النجوم تساقطت من مواضعها وتناثرت {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} أي وإِذا الجبال حركت من أماكنها، وسُيّرت في الهواء حتى صارت كالهباء كقوله تعالى {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} أي وإِذا النوق الحوامل تركت هملاً بلا راعٍ ولا طالب، وخصَّ النوق بالذكر لأنها كرائم أموال العرب {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أي وإِذا الوحوش جُمعت من أوكارها وأجحارها ذاهلةً من شدة الفزع {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي وإِذا البحار تأججت ناراً، وصارت نيراً تضطرم وتلتهب {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي وإِذا النفوس قُرنت بأشباهها، فقرن الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح قال الطبري: يُقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، وبين الرجل السوء مع الرجل السُّوء في النار {وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ} أي وإِذا البنت التي دفنت وهي حية سئلت توبيخاً لقاتلها: ما هو ذنبها حتى قتلت ؟ قال ابن جزي: الموءودة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حيَّةً من كراهته لها أو غيرته عليها، فتسأل يوم القيامة {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ؟ على وجه التوبيخ لقاتلها {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} أي وإِذا صحف الأعمال نشرت وبسطت عند الحساب {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} أي وإِذا السماء أزيلت ونزعت من مكانها كما ينزع الجلد عن الشاة {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أي وإِذا نار جهنم أوقدت لأعداء الله تعالى {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أي وإِذا الجنة أدنيت وقربت من المتقين {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} أي علمت كل نفسٍ ما أحضرتْ من خيرٍ أو شر، وهذه الجملة {عَلِمتْ نَفْسٌ} هي جواب ما تقدم من أول السورة {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إِلى هنا، والمعنى إِذا حدثت تلك الأمور العجيبة الغريبة، علمت حينئذٍ كل نفسٍ ما قدمته من صالح أو طالح. القسم على صدق القرآن وصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17)وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21)وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22)وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ(23)وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25)فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26)إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(27)لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)}. سبب النزول : نزول الآية (29) :
{وَمَا تَشَاءُونَ..}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى قال: لما أنزلت {لمن شاء منكم أن يستقيم} قال أبو جهل: ذاك إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
ثم أقسم تعالى على صدق القرآن، وصحة رسالة محمد عليه السلام فقال {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} أي فأقسم قسماً مؤكداً بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار، وتظهر بالليل {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} أي التي تجري وتسير مع الشمس والقمر ثم تستتر وقت غروبها، كما تستتر الظباء في كنائسها - مغاراتها - قال القرطبي: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها، كما تستتر الظباء في كناسها - مغاراتها - قال القرطبي: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها أي تستتر، كما تكنس الظِباء في المغار وهو الكناس {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي وأقسم بالليل إِذا أقبل بظلامه حتى غطَّى الكون {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي وبالصبح إِذا أضاء وتبلَّج، واتَّسع ضياؤه حتى صار نهاراً واضحاً {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا هو المقسم عليه إِن هذا القرآن الكريم، لكلامُ الله المنزَّل بواسطة ملك عزيز على الله هو جبريل كقوله تعالى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ} قال المفسرون: أراد بالرسول "جبريل" قوله بعده {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي شديد القوة، صاحب مكانة رفيعة، ومنزلة سامية عند الله جل وعلا {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} أي مطاعٍ هناك في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة الأبرار، مؤتمن على الوحي الذي ينزل به على الأنبياء {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} قال الخازن: أقسم تعالى على أن القرآن نزل به جبريل الأمين، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون كما يزعم أهل مكة، فنفى تعالى عنه الجنون، وكون القرآن من عند نفسه {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي وأقسمُ لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته الملكية التي خلقه الله عليها بجهة الأفق الأعلى البيّن من ناحية المشرق حيث تطلع الشمس قال أبو حيّان: وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء، حين رأى جبريل على كرسي بين السماء والأرض، في صورته له ستمائة جناح قد سدَّ ما بين المشرق والمغرب {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي وما محمد على الوحي ببخيل يقصِّر في تبليغه وتعليمه، بل يبلغ رسالة ربه بكل أمانةٍ وصدق {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي وما هذا القرآن بقول شيطان ملعون كما يقول المشركون {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أيْ فأيَّ طريقٍ تسلكون في تكذيبكم للقرآن، واتهامكم له بالسحر والكهانة والشعر، مع وضوح آياته وسطوع براهينه ؟ وهذا كما تقول لمن ترك الطريق المستقيم: هذا الطريق الواضح فأين تذهب ؟ {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إِلا موعظة وتذكرة للخلق أجمعين {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} أي لمن شاء منكم أن يتبع الحق، ويستقيم على شريعة الله، ويسلك طريق الأبرار {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي وما تقدرون على شيء إِلا بتوفيق الله ولطفه، فاطلبوا من الله التوفيق إِلى أفضل طريق.
_________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "عبس" الإثنين 21 ديسمبر 2009, 11:58 pm | |
| سورة عَبَسَ
معاتبة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم القرآن موعظة وذكرى الرزق مقسوم لبني البشر أهوال يوم القيامة بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة عَبَسَ من السور المكية، وهي تتناول مواضيع تتعلق بالعقيدة وأمر الرسالة، كما أنها تتحدث عن دلائل القدرة، والوحدانية في خلق الإِنسان، والنبات، والطعام، وفيها الحديث عن القيامة وأهوالها، وشدة ذلك اليوم العصيب.
