كنوز النت الإسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كنوز النت الإسلامية

منتديات كنوز النت الإسلامية لنشر علوم الدنيا والدين
 
الرئيسيةبوابة كنوز النتمكتبة الصورس .و .جبحـثالأعضاءالمجموعاتالتسجيلدخول

 

 كتاب التوحيد شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: كتاب التوحيد شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 5:19 am

اليوم تم بحمد الله تعالى افتتاح قسم التوحيد والعقيده الاسلاميه وسنبدأ بعون الله عرض سلسلة كتاب التوحيد الذى هو حق الله على العبيد للشيخ الامام محمد بن عبد الوهاب بشرح الشييخ صالح بن عبد العزيز ال الشيخ وسانبدأ بعون الله و سانعرض الباب الاول وهو

كتاب التوحيد



كتاب التوحيد، وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام والمسلمين مُجَدِّد الدعوة والدين الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: كتاب التوحيد، وقول الله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 وقوله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 وقوله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 وقوله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 وقوله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 إلى قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 .


وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2 كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم فيتكلوا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 أخرجاه.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بعث عباده المرسلين بتوحيده، فأقاموا الحجة على العباد، واتفقوا من أولهم إلى آخرهم على ألا معبود حقٌ إلا الله، وعلى أن عبادة غيره باطلة، وأنه ما عُبِدَ غير الله إلا بالبغي والظلم والعدوان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تأكيدا بعد تأكيد، ببيان مقام التوحيد، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد.
فهذا الكتاب، وهو كتاب التوحيد للإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب وهو غني عن التعريف؛ لما جعل الله -جل وعلا- لدعوته من أثر في شرق الأرض وفي غربها وفي شمالها وفي جنوبها ذلك أنها دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وكتاب التوحيد -الذي نحن الآن بصدد شرحه- كتاب عظيم جدا، وأجمع العلماء أعني: علماء التوحيد على أنه لم يُصَنَّف في الإسلام في موضوعه مثلُه، فهو كتاب وحيد وفريد في بابه؛ لأنه -رحمه الله- طرق في هذا الكتاب مسائل توحيد العبادة، وما يضاد ذلك التوحيد إما من أصله وإما يراد كماله، وهذا على نحو التفصيل الذي ساق به الشيخ -رحمه الله- تلك المسائل والأبواب لم يوجد في كتاب على نحو سياقته مجموعا.
ولهذا طالب العلم لا يستغني ألبتة عن هذا الكتاب من جهة معرفته بمعانيه؛ لأنه مشتمل على الآي والحديث، وقد شبه بعض العلماء هذا الكتاب بأنه قطعة من صحيح البخاري -رحمه الله- وهذا ظاهر في أن الشيخ -رحمه الله- جعل هذا الكتاب ككتاب البخاري من جهة أن الترجمة فيها آية وحديث، والحديث دال على الترجمة، والآية دالة على الترجمة، وما بعدها مُفَسِّر لها، وما ساق من كلام أهل العلم من الصحابة أو من التابعين، أو من كلام أئمة الإسلام، فهو على نسق طريقة أبي عبد الله البخاري -رحمه الله- فإنه يسوق أقوال أهل العلم في بيان المعاني.
هذا الكتاب صنَّفه إمام الدعوة ابتداءً في البصرة لما رحل إليها، وكان الداعي إلى تأليفه ما رأى من شيوع الشرك بالله -جل جلاله- ومن افتقاد التوحيد الحق في المسلمين، فرأى مظاهر الشرك الأكبر والأصغر والخفي، فابتدأ في البصرة جمْعَ هذا الكتاب وتحرير الدلائل لمسائله.
ذكر ذلك تلميذه وحفيده الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- في المقامات ثم حرَّره الشيخ -رحمه الله- وأكمله لما قدم نجدا، وصار هذا الكتاب كتاب دعوة فهو يمثل الدعوة إلى التوحيد؛ لأن الشيخ -رحمه الله- بيَّن فيه أصول دلائل التوحيد، بيَّن فيه معناه وفضله، وبيَّن ضده والخوف من ضده، بيَّن أفراد توحيد العبادة، وأفراد توحيد الأسماء والصفات إجمالا.
وبيَّن الشرك الأكبر وصورا من الشرك الأكبر، وبيَّن الشرك الأصغر وصورا من الشرك الأصغر، وبيَّن الوسائل، وبيَّن حماية التوحيد، وما يكون به، وبيَّن أيضا شيئا من أفراد توحيد الربوبية، فهذا الكتاب -كتاب التوحيد- كتاب عظيم جدا.
ولهذا يعظم أن تعتني به عناية حفظ ودرس وتأمل؛ لأنك أينما كنت فأنت محتاج إليه في نفسك، أو في تبليغ العلم لمن وراءك، سواء كان ذلك في البيت أم كان في المسجد، أم كان في العمل، أم في أيِّ جهة، فمن فهم هذا الكتاب فهم أكثر مسائل توحيد العبادة، بل فهم جُلَّها وأغلبها.
