الرجاء قراءة الموضوع لاني تعبت في كتابته
محدش يقول طويل لانو كان عندي في امتحان العربي ...
دكتور زكي نجيب محمود صاحب هذا المقال نشره في منتصف الثمانينات .
النملة تدخر القوت لفصل الشتاء ,وهي إذ تخزن القوت الذي جمعته,تتركه كما وجدته ,
فحبة القمح تظل كما هي حبة قمح وقطعة السكر تظل كما هي قطعة سكر فكل ما علي النملة فعله في هذا السبيل ,هو ان تجمع ما تصادفه صالحا لطعامها ,وترصه علي مستوي الارض , او تكومه بعضه فوق بعض .
رأيت في صباي شيئا عجيبا وكان ذلك في اعقاب مطرغزير ,اذ شهدت جماعة من النمل تخرج مخزونها من جحرها ,وتنشره متفرقا تحت اشعة الشمس ,ولابد ان تكون قد وجدته مبللا بما تسرب اليه من ماء المطر ,وليس مخزون النمل دائما جزيئات صغيرة من مختلف المواد التي تراها صالحا لطعامها ,بل قد يحدث ان تقع علي صيد جسيم فتبقيه علي جسامته ,وتحفر له مخزون خاصا يسعه بكل حجمه,وراقبت ذلك بنفسي ذات يوم ,رايت في الحديقة امامي نملة كبيرة تناور صرصارا ,وتداوره ثم لدغته في ام راسه لدغة رايته يجمد بعدها فبعدت النملة عنه مسافة قصيرة , حيث اخذت تحفر جحرا , وبسرعة البرق تم لها ما ارادت ,فعادت الي فريستها , وجرته الي حيث الجحر , واعجباه ! !كيف اخذت تقيس الصرصار طولا وارتفاعا بخطوات سريعة اخذت تخطوها بجانبه , ومتسلقة علي جسده, ثم دخلت الجحر بعد ذلك وحدها ,ولعلها وجدت الجحر اصغر من ان يسع الفريسة , فراحت توسعه بحفر جديدا , واعادت عملية القياس , فلما اطمأنت , شدت صيدها الي محبسه , وردمت عليه بتراب الحفر حتي اغلقت فتحة الدخول , وذهبت الي حال سبيلها .
ذلك هو النمل وما يصنعه في تخزين قوته , فهو ماهر كل المهارة في جمعه لكنه لا يغير فيه شئ , اما النحل فأمره اخر ؛لأنه ما إن يمتص رحيق الازهار , حتي يدير له معاملة داخلية , فتخرجه عسلا شهيا في الخلية .
وعلي طريقة النمل وطريقة النحل يكون الانسان في جمع معارفه وعلومه :
فتارة يصنع صنيع النمل , وطورا يجري عليها طريقة النحل وبين الطريقتين تختلف الشعوب , وكذلك العصور فشعب ما , تسوده عمليةالجمع والتخزين , حتي إذا ما أراد أحد أن ينتفع بشئ من المعرفة المخزونة في حياته العملية أخرج من المخازن ما يريد ؛ليستخدمه كما كان تلقاه وحفظه , ولكنا في الوقت نفسه قد نجد شعبا آخر وعصرا آخر لا يستريح الا إذا تحولت المواد المجموعة علي يديه خلقا جديدا ,وبمثل هذا الابداع يتقدم الانسان .ولعلك تلحظ في عملية الجمع مشتركة في الحا لتين , ولكن بينما يوقف عندها في الحالة الاولي ,ويتخطاها المبدع في مرحلة تُبني عليها في الحالة الثانية فالنمل والنحل كلاهما يجمع مواده ,فأما النمل فيخزن ما تجمع كما هو ,أما النحل فيصير مما جمعه شيئا جديدا .