* ابتدأت السورة الكريمة بذكر قصة ذلك الصحابي الأعمى "عبد الله بن أُم مكتوم" رضي الله عنه الذي جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم مشغول مع جماعة من كبراء قريش يدعوهم إِلى الإِسلام، فعبس صلى الله عليه وسلم وجهه وأعرض عنه، فنزل القرآن بالعتاب {عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} الآيات. * ثم تحدثت عن جحود الإِنسان، وكفره الفاحش بربه مع كثرة نعم الله تعالى عليه {قُتِلَ الإِنْسَان مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ..} الآيات. * ثم تناولت دلائل القدرة في هذا الكون، حيث يسَّر الله للإِنسان سُبُل العيش فوق سطح هذه المعمورة {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً} الآيات. * وختمت السورة الكريمة ببيان أهوال القيامة، وفرار الإِنسان من أحبابه من شدة الهول والفزع، وبينت حال المؤمنين وحال الكافرين في ذلك اليوم العصيب {فَإِذَا جَاءتْ الصَّاخَّةُ* يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ* وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ* تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ* أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}.
معاتبة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى(7)وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى(8)وَهُوَ يَخْشَى(9)فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10) }. سبب النزول:
نزول الآية (1):
{عَبَسَ}: أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، فيقول له: أترى بما أقول بأساً ؟ فيقول: لا، فنزلت: {عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى}. وأخرج أبو يعلى مثله عن أنس.
{عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى} أي كلح وجهه وقطَّبه وأعرض عنه كارهاً، لأنْ جاءه الأعمى يسأل عن أمور دينه قال الصاوي: إِنما أتى بضمائر الغيبة {عَبَسَ وَتَوَلَّى} تلطفاً به صلى الله عليه وسلم وإِجلالاً له، لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى من الشدة والصعوبة واسم الأعمى "عبد الله بن أم مكتوم" وكان بعد نزول ءايات العتاب إِذا جاءه يقوله له: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي، ويبسط له رداءه {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} أي وما يُعلمك ويخبرك يا محمد لعلَّ هذا الأعمى الذي عبستَ في وجهه، يتطهر من ذنوبه بما يتلقاه عنك من العلم والمعرفة !! {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} أي أو يتعظ بما يسمع فتنفعه موعظتك !! {أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى} أي أما من استغنى عن اللهِ وعن الإِيمان، بما له من الثروة والمال {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} أي فأنت تتعرَّض له وتصغي لكلامه، وتهتم بتبليغه دعوتك {وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى} أي ولا حرج عليك إنْ لم يتطهر من دنس الكفر والعصيان، ولست بمطالب بهدايته، إِنما عليك البلاغ قال الألوسي: وفيه مزيد تنفيرٍ له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم، فإِن الإِقبال على المدبر مخلٌّ بالمروءة كما قال:
والله لو كرهتْ كفـي مُصاحبتي يوماً لقلتُ لها عن صُحبْتي بيْني
{وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى} أي وأمَّا من جاءك يسرع ويمشي في طلب العلم للهِ ويحرص على طلب الخير {وَهُوَ يَخْشَى} أي وهو يخاف الله تعالى ويتقي محارمه {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي فأنت يا محمد تتشاغل عنه، وتتلهى بالانصراف عنه إِلى رؤساء الكفر والضلال ! ! القرآن موعظة وذكرى:
{كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ(11)فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(12)فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ(13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَة ٍ(14)بِأَيْدِي سَفَرَةٍ(15)كِرَامٍ بَرَرَةٍ(16)قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22)كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)}.
سبب النزول:
نزول الآية (17):
{قُتِلَ الإِنْسَانُ..} : أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} قال: نزلت في عُتْبة بن أبي لَهَب حين قال: كفرت برب النجم.
{كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي لا تفعل بعد اليوم مثل ذلك، فهذه الآيات موعظة وتبصرة للخلق، يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها العقلاء {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء من عباد الله اتعظ بالقرآن، واستفاد من إِرشاداته وتوجيهاته، قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم بعد هذا العتاب، لا يعبس في وجه فقير قط، ولا يتصدى لغني أبداً، وكان الفقراء في مجلسه أمراء، وكان إِذا دخل عليه "ابن أم مكتوم" يبسط له رداءه ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربي .. ثم بعد هذا البيان أخبر عن جلالة قدر القرآن فقال {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} أي هو في صحفٍ مكرمة عند الله {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} أي عالية القدر والمكانة، منزهة عن أيدي الشياطين، وعن كل دنسٍ ونقص {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي بأيدي ملائكة جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي مكرمين معظمين عند الله، أتقياء صلحاء {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ثم ذكر تعالى قبح جريمة الكافر، وإِفراطه في الكفر والعصيان مع كثرة إِحسان الله إِليه فقال {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} أي لعن الكافر وطرد من رحمة الله، ما أشدَّ كفره بالله مع كثرة إِحسانه إِليه وأياديه عنده ؟
قال الألوسي: والآية دعاءُ عليه بأشنع الدعوات وأفظعها، وتعجيبٌ من إِفراطه في الكفر والعصيان، وهذا في غاية الإِيجاز والبيان {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر حتى يتكبر على ربه ؟ ثم وضَّح ذلك فقال {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أي من ماءٍ مهين حقير بدأ خلقه، فقدَّره في بطن أمه أطواراً من نطفة ثم من علقة إِلى أن تمَّ خلقه قال ابن كثير: قدَّر رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي ثم سهَّل له طريق الخروج من بطن أمه قال الحسن البصري : كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين ؟ يعني الذكر والفرج {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي ثم أماته وجعل له قبراً يُوارى فيه إِكراماً له، ولم يجعله ملقى للسباع والوحوش والطيور قال الخازن: وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} أي ثم حين يشاء الله إِحياءه، يحييه بعد موته للبعث والحساب والجزاء، وإِنما قال {إِذَا شَاءَ} لأن وقت البعث غير معلوم لأحد، فهو إِلى مشيئة الله تعالى، متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم {كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} أي ليرتدع وينزجر هذا الكافر عن تكبره وتجبره، فإِنه لم يؤد ما فرض عليه، ولم يفعل ما كلفه به ربه من الإِيمان والطاعة. الرزق مقسوم لبني البشر:
{فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26)فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27)وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28)وَزَيْتُونًا وَنَخْلا(29)وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30)وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31)مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ(32)}.