نبتدأ الشرح، وقد كنت نظرت في كيف تكون طريقة شرح هذا الكتاب، والكتاب كما تعلمون طويل، لا يمكن شرحه بتوسط أو ببسط في نحو ثمانية عشر درسا، والعلماء الذين شرحوه -وهم كُثر- كانوا بين مطيل ومتوسط ومختصِر، فنظرت في ذلك فتقرر أن يكون الشرح فيه ذكر للفوائد التي كثيرا ما تلتبس على طلبة العلم، وفيه بيان مناسبة الآي والأحاديث في الترجمة.
وفيه بيان وجه الاستدلال من الآية أو من الحديث على المقصود، وفيه ذكر شيء من تقرير الحجج مع الخصوم في هذه المسائل ربما بما لا يطالعه كثير منكم في الشروح، وهذه الطريقة التي سنسلكها طريقة مختصرة سوف نأتي بها إن شاء الله تعالى، ونسأله المدد منه والإعانة والتوفيق، سنأتي بها على الكتاب كله بإذن الله، مع عدم الإخلال بإفهامه وعدم الإخلال بمعانيه.
قوله: كتاب التوحيد، وقول الله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 عادة المصنفين والمؤلفين أن يضعوا بعد البسملة، والحمد له خطبة للكتاب يذكرون فيها طريقتهم في هذا الكتاب، ومرادهم من تأليفه، وهاهنا سؤال معروف، وهو أن الشيخ -رحمه الله- خالف طريقة المصنفين فلم يجعل للكتاب خطبة يبين فيها طريقته، بل قال: كتاب التوحيد وقول الله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 فأخلاه من الخطبة والسبب في ذلك والسر فيه فيما يظهر لي أن التوحيد الذي سيبينه الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب هو توحيد الله جل جلاله.
وتوحيد الله بيَّنه الله -جل وعلا- في القرآن، فكان من الأدب في مقام التوحيد ألا يجعل فاصلا بين الحق، والدال على الحق، وكلام الدال عليه فالحق الذي لله هو التوحيد، والذي دل على هذا الحق هو الله -جل جلاله-، والدليل عليه هو كلامه، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا من لطائف أثر التوحيد على القلب كما صنع البخاري -رحمه الله- في صحيحه؛ إذ لم يجعل لصحيحه خطبة بل جعل صحيحه مبتدئا بالحديث ذلك أن كتابه كتاب سنة، ومن المعلوم أن الأدب ألا يتقدم بين يدي الله ورسوله، فلم يقدم كلامه على كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- فجعل البخاري صحيحه مفتتحا بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2 إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 وكتابه كتاب سنة، فجعل كتابه في ابتدائه مبتدئا بكلام صاحب السنة -عليه الصلاة والسلام- وهذا من لطيف المعاني التي يرعاها مَن نوَّر الله قلوبهم لمعرفة حقه، وحق رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
كتاب التوحيد، التوحيد مصدر وحَّد يوحد توحيدا، وقد جاء هذا اللفظ التوحيد بقلة، وجاء في السنة الدعوة إلى توحيد الله كما جاء في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2 إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 إلى أن يوحدوا الله - يوحدوا مصدره التوحيد.
وفي الرواية الأخرى من حديث ابن عباس هذا الذي فيه قصة بعث معاذ إلى اليمن، وهي في الصحيحين قال: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2 فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 فدل على أن التوحيد هو: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتحقيق هاتين الشهادتين هو تحقيق التوحيد.
التوحيد جعل الشيء واحدا، وحَّد يعني جعله واحدا، نقول: وحدت المتكلم إذا جعلته واحدا، ووحَّد المسلمون الله إذا جعلوا المعبود واحدا وهو الله -جل وعلا- والتوحيد المطلوب يشمل ما أمر الله -جل وعلا- به في الكتاب من توحيده، وهو ثلاثة أنواع:
الأول: توحيد الربوبية.
والثاني: توحيد الألوهية.
والثالث: توحيد الأسماء والصفات.
توحيد الربوبية معناه توحيد الله بأفعاله، أفعال الله كثيرة منها: الخلق والرزق، والإحياء، والإماتة، وتدبير الملك، والنفع والضر، والشفاء، والإجارة يجير ولا يجار عليه، وإجابة دعوة المضطر، وإجابة دعوة الداعي، ونحو ذلك من أفراد الربوبية. فالمتفرد بذلك على الكمال هو الله -جل وعلا- فتوحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله، سبحانه.
وتوحيد الألوهية مأخوذٌ من أَلِهَ يأله إلهة وألوهة إذا عبد مع المحبة والتعظيم، يقال: تأله إذا عبد معظما محبا فَفَرْقٌ بين العبادة والألوهة، فإن الألوهة عبادة فيها المحبة والتعظيم، والرضا بالحال، والرجاء والرَّغَب والرَّهَب ـ فمصدر أله، يأله، ألوهة، وإلهة ـ ولهذا قيل: توحيد الإلهية وقيل: توحيد الألوهية، وهما مصدران لأله يأله، ومعنى أله في لغة العرب يعني: عبد مع المحبة والتعظيم، والتأله: العبادة على ذاك النحو قال الراجز:




لله در الغانيات المدف

سبحن واسترجعن من تأله

يعني: من عبادته، فتوحيد الإلهية أو توحيد الألوهية هو توحيد العبادة يعني جعل العبادة لواحد، وهو الله، جل جلاله.
والعبادة أنواع، والعبادة يفعلها العبد والله -جل وعلا- هو المستحق للألوهة وللعبادة يعني: هو ذو الألوهة، وهو ذو العبادة على خلقه أجمعين.
توحيد الألوهية: هو توحيد الله بأفعال العبد، أفعالك متنوعة التي تفعلها تقربا، فإذا توجهت بها لواحد كنت لواحد، وهو الله -جل وعلا- كنت موحدا توحيد الإلهية، فإذا توجه العبد بها لله ولغيره كان مشركا في هذه العبادة.
والنوع الثالث من التوحيد توحيد الأسماء والصفات ومعناه أن يعتقد العبد أن الله -جل جلاله- واحد في أسمائه وصفاته لا مماثل له فيهما ـ وإن شرك بعض العباد الله -جل وعلا- في أصل بعض الصفات لكنهم لا يشركونه -جل وعلا- في كمال المعنى، بل الكمال فيها لله وحده دون من سواه.
فمثلا المخلوق قد يكون عزيزا، والله -جل جلاله- هو العزيز، له للمخلوق من صفة العزة ما يناسب ذاته الحقيرة الوضيعة الفقيرة، والله -جل وعلا- له من كمال هذه الصفة منتهى ذلك، ليس له فيها مثيل، وليس له فيها مشابه على الوجه التام قال جل وعلا: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 .
هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد ذكرها الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب لكن لما كانت التصانيف قبله اعتنى فيها العلماء -أعني: علماء السنة والعقيدة- ببيان النوعين الأول والثالث، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، هما توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ لما اعتنى العلماء بهما لم يبسط الشيخ -رحمه الله- القول فيهما، وإنما بسط القول فيما الناس بحاجة إليه، ويفتقدون التصنيف فيه.
وهذه طريقة الإمام -رحمه الله- فإن كتاباته مختلفة، وإن مؤلفات الشيخ إنما كانت للحاجة ليست للتكاثر، أو للاستكثار أو للتفنن، وإنما كتب فيما الناس بحاجة إليه، لم يكتب لأجل أن يكتب، ولكن كتب لأجل أن يدعو وبين الأمرين فرق، فإن الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب بين توحيد الإلهية والعبودية، وبيَّن أفراده من التوكل والخوف والمحبة والرجاء والرغبة ونحو ذلك، والاستعانة والاستغاثة، والذبح والنذر كل هذه عبادات لله سبحانه دون من سواه.
والشيخ -رحمه الله- لما بسط ذلك بيَّن أيضا ضده وهو الشرك فهذا الكتاب كتاب التوحيد الذي فيه بيان توحيد العبادة والربوبية والأسماء والصفات، وفيه أيضا بيان ضد ذلك، وضد التوحيد الشرك، والشرك اتخاذ الشريك يعني أن يجعل واحدا شريكا لآخر، يقال: أشرك بينهما إذا جعلهما اثنين أو أشرك في أمره غيره إذا جعل ذلك الأمر لاثنين، فالشرك فيه تشريك.
والله -جل وعلا- نهى عن الشرك، كما سيأتي الشرك في كلام أهل العلم مبينين ما دلت عليه النصوص يقسم إلى قسمين باعتبار ويقسم إلى ثلاثة باعتبار آخر، الشرك يقسم إلى شرك أكبر وإلى شرك أصغر، ويقسم أيضا باعتبار آخر إلى شرك أكبر وشرك أصغر وشرك خفي، والشرك هو اتخاذ الشريك مع الله -جل وعلا- في الربوبية، أو في العبادة أو في الأسماء والصفات، والمقصود هنا النهي عن اتخاذ الشريك مع الله -جل وعلا- في العبادة والأمر بتوحيده سبحانه.
التقسيم الأول: أن يكون الشرك أكبر وأصغر، الأكبر هو المُخرج من الملة، والأصغر ما حَكَمَ الشارع عليه بأنه شرك، وليس فيه تنديد كامل يلحقه بالشرك الأكبر، وعبر عنه بعض العلماء بقوله: ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر، على هذا يكون الشرك الأكبر ثَمَّ منه ما هو ظاهرٌ وثَمَّ منه ما هو باطن خفيّ.
الظاهر من الشرك الأكبر كشرك عباد الأوثان والأصنام، وعباد القبور، والأموات، والغائبين، والباطن كشرك المتوكلين على المشايخ، أو على الآلهة المختلفة، أو كشرك وكفر المنافقين؛ لأن المنافقين مشركون في الباطن، فشركهم خفي، ولكنه أكبر وفي الباطن وليس في الظاهر.
الشرك الأصغر على هذا التقسيم منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن خفي، الظاهر من الشرك الأصغر كلبس الحلقة، والخيط وكالتمائم، وكالحلف بغير الله، ونحو ذلك من الأعمال والأقوال.