وإني اسارع في التقطة من سياق الحديث ,فأوجز بجملة واحدة ما سوف أعرضه بعد ذلك مشروحا مفصلا , ولماذا أسارع بذكر النتيجة قبل بيان مقدمتها ؟جوابي :لأقطع طريق الفرار علي القارئ الملول الذي يكتفي بقرأة فقرة أو فقرتين , وإذن فليحمل معه الفكرة قبل فراره ,عسي أن تثير فيه القلق وإمعان النظر ,فأقول إن مصر قد مضي علي نهضتها الحديثة الان مائة وثمانون عاما ؛أنها بدأت نهضتها قبل ان تبدأ روسيا نهضتها بما يقرب من ثلث قرن , وقبل أن تبدا اليابان نهضتها بما يقرب من ثمانين عاما ,ولكن مصر خلال المائة وثمانين عاما لم تبلغ من النهوض ما يكفي أن تبتكر هي الجديد وتضيفه ,كما فعل غيرها من الشعوب الناهضة ممن بدا الشوط بعدها ,فما علة ذلك ؟إن ذلك قد تكون له علل كثيرة ,ولكن واحدة هي التي تجئ أهم من سواها في الطليعة هي أن مصر قد اختارت _علي الاغلب_طريقة النمل وقلما صنعت صنيع النحل , فاصبح لديها ما شأت من خزائن العلوم والفنون لكنها ملئية بما أبدعه غيرها من الشعوب الناهضة .
علي الانصاف يقتضينا أن نقول هنا إن الأمر ليس هو :أما منهج النمل وحده وإما منهج النحل وحده إذ قد يجمع الفرد الواحد بين الطريقتين ومثل هذا نراه قد تحقق بعدد من أعلام النهضة الحديثة في مصر ولكننا إذا ما أردنا حكما عادلا بما هو الاغلب علي مجري حياتنا طوال المائة والثمانين عاما قلنا إنه منهج النمل في الجمع والتخزين .
تعالو نستعرض معا سريعا أمثلة من أقوي النهضات الثقافية التي شهدت التاريخ لنري علي أي منهج سارت فأبدعت ,وسنري أنها جميعا قد تشابهت في مراحل السير :خطوة نملية تجمع بها ما قد وصلت إليه الدنيا من أمهات الحقائق ,تتلوها خطوة نحلية يمتص فيها أصحاب المواهب رحيق المعارف المجموعة .لا ليخزنوها في ذاكرته لتبقي علي صورتها ,بل ليحولوها في معامل المواهب إبداعا جديدا ,أما في مرحلة الانطفاء والركود ,فإن الدارشين يحفظون عن ظهر قلب ما يتلقونه من المأثورات الاولين ليخرجوها في المناسبات المختلفة تسميعا فتخرج وكأنها مومياوات خرجت من توابيتها لتوضع في المتاحف ولنجعل مثلنا الاول ذلك المد الثقافي الزاخر في تاريخ بلاد المسلمين ,فلم يكد يمضي علي ظهور الاسلام ما يزيد قليلا علي قرن واحد ,شغل فيها العلماء _أساسا_باللغة وما يتصل بها من شواهد وقواعد حتي بدأت حركة الجمع من مصادر الاخرين وأعني حركة الترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية ,وقد سارت تلك الحركة علي مرحلتين:كان المترجمون في المرحلة الاولي يعملون فرادي كل بحسب مزاجه ,دون أن يكون للدولة شأن بهم ,وأما في المرحلة الثانية ,فقد كان للدولة شأن عظيم ,إذ أنشأ المأمون مايسمي ببيت الحكمة ,حيث يجتمع القاءمون علي الترجمة تحت رعاية الخليفة ,وكانت حصيلة ذلك كله ان أصبح بين أيدي الدارسين ترجمات لمعظم مؤلفات أرسطو وما كتبه الشارحون للافلاطونية المحدثة وبعض محاورات أفلاطون ومعظم مؤلفات جالينوس وأجزاء مما كتبه غير جالينوس في الطب ,فضلا عن المؤلفات في ميادين العلوم ,ومنها كتب اقليدس وكتاب ارشميدس فما إن بلغ القرن التاسع ( الثالث الهجري)نهايته إلا وقد شهدت العربية محصولا طبيا مما انتجه السابقون في ثقافات أخري,ولك أن تتخيل نفسك وقد دخلت بيت الحكمة في بغداد ,لتري جماعة المترجمين منكبة علي صحائفها ,تنقل من لغة أخري إلي اللغة العربية ,وبين هؤلاء ثلاثة من أسرة واحدة هم أبوزيد حنين ابن اسحاق وابنه اسحاق وابن اخته حنين ,فهل يسعك وانت تري هؤلاء يترجمون ما يترجمونه ,إلا أن تدرك من فورك أنك إنما تشهد شيئا يشبه جهود النمل في الجمع والتخزين ,وأن تلك المادة المنقولة الي العربية لن تكون هي الثقافة العربية ولكن الذي سيجعلها كذلك رجال آخرون , يتلقون تلك المترجمات ليرشفوا رحيقا ,ثم ليخرجوا ما قد رشفوه خلقا جديدا ,هو الذي نشير إليه اليوم ,إذا ما تحدثنا عن التراث العربي وهو في عزه وزرة مجده .