ولما ذكر خلق الإِنسان، ذكر بعده رزقه، ليعتبر بما أغدق الله عليه من أنواع النعم، فيشكر ربه ويطيعه فقال {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} أي فلينظر هذا الإِنسان الجاحد نظر تفكر واعتبار، إِلى أمر حياته، كيف خلقه بقدرته، ويسره برحمته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، وخلق له الطعام الذي به قوام حياته ؟! ثم فصَّل ذلك فقال {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} أي أنا بقدرتنا أنزلنا الماء من السحاب على الأرض إِنزالاً عجيباً {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} أي شققنا الأرض بخروج النبات منها شقاً بديعاً {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا} أي فأخرجنا بذلك الماء أنواع الحبوب والنباتات: حباً يقتات الناس به ويدخرونه، وعنباً شهياً لذيذاً، وسائر البقول مما يؤكل رطباً {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} أي وأخرجنا كذلك أشجار الزيتون والنخيل، يخرج منها الزيت والرطب والتمر {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} أي وبساتين كثيرة الأشجار، ملتفة الأغصان {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي وأنواع الفواكه والثمار، كما أخرجنا ذلك وأنبتناه ليكون منفعة ومعاشاً لكم أيها الناس ولأنعامكم قالابن كثير: وفي هذه الآيات امتنانٌ عل العباد وفيها استدلال بإِحياء النبات من الأرض الهامدة، على إِحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً باليةً وأوصالاً متفرقة.
أهوال يوم القيامة:
{فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ(33)يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34)وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35)وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36)لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37)وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ(38)ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ(39)وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ(40)تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41)أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ(42)}.
ثم ذكر تعالى بعد ذلك أهوال القيامة فقال {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} أي فإِذا جاءت صيحة القيامة التي تصخ الآذان حتى تكاد تصمها {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} أي في ذلك اليوم الرهيب يهرب الإِنسان من أحبابه، من أخيه، وأمه، وأبيه، وزوجته، وأولاده لاشتغاله بنفسه قال ابن جزي: ذكر تعالى فرار الإِنسان من أحبابه، ورتبهم على مراتبهم في الحنو والشفقة، فبدأ بالأقل وختم بالأكثر، لأن الإِنسان أشدُّ شفقةً على بنيه من كل من تقدم ذكره {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي لكل إِنسان منهم في ذلك اليوم العصيب، شأنٌ يشغله عن شأن غيره، فإِنه لا يفكر في سوى نفسه، حتى إِن الأنبياء صلوات الله عليهم ليقول الواحد منهم يومئذٍ "نفسي نفسي" .. ولما بيَّن تعالى حال القيامة وأهوالها، بيَّن بعدها حال الناس وانقسامهم في ذلك اليوم إِلى سعداء وأشقياء، فقال في وصف السعداء: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} أي وجوه في ذلك اليوم مضيئة مشرقة من البهجة والسرور {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} أي فرحة مسرورة بما رأته من كرامة الله ورضوانه، مستبشرة بذلك النعيم الدائم {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي ووجوه في ذلك اليوم عليها غبارٌ ودخان {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي تغشاها وتعلوها ظلمةٌ وسواد {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي أولئك الموصوفون بسواد الوجوه، هم الجامعون بين الكفر والفجور، قال الصاوي: جمع الله تعالى إلى سواد وجوههم الغَبرة كما جمعوا الكفر إِلى الفجور.
_________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "النازعات" الثلاثاء 22 ديسمبر 2009, 12:00 am | |
| سورة النازعات الرد على منكري البعث تهديد كفار قريش بما حل بقوم موسى عليه السلام
إثبات البعث بخلق السموات والأرض والجبال الحشر وما يتبعه من جحيم أو نعيم
بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة النازعات مكية، شأنها شأن سائر السور المكية، التي تُعنى بأصول العقيدة "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" ومحورُ السورة يدور حول القيامة وأحوالها، والساعة وأهوالها، وعن مآل المتقين، ومآل المجرمين. * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالملائكة الأبرار، التي تنزع أرواح المؤمنين بلطفٍ ولين، وتنزع أرواح المجرمين بشدة وغلظة، والتي تدبر شؤون الخلائق بأمر الله جل وعلا {والنازعات غرقاً * والناشِطات نشطاً * والسابحات سبحاً * فالسابقات سبقاً * فالمدبرات أمراً} الآيات.
* ثم تحدثت عن المشركين، المنكرين للبعث والنشور، فصورت حالتهم في ذلك اليوم الفظيع {قلوبٌ يومئذٍ واجفة * أبصارها خاشعة * يقولون أئنا لمردودون في الحافرة * أئذا كنا عظاماً نخرة؟} الآيات.
* ثم تناولت السورة "قصّة فرعون" الطاغية، الذي ادعى الربوبية وتمادى في الجبروت والطغيان، فقصمه الله وأهلكه بالغرق هو وقومه الأقباط {هل أتاك حديث موسى * إِذ ناداه ربُّه بالواد المقدَّس طوى * اذهب إِلى فرعونَ إِنه طغى * فقل هلْ لكَ إِلى أن تزكى ..} الآيات.
* وتحدثت السورة عن طغيان أهل مكة وتمردهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكَّرتهم بأنهم أضعف من كثير من مخلوقات الله {أأنتم أشدُّ خلقاً أم السماءُ بناها * رفع سمكها فسوَّاها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة ببيان وقت الساعة الذي استبعده المشركون وأنكروه وكذبوا بحدوثه {يسألونك عن الساعة أيَّان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إِلى ربك منتهاها * إِنما أنت منذر من يخشاها * كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إِلا عشيةً أو ضحاها}. الرد على منكري البعث
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا(1)وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا(2)وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا(3)فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا(4)فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا(5)يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ(6)تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ(7)قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ(8)أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ(9)يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ(10)أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً(11)قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ(12)فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ(13)فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ(14)}
سبب النزول:
نزول الآية (10، 12):
أخرج سعيد بن منصور عن محمد بن كعب قال: لما نزل قوله: {أئنا لمردودون في الحافرة}؟ قال كفار قريش: لئن حيينا بعد الموت لنخسرن، فنزلت: {قالوا: تلك إذاً كرة خاسرة}.