والباطن من ذلك الخفي كيسير الرياء، ونحو ذلك فيكون إذن الرياء على هذا التقسيم منه ما هو أكبر كرياء المنافقين كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 ومنه رياء المؤمنين، رياء المسلمين حيث يتصنع في صلاته، أو يحب التسميع أو المراءاة.
التقسيم الثاني للشرك: أن يكون ثلاثة أقسام أكبر، أصغر، خفي، وهذا التقسيم يعنى به أن الأكبر ما هو مخرج من الملة، مما فيه صرف العبادة لغير الله -جل جلاله-.
والأصغر ما كان وسيلة لذلك الشرك الأكبر، فيه تنديد لا يبلغ به من ندَّد أن يخرج من الإسلام، وقد حكم الشارع على فاعله بالشرك أو حقيقة الحال أنه ندد وأشرك.
الشرك الخفي هو يسير الرياء، ونحو ذلك في هذ التقسيم، من أهل العلم من يقول بالأول، ومنهم من يقول بالثاني، وهما متقابلان، وهما متساويان أحدهما يوافق الآخر ليس بينهما اختلاف، فإذا سمعت من يقول: إن الشرك أكبر وأصغر، هذا صحيح، وإذا سمعت -وهو قول أئمة الدعوة- أن الشرك أكبر وأصغر وخفي، فهذا أيضا صحيح.
إذا تبين ذلك فالشرك يعبر عنه بالتنديد، ولهذا قال جل وعلا: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2 سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 التنديد منه تنديد أعظم ومنه تنديد ليس فيه صرف العبادة لغير الله، فإذا كان التنديد في جعل العبادة لغير الله صار التنديد أكبر صار شركا أكبر، وإذا كان التنديد فيه جعل غير الله -جل وعلا- ندا لله في عمل، ولا يبلغ ذلك الشرك الأكبر، فإنه يكون تنديدا أصغر، وهو الشرك الأصغر، هذه مقدمات وتعاريف مهمة بين يدي شرح هذا الكتاب العظيم.
قال إمام هذه الدعوة -رحمه الله-: "كتاب التوحيد، وقول الله -تعالى-" قول هذه كما في صحيح البخاري تنطقها إما على العطف كتاب التوحيد وقول الله يعني وكتاب قول الله، أو على الاستئناف، وقول الله -تعالى- قال: وقول الله -تعالى-: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 هذه الآية فيها بيان التوحيد، وجه ذلك أن السلف فسروا إلا ليعبدون يعني إلا ليوحدون.
دليل هذا الفهم أن الرسل إنما بعثت لأجل التوحيد، توحيد العبادة فقوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 إِلَّا لِيَعْبُدُونِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 يعني إلا ليوحدون، قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 هذا فيه حصر، ومعلوم أن "ما" النافية مع "إلا" تفيد الحصر والقصر، معنى الكلام خلقت الجن والإنس لغاية واحدة هي العبادة دون ما سواها، ففيه قصر علة الخلق على العبادة، وقوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 إِلَّا لِيَعْبُدُونِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 إلا هذه تسمى أداة استثناء مفرغ، مفرغ من أعم الأحوال، كما يقول النحاة يعني: وما خلقت الجن والإنس لشيء أو لغاية من الغايات أبدا إلا لغاية واحدة وهي أن يعبدوني.
وقوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 لِيَعْبُدُونِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 اللام هذه تسمى لام التعليل، ولام التعليل هذه قد يكون المعنى تعليل غاية، أو تعليل علة. تعليل الغاية يكون ما بعدها مطلوبا لكن قد يكون، وقد لا يكون، يعني: هذه الغاية ويسميها بعض العلماء لام الحكمة، وفرق بين العلة والحكمة يعني: ما الحكمة من خلق الجن والإنس؟ أن يعبدوا الله وحده دون ما سواه هذا التعليل بقوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 إِلَّا لِيَعْبُدُونِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 قلنا: تعليل عناية مثلا قلت لك لما أحضرت الكتاب؟ قلت: أحضرته لأقرأ، فيكون علة الإحضار أو الحكمة من الإحضار القراءة، قد تقرأ، وقد لا تقرأ بخلاف اللام التي يكون معناها العلة التي يترتب عليها معلولها، والتي يقول العلماء في نحوها: الحكم دائر مع علته وجودا وعدما.
هذه علة القياس التي لا يتخلف فيها المعلول عن العلة، فهنا اللام هذه لام علة الغاية؛ لأن من الخلق من أوجد وخلقه الله -جل وعلا- لكن عبد غيره، ولام الحكمة شرعية ما بعدها يكون مطلوبا شرعا، قال جل وعلا هنا: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 نفهم من هذا أن هذه الآية دالة على التوحيد من جهة أن الغاية من الخلق هو التوحيد، والعبادة هنا هي التوحيد، حقيقة العبادة الخضوع والذل، فإذا انضافت إليها المحبة والانقياد صارت عبادة شرعية.
قال طرفة في وصف ناقة:




تباري عتاق الناجيات وأتبعت


وظيفـا وظيفـا فوق مور معبد

المور الطريق، والمعبد هو الذي ذلل من كثرة وطء الأقدام عليه.
وقال أيضا في معلقته:




إلى أن تحامتني العشيرة كلها


وأفـردت إفراد البعير المعبد

يعني الذي صار ذليلا؛ لأنه أصيب بالمرض فجعل بعيدا عن باقي الأبعرة فصار ذليلا؛ لعدم المخالطة.
في الشرع العبادة هي امتثال الأمر والنهي على جهة المحبة والرجاء والخوف، قال بعض العلماء: إن العبادة هي ما أمر به من غير اقتضاء عقلي ولا اضطراب عرفي، وهذا تعريف الأصوليين.
وقال شيخ الإسلام في بيان معناها في أول "رسالة العبودية": العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. إذن فيكون دلالة هذه الآية أن كل فرد من أفراد العبادة يجب أن يكون لله وحده دون ما سواه؛ لأن الذي خلقهم خلقهم؛ لأجل أن يعبدوه فكونهم يعبدون غيره، وهو الذي خلقهم هذا من الاعتداء والظلم؛ لأنه ليس من يخلق كمن لا يخلق قال جل وعلا: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 .
قال الشيخ -رحمه الله-: وقوله كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 هذه الآية تفسير للآية قبلها، الآية قبلها فيها بيان الغرض من الخلق، وأنه لأجل العبادة، هذه العبادة أرسلت بها الرسل بدليل قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 بعثت الرسل بهاتين الكلمتين كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 ففي قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 اُعْبُدُوا اللَّهَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 إثبات، وفي قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 نفي.
وهذا معنى التوحيد وهو أنه مشتمل على إثبات ونفي: لا إله إلا الله كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 لأن النفي فيه اجتناب الطاغوت وهو كل إله عبد بالبغي والظلم والعدوان، والإثبات إثبات العبادة لله وحده دون ما سواه ففي قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 اُعْبُدُوا اللَّهَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 التوحيد المثبت، وفي قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 نفي الإشراك.
والطاغوت هو فعلوت من الطغيان، وهو كل ما جاوز به العبد حدَّه من متبوع أو معبود أو مطاع. قال: وقوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 قضى -كما فسرها عدد من الصحابة- هنا بمعنى أمر ووصى، وأمر ووصى فيها معنى القول دون حروف القول.
فتكون أن لا تعبدوا أن هنا تفسيرية يعني أمر ووصى بماذا بلا تعبدوا إلا إياه كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 هذا معنى لا إله إلا الله بالمطابقة؛ لأن "لا" نفي في الجملتين، وهنا تعبدوا وفي كلمة التوحيد "إله" والإله هو المعبود كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 يعني احصروا العبادة فيه وحده دون ما سواه أمر بهذا، ووصى بهذا، وهذا معنى التوحيد، فإن دلالة الآية على التوحيد ظاهرة في أن التوحيد إفراد العبادة لله، أو تحقيق كلمة لا إله إلا الله، وهذا الذي دلت عليه هذه الآية.
قال: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 يعني: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، قال: وقوله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 هذا أيضا فيه إثبات ونفي، فيها أمر ونهي، أما الأمر ففي قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 واعْبُدُوا اللَّهَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 والنهي في قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 .
وقد مر معك دلالة قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 اعْبُدُوا اللَّهَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 مع النفي على توحيد الله قوله هنا: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 لاحظ أن لا هنا نافية، ومن المتقرر في علم الأصول أن النفي إذا تسلط على نكرة فإنه يفيد العموم، ولا بعدها نكرة وهو المصدر المستكن في الفعل؛ لأن الفعل المضارع مشتمل على مصدر وزمن كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 أَلَّا تُشْرِكُوا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 يعني لا إشراكا به فتشركوا متضمنة لمصدر، والمصدر نكرة.
فيكون قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 أَلَّا تُشْرِكُوا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 يعني بأي نوع من الشرك كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 و"شيئا" هنا أيضا نكرة في سياق النهي كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 فدلت على عموم الأشياء، فصار إذن عندنا في قوله -تعالى -: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 ثَمَّ عمومان:
الأول: دلت الآية على النهي عن جميع أنواع الشرك وذلك؛ لأن النهي تسلط على الفعل، والفعل فيه مصدر مستكن، والمصدر نكرة.