وانتقل مع التاريخ العربي إلي القرن العشر (الرابع الهجري)وخذ ما اتفق لديك أن تصل اليه في خزانة الكتب التي عاش أصحابها في ذلك العهد ,ثم انظر الي محتواها ,لتري كيف تحولت الازهار الي عسل ,فقرأ_مثلا _لأبي حيان التوحيدي تجد أمامك فكرعربي جديد كثيرا ,فلا هو يشبه بما قد كان عند أسلافه العرب من فكر ,ولا هو يشه كل الشبه ما نُقل إلي العربية من مؤلفات اليونان,وليس ذلك المذاق الجديد مقصورا علي رجل أو رجلين بل هو طابع شامل العصر كامل امتدد حقبة طويلة فترة من الومن في المشرق العربي والمغرب العربي علي السواء ,وفي تلك الحقبة لمعت أسماء كالنجوم الساطعة ,من فلاسفة الفارابي وابن سينا وابن رشد وشعراء حكماء كأبي العلاء المعري ,ونقاد ,مثل : عبد القاهر الجرجاني ,وعلماء في الرياضة,والفلك والكمياء ,والطب وغير ذلك من شتي جوانب الفكر والادب .
وننتقل الي المثل الثاني من النهضات الثقافية الزاهرة وهو مثل اروبا في نهضتها التي وصفت بأنها ولادة جيدة ,فها هنا أيضا كانت المرحلة الاولي شبيه بما يصنعه النمل بطعامه المدخر ,جمعا وتخزينا ,حتي يحين له الحين ,فما انفكت اوربا في اواخر عصورها الوسطي ,تجمع بين يديها أهم ما انتجه العقل البشري في ثقافة اليونا ن ,وثقافة الرومان ,وثقافة العرب ,وترجم هذا كله ,أخذت دائرة انتشاره تتسع ,حتي بات في متناول الدارسين في الاديرة والجامعات ,وتحت ايدي رجال الفن والادب,ثم جاء دور النحل والعسل ,فإذا الدنيا أمام روح جديد وعقل جديد ,ولم تكن تلك الجدة مقصورة علي علماء من أمثال جاليليو وكوبرنيق ,ولا علي رجال فن من أمثال رفائيل ومايكل انجولو وليوناردو دافنشي ,ولا أدباء وشعراء مثل شكسبير بل الجدة شملت روح الحياة نفسها ,وسادت في الناس فرحة غريبة كفرحة الطفل بشئ جديد ,انطلق الرحالة يجوبون البحار المجهولة , والارض البعيدة ,ويصعدون الجبال بعد أن لم تكن تلك الجبال قبل ذلك إلا مصدر للخوف والتخويف دبت في الحياة كلها روح المغامرة والبحث عما وراء الاستار ,وما اختفي في الظلمات فكان من كل ذلك أن دخل العام عصره الجديد:علما واكتشافا وأدبا وفنا ,واهتماما بالانسان الذي هو بشر تقله الارض وتظله السماء ,لا بالانسان من حيث هو زاهد يكفيه القليل .
وهذا الموضوع من سياق الحديث ,هو موضوع ملائم لذكر سير فانتز ورائعته الكبري دون كيخوته فوقفة منا عند هذا الكتاب ,ضرورية ضرورة المنبهات القوية إذا ما أخذت الانسان سنة من النوم وهو بحاجة إلي يقظة واعية ,فليس كل شئ في دون كيخوته أنه يحارب طواحين الهواء ظنا انها فرسان معادية ,وأن يهاجم قطعان الخراف علي انها جيوش مداهمة لا ,بل هنالك _عند فهم الكتاب _(ما هو أعمق أثر ,فيمن يحيا حياة الركودكالذي نحياه نحن اليوم.