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} أي أقسمُ بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعاً بالغاً أقصى الغاية في الشدة والعسر {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} أي وأُقسمُ بالملائكة التي تنزع أرواح المؤمنين بسهولةٍ ويسر، وتسلُّها سَلاًّ رفيقاً، قال ابن مسعود: إِن ملكَ الموت وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السَّفود - سيخ الحديد - الكثير الشُعب من الصوف المبتلّ، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء، وينزع روح المؤمن برفق ولين، ويقبضها كما ينشط العِقال من يد البعير، قال ابن كثير: أقسم سبحانه بالملائكة حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنهما حلَّته من نشاط {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} أي وأقسم بالملائكة التي تنزل بأمر الله ووحيه من السماء كالذي يسبح في الماء، مسرعين لتنفيذ أمر الله {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} أي الملائكة التي تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} أي الملائكة تدبّر شؤون الكون بأمره تعالى، في الرياح، والأمطار، والأرزاق، والأعمار، وغير ذلك من شؤون الدنيا، أقسم سبحانه بهذه الأصناف الخمسة على أن القيامة حق، وجواب القسم محذوف تقديره: لتبعثنَّ ولتحاسبنَّ، وقد دل عليه قوله {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} أي يوم ينفخ في الصُّور النفخة الأولى التي يرتجف ويتزلزل لها كل شيء، تتبعها النفخة الثانية وهي نفخة القيامة من القبور، قال ابن عباس: الراجفة والرادفة هما النفختان الأولى والثانية، أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله تعالى، وأما الثانية فتحيي كل شيء بإذن الله تعالى .. ثم ذكر تعالى حالة المكذبين وما يلقونه من الشدائد والأهوال فقال {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي قلوب الكفار في ذلك اليوم خائفة وجلة مضطربة {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أي أبصار أصحابها ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال {يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} أي يقولون في الدنيا استهزاءً واستبعاداً للبعث: أنُرَدُّ بعد الموت فنصير أحياء بعد فنائنا ونرجع كما كنا أول مرة؟ قال القرطبي: إذا قيل لهم؟ إِنكم تبعثون قالوا منكرين متعجبين: أنردُّ بعد موتنا إِلى أول الأمر، فنعود أحياء كما كنا قبل الموت؟ والعرب تقول: رجع فلان في حافرته أي رجع من حيث جاء {أَءذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} أي هل إِذا صرنا عظاماً بالية متفتتة سنرد ونبعث من جديد؟ {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} أي إِن كان البعث حقاً، وبعثنا بعد موتنا فسوف نكون من الخاسرين لأننا من أهل النار، قال تعالى {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي فإِنما هي صيحة واحدة، يُنفخ فيها في الصور للقيام من القبور {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أي فإِذا الخلائق جميعاً على وجه الأرض بعدما كانوا في بطنها.
تهديد كفار قريش بما حل بقوم موسى عليه السلام
{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(15)إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى(16)اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17)فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى(18)وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19)فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى(20)فَكَذَّبَ وَعَصَى(21)ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى(22)فَحَشَرَ فَنَادَى(23)فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى(24)فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى(25)إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى(26)}
ثم ذكر تعالى قصة موسى مع فرعون تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لقومه أن يحل بهم ما حلَّ بالطغاة المكذبين من قوم فرعون فقال {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} أسلوب تشويق وترغيب لسماع القصة أي هل جاءك يا محمد خبر موسى الكليم؟ {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} أي حين ناجاه ربه بالوادي المطهَّر المبارك المسمَّى {طُوًى} في أسفل جبل طور سيناء، قائلاً له {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي اذهب إِلى فرعون الطاغية الجبار، الذي جاوز الحدَّ في الظلم والطغيان {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}؟ أي هل لك رغبةٌ وميلٌ إِلى أن تتطهر من الذنوب والآثام؟ {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} أي وأرشدك إِلى معرفة ربك وطاعته فتتقيه وتخشاه؟ قال الزمخشري: ذكر الخشية لأنها ملاك الأمر، من خشي الله أتى منه كل خير، وبدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العَرض كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرفيق الرقيق ليستدعيه بالتلطف، ويستنزله بالمداراة عن عتوه كما في قوله تعالى {فقولا له قولاً ليناً} {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} في الكلام محذوف أي فذهب موسى إِليه ودعاه وكلَّمه، فلما امتنع عن الإِيمان أراه المعجزة الكبرى، وهي قلب العصا حيةً تسعى، قال القرطبي: أراه العلامة العظمى وهي المعجزة، قال ابن عباس: هي العصا {فَكَذَّبَ وَعَصَى} أي فكذب فرعون نبيَّ الله موسى، وعصى أمر الله بعد ظهور تلك المعجزة الباهرة {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} أي ولّى مدبراً هارباً من الحية، يُسرع في مشيه من هول ما رأى {فَحَشَرَ فَنَادَى} أي فجمع السحرة والجنود والأتباع، ووقف خطيباً في الناس {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} أي فقال لهم بصوت عال: أنا ربكم المعبود العظيم الذي لا ربَّ فوقي {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} أي فأهلكه الله عقوبةً له على مقالته الأخيرة {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} والأولى وهي قوله {ما علمتُ لكم من إِله غيري} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} أي إِن فيما ذكر من قصة فرعون وطغيانه، وما حلَّ به من العذاب والنكال، لعظة واعتباراً لمن يخاف الله عز وجل ويخشى عقابه.