والثانية: أن مفعول تشرك شيئا، وشيئا نكرة، والنكرة جاءت في سياق النهي وذلك يدل على عموم الأشياء يعني لا الشرك الأصغر مأذون به، ولا الأكبر ولا الخفي بدلالة قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 .
وكذلك ليس مأذونا أن يشرك لا بملك ولا بنبي ولا بصالح ولا بعالم ولا بطالح ولا بقريب ولا ببعيد بدلالة قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 وهذا استدلال ظاهر الوضوح في الدلالة على التوحيد بالجمع بين النفي والإثبات، قال: وقوله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 قُلْ تَعَالَوْا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 يعني يا مَن حرَّم بعض الأنعام، وافترى على الله في ذلك كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 .
قال العلماء: "أن" هنا تفسيرية متعلقة بمحذوف تقديره وصاكم؛ لأن "أن" التفسيرية تتعلق كما ذكرت لك بكلمة فيها معنى القول دون حروف القول وحددوها بقوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَصَّاكُم كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 ؛ لأنه في آخر الآي جاء كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 في الآية الأولى، ثم كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 في الآية الثانية، ثم كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 في الآية الثالثة كلها فيها الوصية.
فإذن يكون تقدير الكلام: "قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم وصاكم ألا تشركوا به شيئا" يعني: أمركم، والوصية هنا شرعية، وإذا كانت الوصية من الله شرعية، فهي أمر واجب، فقوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 دلالتها على التوحيد كدلالة آية النساء قبلها.
ثم ساق الشيخ -رحمه الله- ـ أثر ابن مسعود قال: قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه، فليقرأ قوله تعالى: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 إلى قوله: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B2 وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ B1 .
يعني: التي كانت من آخر ما وصَّى به، من آخر ما أمر به يعني: التي لو قُدِّرَ أنه وصى وختم على هذه الوصية، وفتحت بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- وانتقاله إلى الرفيق الأعلى لكانت هذه الآيات التي فيها الوصايا العشر.
هذا من ابن مسعود للدلالة على عظم شأن هذه الآيات التي افتتحت بالنهي عن الشرك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ دعوته بالأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الشرك، واختتمها أيضا -كما دل عليه كلام ابن مسعود هذا- بالأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك، فدل على أن ذلك أولى المطالب وأول المطالب وأهم المطالب.
قال -بعد ذلك-: وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2 كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 .
هذا موطن الشاهد كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2حق العباد على الله كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 وهذا قد مر بيان معناه، لكن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبته للابتداء ابتداء كتاب التوحيد أنه أتى فيه بلفظ حق كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2أتدري ما حق الله على العباد، ثم قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 هذا الحق حق واجب لله -جل وعلا- لأن الكتاب والسنة؛ بل ولأن المرسلين جميعا أتوا بهذا الحق وببيانه، وأنه أوجب الواجبات على العباد.
ثم قال: كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2 وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 حق العباد على الله، هذا حق أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في بعض أقوالهم، كما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-.
حق العباد على الله، هل هذا الحق واجب أم لا؟ نقول: نعم هو حق واجب، لكن بإيجاب الله ذلك الحق على نفسه، والله -جل وعلا- يحرم على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته، ويوجب على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H2 إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ H1 .
حرم الله الظلم على نفسه، كذلك أوجب على نفسه أشياء، بعض أهل العلم تحاشى لفظ الإيجاب على الله، وقال: يعبر بأنه حق، يتفضل به، حق تفضل لا حق إيجاب، وهذا ليس بمتعين؛ لأن الحق الواجب أوجبه الله على نفسه، والعباد لا يوجبون على الله -جل وعلا- شيئا من الحقوق، وهو -جل وعلا- أوجبه على نفسه؛ لأنه تفضل على عباده بذلك، والله -جل جلاله- لا يخلف الميعاد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 6:28 am