فذلك الرجل دون كيخوته قرأعن كتب السلف عن حياة الفرسان وحفظ ماقرأ ,لم يفير فيه شئ ولم يضف إليه جديد ,ثم رسم حياته علي نموذج ,فهو بمثابة نملة كبيرة حصلت علي صيد كبير فخزنته لتجعلة وليمة ذات يوم شتاء كالنملة التي رأيتها في حديقة المنزل, ولو كان دون كيخوته فعل ذلك في عصر سابق لعصره , أيام أن كانت حياة الفرسانأمر شائع مألوف بل كانت موضع تبجيل واحترام لما كان في أمره ما يلفت النظر في فرس يعيش في عصر الفرسان؟لكن عصر الفرسان قد ولي وتأهبت الحياة للدخول في عصر جديد _النهضة الاوربية _ثم ظهر دون كيخوته لا ليتنفس مع الناس الهوء الجديد بل ليتنفس هواء مخزونا بين الكتب قرأها عن عصر قديم ,فإذا كان سائر الناس من لحم ودم فقد كان هو أنسن من كلمات محفوظة وكانت دماؤه من مدم الحبر ,وهل تظن أن دون كيخوته كان أعجوبة بشرية واختفت ؟أمعن النظر فيما حولك زمن حولك ,تجد من طرازه مئات يدبو ن علي الارض بأحساد من ورق ,ودماء من مداد ,وأدمغة مشحونة بكلمات السابقين ,لا لتكون مصدر إلهام جديد,بل ليعشوها كرة أخري كما ل لم تمض بيننا وبينهم مئات السنين.
فنحن ,بعد أن مضينا مائة وثمانين علي انفتاح نهضتنا الحديثة ,لو استثنينا قلة قليلة مما انتجناه خلال تلك الفترة ,لوجدنا إنتاجا يشبه شئ من بيوت النمل ,فهو إنتاج يمكن أن يلخص في الصيغة ,قال أسلافنا كذا ,وقال الغرب عن أسلافه ومعاصريه كيت ,فلا نزال في الموسيقي والشعر اللذين لا يكونان شئيا إذا لم ينبثقا من صميم الموسيقس والشاعر ,وأقول :أننا حتي في هذا المجال لا نزال بين رجلين :أحدهما يقول :هكذا يكون الفن كما عرفه أسلافنا ,والآخر يرد عليه هكذا يكون الفن كما عرفه الغرب ,ولا أقول شئيا عن موقفنا في ميادين الفك والعلم والنظم علي اختلافها ,فواضح أننا في كل ذلك كله ننحصر في إطار الصيغة التي أشرت إليها ,وهي أن صوتا ينادي بما أخذه السلف وصوتا يرد عله بما يسود الغرب؟ولم تتبلور بعد وجهة ,إنه لا بأس في أن تصغي بآذان مرهفة لما قاله العرب وماقالع الغرب من أسلافه ومعاصريه بل هو أمر ضروري محتوم لمن أرادوا لنهضتهم ان تقوم علي ساقين ,ولكن البأس كل البأس أن نقف من ذينك المصدرين موقف النمل في الجمع والتخزين وكفي ,إذ يبقي بعد ذلك دور النحل في التحويل والتمثيل ليتاح لنا أن نقول هذا كتابنا بيميننا ,وعلي أساسه يكون الحساب ,ولقد تحقق لنا هذا باللفعل في كثير من الابداع الادبي وفي قليل من الفن ,ولكنه لم يتحقق في لفكر بشتي جوانبه ,لا كثير ولا قليل ,اللهم قطرات لا تطفئ ظمأ العصفور.
__________________
لا تظنوا من تعاملي و ابتسامتي انني قد نسيت ... بل انا مبتسم بالم قد لا يحسه الاخرون ... لكن ان فعلوا فلن يبتسموا ثانية ......
ما اجمل ان يكون لي في الدنيا انسان ... و ما اصعب ان اخسره ... ولكن ..!
قد خسرت صديقا خسر الدنيا و فاز بالاخرة ... فانا اذا لم اخسره ... بل خسارتي اعظم و اشد لاني لم انضم اليه ...
كم اتمنى صديقا اخر ان يؤنس وحدتي و لكن ... لم و لن يحل احد مكانك حتى التقيك
وبعد كل ذلك لا يبقى لي سوى ابتسامة زائفة تسمى "صورة صديق"
لم انسك ... و لن انساك ... فلا تنسني .....