إثبات البعث بخلق السماوات والأرض والجبال
{ءأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا(27)رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا(28)وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا(29)وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا(30)أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا(31)وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا(32)مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ(33)}
ولما انتهى الحديث عن قصة الطاغية فرعون، رجع إِلى منكري البعث من كفار قريش فنبههم إِلى آثار قدرته، ومظاهر عظمته وجلاله فقال {ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ}؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ والمعنى هل أنتم يا معشر المشركين أشقُّ وأصعب خلقاً أم خلق السماء العظيمة البديعة؟ فإِن من رفع السماء على عظمها، هيِّن عليه خلقكم وإِحياؤكم بعد مماتكم، فكيف تنكرون البعث؟ قال الرازي: نبههم على أمرٍ يُعلم بالمشاهدة، وذلك لأن خلق الإِنسان على صغره وضعفه، إِذا أضيف إِلى خلق السماء على عظمها وعظم أحوالها يسير، وإِذا كان كذلك فإِعادتهم سهلة فكيف ينكرون ذلك؟ كقوله تعالى {لخلق السماوات والأرضِ أكبرُ من خلق الناس} {بَنَاهَا} أي رفعها عاليةً فوقكم محكمة البناء، بلا عمد ولا أوتاد، ثم زاد في التوضيح والبيان فقال {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} أي رفع جرمها وأعلى سقفها فوقكمفجعلها مستويةً لا تفاوت فيها ولا شقوق ولا فطور، قال ابن كثير: أي جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء، مكلَّلة بالكواكب في الليلة الظلماء {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي جعل ليلها مظلماً حالكاً، ونهارها مشرقاً مضيئاً، قال ابن عباس: أظلم ليلها وأنار نهارها {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي والأرض بعد خلق السماء بسطها ومهَّدها لسكنى أهلها {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} أي أخرج من الأرض عيون الماء المتفجرة، وأجرى فيها الأنهار، وأنبت فيها الكلأ والمرعى مما يأكله الناس والأنعام {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} أي والجبال أثبتها في الأرض، وجعلها كالأوتاد لتستقر وتسكن بأهلها {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي فعل ذلك كله، فأنبع العيون، وأجرى الأنهار، وأنبت الزروع والأشجار، كل ذلك منفعةً للعباد وتحقيقاً لمصالحهم ومصالح أنعامهم ومواشيهم، قال الرازي: أراد بمرعاها ما يأكله الناسُ والأنعام، بدليل قوله {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} وانظر كيف دلَّ بقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها} على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام والأنعام من الشعب، والشجر، والحب، والثمر، والعصف، والحطب، واللباس والدواء، حتى الملح والنار، فالملح متولد من الماء، والنارُ من الأشجار.
الحشر وما يتبعه من جحيم أو نعيم
{فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى(34)يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى(35)وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى(36)فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37)وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(38)فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39)وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا(42)فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا(43)إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا(44)إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا(45)كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا(46)}
سبب النزول:
نزول الآية (42):
{يسألونك عن الساعة ..}: أخرج الحاكم وابن جرير عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسْأَلُ عن الساعة، حتى أنزل عليه: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها}.
ولما ذكر تعالى خلق السماوات والأرض، وما أبدع فيهما من عجائب الخلق والتكوين، ليقيم الدليل على إِمكان الحشر عقلاً، أخبر بعد ذلك عن وقوعه فعلاً فقال {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} أي فإِذا جاءت القيامة وهي الداهية العظمى، التي تعمُّ بأهوالها كل شيء، وتعلو على سائر الدواهي، قال ابن عباس: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل أمرٍ هائل مفظع {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} أي في ذلك اليوم يتذكر الإِنسان ما عمله من خير أو شر، ويراه مدوَّناً في صحيفة أعماله {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} أي أظهرت جهنم للناظرين فرآها الناسُ عياناً، باديةً لكل ذي بصر .. وبعد أن وصف حال القيامة وأهوالها، ذكر انقسام الناس إِلى فريقين: أشقياء وسعداء فقال {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} أي جاوز الحدَّ في الكفر والعصيان {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي فضَّل الحياة الفانية على الآخرة الباقية، وانهمك في شهوات الحياة المحرَّمة، ولم يستعد لآخرته بالعمل الصالح {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} أي فإِنَّ جهنم المتأججة هي منزله ومأواه، لا منزل له سواها {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي وأمَّا من خاف عظمة ربه وجلاله، وخاف مقامه بين يديْ ربه يوم الحساب، لعلمه ويقينه بالمبدأ والمعاد {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي وزجر نفسه عن المعاصي والمحارم، وكفَّها عن الشهوات التي تودي بها إِلى المعاطب {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أي فإِن منزله ومصيره هي الجنة دار النعيم، ليس له منزل غيرها .. ثم ذكر تعالى موقف المكذبين بالقيامة، المستهزئين بأخبار الساعة فقال {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أي يسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن القيامة متى وقوعها وقيامُها؟ قال المفسرون: كان المشركون يسمعون أنباء القيامة، ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل "طامة، وصاخة، وقارعة" فيقولون على سبيل الاستهزاء: متى يوجدها الله ويقيمها، ومتى تحدث وتقع؟ فنزلت الآية {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} أي ليس علمها إِليك حتى تذكرها لهم، لأنها من الغيوب التي استأثر الله عز وجل بها، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين، لا يعلمه أحد سواه {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} أي ما واجبك يا محمد إِلا إِنذار من يخاف القيامة، لا الإِعلام بوقتها، وخصَّ الإِنذار بمن يخشى، لأنه هو الذي ينتفع بذلك الإِنذار {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} أي كأن هؤلاء الكفار يوم يشاهدون القيامة وما فيها من الأهوال {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} لم يلبثوا في الدنيا إِلا ساعة من نهار، بمقدار عشيةٍ أو ضحاها، قال ابن كثير: يستقصرون مدى الحياة الدنيا، حتى كأنه عندهم عشية يوم، أو ضحى يوم .. ختم تعالى السورة الكريمة، بما أقسم عليه في أولها من إِثبات "الحشر، والبعث" فكان ذلك كالدليل والبرهان على مجيء القيامة والساعة، وليتناسق البدء مع الختام.