باب فضل التوحيد، وما يكفر من
الذنوب
باب: فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب، وقول الله -تعالى-: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل أخرجاه.

ولهما في حديث عتبان: فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : قال موسى: يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به قال: قل يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم، وصححه.

وللترمذي وحسنه عن أنس سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله -تعالى-: يا ابن آدم لو آتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة .


--------------------------------------------------------------------------------


هذا الباب باب فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب، التوحيد بأنواعه له فضل عظيم على أهله، ومن أعظم فضله أنه به تكفر الذنوب ولهذا قال الشيخ -رحمه الله- في التبويب:

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ما يكفر، "ما" هنا موصولة موصول حرفي يعني: تقدر مع ما بعدها بمصدر يكون المعنى: باب فضل التوحيد وتكفيره الذنوب، فالتوحيد يكفر الذنوب جميعا لا يكفر بعض الذنوب دون بعض. فإن التوحيد حسنة عظيمة لا تقابلها معصية إلا وأحرق نور تلك الحسنة أثر تلك المعصية إذا كمل ذلك النور.

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب يعني وتكفيره الذنوب، فالتوحيد يعني: مَن كمَّله كمَّل توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات، فإنه تكفر ذنوبه، كما سيأتي في الباب بعده، أنه من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، وكلما زاد التوحيد كلما محا من الذنوب بمقدار عظمه، وكلما زاد التوحيد كلما أمن العبد في الدنيا، وفي الآخرة بمقدار عظمه.

وكلما زاد العبد في تحقيق التوحيد كلما كان متعرضا بدخول الجنة على ما كان عليه من العمل، بهذا ساق الإمام -رحمه الله- آية الأنعام فقال: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وقول الله تعالى…، من أهل العلم من قال: إن قوله: وما يكفر من الذنوب، "ما" هنا موصول اسمي يعني: والذي يكفره من الذنوب، وهذا أيضا سائغ ظاهر الصحة.