_________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: تفسير سورة "النبأ" الثلاثاء 22 ديسمبر 2009, 12:04 am | |
| سورة النبأ
الإخبار عن البعث وتأكيد وقوعه
وصف يوم القيامة، وعذاب المجرمين
أحوال السعداء الأبرار
معاودة تأكيد وقوع يوم القيامة
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة عمَّ مكية وتسمى سورة {النبأ} لأن فيها الخبر الهام عن القيامة والبعث والنشور، ومحور السورة يدور حول إِثبات "عقيدة البعث" التي طالما أنكرها المشركون.
* ابتدأت السورة الكريمة بالإِخبار عن موضوع القيامة، والبعث والجزاء، هذا الموضوع الذي شغل أذهان الكثيرين من كفار مكة، حتى صاروا فيه ما بين مصدّق ومكذب {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ..} الآيات.
* ثم أقامت الدلائل والبراهين على قدرة رب العالمين، فإِن الذي يقدر على خلق العجائب والبدائع، لا يعجزه إِعادة خلق الإِنسان بعد فنائه {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا* وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا* وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} الآيات.
* ثم أعقبت ذلك بذكر البعث، وحدَّدت وقته وميعاده، وهو يوم الفصل بين العباد، حيث يجمع الله الأولين والآخرين للحساب {إِن يوم الفصل كان ميقاتاً * يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً ..} الآيات.
* ثم تحدثت عن جهنم التي أعدها الله للكافرين، وما فيها من ألوان العذاب المهين {إِن جهنم كانت مرصاداً * للطاغين مآباً * لابثين فيها أحقاباً} الآيات.
* وبعد الحديث عن الكافرين، تحدثت عن المتقين، وما أعدَّ الله تعالى لهم من ضروب النعيم، على طريقة القرآن في الجمع بين الترهيب والترغيب {إِنَّ للمتقين مفازاً * حدائق وأعناباً * وكواعب أتراباً * وكأساً دِهاقاً} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة بالحديث عن هول يوم القيامة، حيث يتمنى الكافر أن يكون تراباً فلا يحشر ولا يحاسب {إِنا أنذرناكم عذاباً قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً}.
الإخبار عن البعث وتأكيد وقوعه
{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ(1)عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ(2)الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ(3)كَلا سَيَعْلَمُونَ(4)ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ(5)أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا(6)وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا(7)وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا(8)وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا(9)وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا(10)وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا(11)وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا(12)وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا(13)وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا(14)لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا(15)وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا(16)}
سبب النزول:
نزول الآية (1):
{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم، فنزلت: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ*عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}.
{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ}؟ أي عن أيّ شيءٍ يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضاً؟ وأصل {عَمَّ} عنْ ما، أدغمت الميم في النون وحذفت ألف {ما} الاستفهامية، وليس المراد هنا مجرد الاستفهام وإِنما المراد تفخيم الأمر وتعظيمه، وقد كان المشركون يتساءلون عن البعث فيما بينهم، ويخوضون فيه إِنكاراً واستهزاءً فجاء اللفظ بصيغة الاستفهام للتفخيم والتهويل وتعجيب السامعين من أمر المشركين، ثم ذكر تعالى ذلك الأمر الخطير فقال {عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} أي يتساءلون عن الخبر العظيم الهام وهو أمر البعث {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} أي الذي اختلفوا فيه ما بين شاكٍ في وقوعه، ومكذب منكرٍ لحصوله {كَلا سَيَعْلَمُونَ} ردعٌ وزجر أي ليرتدعْ أولئك المكذبون عن التساؤل عن البعث، فسيعلمون حقيقة الحال، حين يرون البعث أمراً واقعاً، ويرون عاقبة استهزائهم {ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ} تأكيد للوعيد مع التهويل أي سيعلمون ما يحل بهم من العذاب والنكال .. ثم أشار تعالى إِلى الأدلة الدالة على قدرته تعالى، ليقيم الحجة على الكفار فيما أنكروه من أمر البعث، وكأنه يقول: إِن الإِله الذي قدر على إِيجاد هذه المخلوقات العظام، قادرٌ على إِحياء الناس بعد موتهم فقال {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} أي ألم نجعل هذه الأرض التي تسكنونها ممهدة للاستقرار عليها، والتقلب في أنحائها؟ جعلناها لكم كالفراش والبساط لتستقروا على ظهرها، وتستفيدوا من سهولها الواسعة بأنواع المرزوعات؟ {وَالْجبَالَ أَوْتَادًا} أي وجعلنا الجبال كالأوتاد للأرض تثبتها لئلا تميد بكم كما يثبت البيت بالأوتاد، قال ابن جزي: شبَّهها بالأوتاد لأنها تمسكُ الأرض أن تميد {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} أي وجعلناكم أيها الناس أصنافاً ذكوراً وإِناثاً، لينتظم أمر النكاح والتناسل، ولا تنقطع الحياة عن ظهر هذا الكوكب الأرضي {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} أي وجعلنا النوم راحة لأبدانكم، قاطعاً لأشغالكم، تتخلصون به من مشاق العمل بالنهار {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} أي جعلنا الليل كاللباس يغشاكم ويستركم بظلامه، كما يستركم اللباس، وتغطيكم ظلمته كما يغطي الثوبُ لابَسه، قال في التسهيل: شبهه بالثياب التي تُلبس لأنه سترٌ عن العيون {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} أي وجعلنا النهار سبباً لتحصيل المعاش، تتصرفون فيه لقضاء حوائجكم، قال ابن كثير: جعلناه مشرقاً مضيئاً ليتمكن الناس من التصرف فيه، بالذهاب المجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} أي وبنينا فوقكم أيها الناس سبع سمواتٍ محكمة الخلق بديعة الصنع، متينةً في إِحكامها وإِتقانها، لا تتأثر بمرور العصور والأزمان، خلقناها بقدرتنا لتكون كالسقف للأرض كقوله تعالى {وجلعنا السماءَ سقفاً محفوظاً} وقوله {والسماءَ بنيناها بأيدٍ وإِنا لموسعون} {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} أي وأنشأنا لكم شمساً منيرة ساطعة، يتوهج ضوءها ويتوقد لأهل الأرض كلهم، دائمة الحرارة والتوقد، قال المفسرون: الوهَّاج المتوقد الشديد الإِضاءة، الذي يضطرم ويلتهب من شدة لهبه، وقال ابن عباس: المنير المتلألئ {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} أي وأنزلنا من السحب التي حان وقتُ إِمطارها ماءً دافقاً منهمراً بشدةٍ وقوة، قال ابن جزي: المعصرات هي السحب، مأخوذةٌ من العصر لأن السحاب ينعصر فينزل منه الماء، شبهت السحابة التي حان وقت إِمطارها بالجارية التي قد دنا حيضها {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} أي لنخرج بهذا الماء أنواع الحبوب والزروع، التي تنبت في الأرض غذاءً للإِنسان والحيوان {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} أي وحدائق وبساتين كثيرة الأشجار والأغصان، ملتفةً بعضها على بعض لكثرة أغصانها وتقارب أشجارها .. ذكر تعالى هذه الأدلة التسع على قدرته تعالى، كبرهانٍ واضح على إِمكان البعث والنشور، فإِن من قدر على هذه الأشياء قادرٌ على البعث والإِحياء لهذا قال بعده. وصف يوم القيامة، وعذاب المجرمين
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا(17)يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا(18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا(19)وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا(20)إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا(21)لِلْطَّاغِينَ مَآبًا(22)لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا(23)لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا(24)إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا(25)جَزَاءً وِفَاقًا(26)إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا(27)وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا(28)وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا(29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا(30)}
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} أي إن يوم الحساب والجزاء، ويوم الفصل بين الخلائق، له وقت محدودٌ معلوم في علمه تعالى وقضائه، لا يتقدم ولا يتأخر {ذلك يومٌ مجموع له الناسُ وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إِلا لأجل معدود} قال القرطبي: سمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه، وقد جعله وقتاً وميعاداً للأولين والآخرين {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} أي يكون ذلك يوم ينفخ في الصور نفخة القيامة من القبور، فتحضرون جماعات جماعات، وزمراً زمراً للحساب والجزاء، ثم ذكر تعالى أوصاف ذلك اليوم الرهيب فقال {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} أي تشققت السماء من كل جانب، حتى كان فيها صدوعٌ وفتوحٌ كالأبواب في الجدران، من هول ذلك اليوم كقوله تعالى {إِذا السماء انشقت} وعبَّر بالماضي {وَفُتِحَتْ} لتحقق الوقوع {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} أي ونسفت الجبال وقلعت من أماكنها، حتى أصبح يخيَّل إِلى الناظر أنها شيء وليست بشيء، كالسراب يظنه الرائي ماءً وليس بماء، قال الطبري: صارت الجبال بعد نسفها هباءً منبثاً لعين الناظر، كالسراب الذي يظنه من يراه ماءً وهو في الحقيقة هباء {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} أي إِن جهنم تنتظر وتترقب نزلاءها الكفار، كما يترصد الإِنسان ويترقب عدوه ليأخذه على حين غرة، قال المفسرون: المرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو، وجهنم تترصَّد أعداء الله لتعذبهم بسعيرها، وهي مترقبة ومتطلعة لمن يمرُّ عليها من الكفار الفجار لتلتقطهم إِليها {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} أي هي مرجع ومأوى ومنزل للطغاة المجرمين {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} أي ماكثين في النار دهوراً متتابعة لا نهاية لها، قال القرطبي: أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب - أي الدهور - وهي لا تنقطع، كلما مضى حقب جاء حقب، لأن أحقاب الآخرة لا نهاية لها، قال الربيع وقتادة: هذه الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} أي لا يذوقون في جهنم برودةً تخفف عنهم حرَّ النار، ولا شراباً يسكِّنُ عطشهم فيها {إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} أي إِلاّ ماءً حاراً بالغاً الغاية في الحرارة، وغساقاً أي صديداً يسيل من جلود أهل النار{جَزَاءً وِفَاقًا} أي عاقبهم الله بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم السيئة {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} أي لم يكونوا يتوقعون الحساب والجزاء، ولا يؤمنون بلقاء الله، فجازاهم الله بذلك الجزاء العادل {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} أي وكانوا يكذبون بآيات الله الدالة على البعث وبالآيات القرآنية تكذيباً شديداً {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} أي وكل ما فعلوه من جرائم وآثام ضبطناه في كتاب لنجازيهم عليه {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} أي فذوقوا يا معشر الكفار فلن نزيدكم على استغاثتكم إِلاَّ عذاباً فوق عذابكم، قال المفسرون: ليس في القرآن على أهل النار آية هي أشد من هذه الآية، كلما استغاثوا بنوعٍ من العذاب أغيثوا بأشد منه.
أحوال السعداء الأبرار
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا(31)حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا(32)وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا(33)وَكَأْسًا دِهَاقًا(34)لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا(35)جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا(36)}
ولما ذكر تعالى أحوال الأشقياء أهل النار، ذكر بعدها أحوال السعداء الأبرار فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} أي إِن للمؤمنين الأبرار الذين أطاعوا ربهم في الدنيا، موضع ظفر وفوز بجنات النعيم، وخلاص من عذاب الجحيم، ثم فسَّر هذا الفوز فقال {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} أي بساتين ناضرة فيها من جميع الأشجار والأزهار، وفيها كروم الأعناب الطيبة المتنوعة من كل ما تشتهيه النفوس {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} أي ونساءً عذارى نواهد قد برزت أَثْداؤهنَّ، وهنَّ في سنٍ واحدة، قال ابن جزي: الكواعب جمع كاعب وهي الجارية التي خرج ثديها {وَكَأْسًا دِهَاقًا} أي وكأساً من الخمر ممتلئةً صافية، قال القرطبي: المرادُ بالكأس الخمرُ كأنه قال: وخمراً ذات دِهاقٍ أي مملوءة قد عُصرت وصُفّيت {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} أي لا يسمعون في الجنة كلاماً فارغاً لا فائدة فيه، ولا كذباً من القول لأن الجنة دار السلام، وكل ما فيها سالمٌ من الباطل والنقص {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} أي جازاهم الله بذلك الثواب العظيم، تفضلاً منه وإِحساناً كافياً على حسب أعمالهم.
معاودة تأكيد وقوع يوم القيامة
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا(37)يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا(38)ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا(39)إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا(40)}
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ} أي هذا الجزاء صادرٌ من الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} أي لا يقدر أحدٌ أن يخاطبه في دفع بلاء، أو رفع عذاب في ذلك اليوم، هيبةً وجلالاً {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} أي في ذلك اليوم الرهيب يقف جبريل والملائكة مصطفين خاشعين {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} أي لا يتكلم أحد منهم إِلاّ من أذن الله له بالكلام والشفاعة ونطق بالصواب، قال الصاوي: وإِذا كان الملائكة الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله لا يقدرون أن يشفعوا إِلا بإِذنه، فكيف يملك غيرهم؟ {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي ذلك هو اليوم الكائن الواقع لا محالة {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} أي فمن شاء أن يسلك إلى ربه مرجعاً كريماً بالإِيمان والعمل الصالح فلْيفعلْ، وهو حثٌ وترغيب {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} الخطاب لكفار قريش المنكرين للبعث أي إنا حذرناكم وخوفناكم عذاباً قريباً وقوعه هو عذاب الآخرة، سمَّاه قريباً لأن كل ما هو آتٍ قريب {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي يوم يرى كل إِنسان ما قدَّم من خير أو شر مثبتاً في صحيفته كقوله تعالى {ووجدوا ما عملوا حاضراً} {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} أي ويتمنى الكافر له أنه لم يخلق ولم يُكلَّف ويقول: يا ليتني كنت تراباً حتى لا أحاسب ولا أعاقب، قال المفسرون: وذلك حين يحشر الله الحيوانات يوم القيامة فيقتصُّ للجمّاء من القرناء، وبعد ذلك يصيّرها تراباً، فيتمنى الكافر أن لو كان كذلك حتى لا يعذب. _________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
تركيه الخضرى المدير المساعد
عدد الرسائل : 3347 نقاط : 10559 تاريخ التسجيل : 19/02/2010
| موضوع: رد: شرح وتفسير جزء عم كاملاً الأربعاء 21 أبريل 2010, 6:05 am | |
| جزاك الله خيرا وجعله فى ميزان حسناتك _________________ | |
|
| |
مها مشرف قسم الألعاب
عدد الرسائل : 1258 تاريخ الميلاد : 07/02/1986 العمر : 38 نقاط : 7096 تاريخ التسجيل : 08/04/2010
| موضوع: رد: شرح وتفسير جزء عم كاملاً الأحد 13 يونيو 2010, 2:18 pm | |
| | |
|
| |
hazemkabeel عضو جديد
عدد الرسائل : 5 تاريخ الميلاد : 17/02/1969 العمر : 55 نقاط : 5290 تاريخ التسجيل : 14/06/2010
| موضوع: رد: شرح وتفسير جزء عم كاملاً الإثنين 14 يونيو 2010, 4:13 am | |
| [/b]جزاكم الله كل خير على مجهوداتكم الرائعة و جعلها الله فى ميزان حسناتكم . | |
|
| |
مها مشرف قسم الألعاب
عدد الرسائل : 1258 تاريخ الميلاد : 07/02/1986 العمر : 38 نقاط : 7096 تاريخ التسجيل : 08/04/2010
| موضوع: رد: شرح وتفسير جزء عم كاملاً الأحد 20 يونيو 2010, 8:50 am | |
| مشكور على الموضوع الرائع وعلى جهدك الطيب | |
|
| |
مها مشرف قسم الألعاب
عدد الرسائل : 1258 تاريخ الميلاد : 07/02/1986 العمر : 38 نقاط : 7096 تاريخ التسجيل : 08/04/2010
| موضوع: رد: شرح وتفسير جزء عم كاملاً الأحد 20 يونيو 2010, 8:57 am | |
| | |
|
| |
ام احمد عضو جديد
عدد الرسائل : 2 تاريخ الميلاد : 25/11/1977 العمر : 47 نقاط : 4560 تاريخ التسجيل : 04/06/2012
| موضوع: رد: شرح وتفسير جزء عم كاملاً السبت 14 يوليو 2012, 2:07 am | |
| ياريت تستعرضوا حياه خاتم الانبياء والمرسلين سيدنا محمد افضل خلق الله | |
|
| |
عرباوي المدير العام
عدد الرسائل : 22560 تاريخ الميلاد : 06/02/1980 العمر : 44 نقاط : 58154 تاريخ التسجيل : 21/09/2008
| موضوع: رد: شرح وتفسير جزء عم كاملاً السبت 14 يوليو 2012, 12:10 pm | |
| - ام احمد كتب:
- ياريت تستعرضوا حياه خاتم الانبياء والمرسلين سيدنا محمد افضل خلق الله
مرحباً بك أختي الكريمة أم أحمد يوجد بقسم السنة النبوية بالفعل قصة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كاملة، علاوة على سيرة وسنة الحبيب عليه أفضل الصلاة والتسليم وكل عام وانت بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم _________________ قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد
| |
|
| |
| شرح وتفسير جزء عم كاملاً | |
|