وقول الله -تعالى-: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ الظلم هنا هو الشرك كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية حينما استعظم الصحابة هذه الآية وقالوا: يا رسول الله! أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس الذي تذهبون إليه الظلم الشرك ألم تسمعوا لقول العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ .

فالظلم هنا في مراد الشيخ هو الشرك فيكون معنى الآية بما يناسب هذا الباب "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" ففضل الذي آمن يعني وحَّد، ولم يلبس إيمانه بشرك لم يلبس توحيده بشرك أن له الأمن التام، والاهتداء التام.

وجه الدلالة: أن قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أن قوله: بِظُلْمٍ هنا نكرة في سياق وَلَمْ يَلْبِسُوا وهذا يدل على عموم أنواع الظلم، هل العموم هنا العموم المخصوص أو العموم الذي يراد به الخصوص؟ هنا يراد العموم الذي يراد به الخصوص؛ لأننا قلنا فيما سبق لك آنفا: إن النكرة في سياق النفي أو النهي تدل على العموم.

العموم عند الأصوليين تارة يكون باقيا على عمومه هذه حالة، وتارة يكون عموما مخصوصا، يعني دخله التخصيص، وتارة يكون عموما مرادا به الخصوص، يعني: لفظه عام ولكن يراد به الخصوص، وهذا الثالث هو الذي أراد به الشيخ -رحمه الله- وجه الاستدلال من النهاية.

فيكون الظلم هنا صحيح نكرة في سياق لم تدل على العموم؛ لأنه عموم مراد به الخصوص، وهو خصوص أحد أنواع الظلم، وهو الشرك فيصير العموم في أنواع الشرك، لا في أنواع الظلم كلها؛ لأن من أنواع الظلم ما هو من جهة ظلم العبد نفسه بالمعاصي، ومن جهة ظلم العبد غيره، بأنواع التعديات، ومنه ما هو ظلم من جهة حق الله -جل وعلا- بالشرك.

فهذا هو المراد بهذا العموم، فيكون عموما في أنواع الشرك، وبهذا يحصل وجه الاستدلال من الآية فيكون المعنى: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم يعني توحيدهم بنوع من أنواع الشرك، أولئك لهم الأمن، وهم مهتدون".

والأمن هنا هو الأمن التام في الدنيا، المراد به أمن القلب وعدم الحزن على غير الله -جل وعلا- والاهتداء التام في الدنيا وفي الآخرة.

وكلما صار ثَمَّ نقص في التوحيد بغشيان العبد بعض أنواع الظلم الذي هو الشرك، الشرك الأصغر، أو الشرك الخفي، وسائر الشرك ونحو ذلك، فيذهب منه من الأمن والاهتداء بقدر ذلك، هذا من جهة تفسير الظلم بأنه الشرك.

فإذا فسرت الظلم بأنه جميع أنواع الظلم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه يكون هناك مقابلة بين الأمن والاهتداء، وبين حصول الظلم فكلما انتفى الظلم وجد الأمن والاهتداء، كلما كمل التوحيد، وانتفت المعصية عظم الأمن والاهتداء، وإذا زاد الظلم قلَّ الأمن والاهتداء بحسب ذلك.

قال: وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل .

مناسبة هذا الحديث للباب قوله: على ما كان من العمل وقوله: "على ما كان" يعني على الذي كان عليه من العمل، ولو كان مقصرا في العمل، وعنده ذنوب وعصيان، فإن فضل توحيده لله وشهادته لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، ونفي إشراك المشركين بعيسى، وإقراره بالغيب وبالبعث، فإن ذلك له فضل عليه، وهو أن يدخله الله الجنة، ولو كان مقصرا في العمل، وهذا من فضل التوحيد على أهله.

قال: ولهما في حديث عتبان فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله .

قوله: من قال لا إله إلا الله المراد بالقول هنا الذي معه تمام الشروط، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: الحج عرفة يعني: إذا أتى ببقية الأركان والواجبات.

قوله هنا: من قال لا إله إلا الله يعني باجتماع شروطها، وبالإتيان بلازمها يبتغي بذلك وجه الله؛ ليخرج حال المنافقين؛ لأنهم حين قالوها لا يبتغون بذلك وجه الله، فإن الله حرَّم عليه النار، وقوله: حرم على النار .

التحريم في نصوص الكتاب والسنة يأتي على درجتين، تحريم النار في نصوص الكتاب والسنة على درجتين: الأولى تحريم مؤبد، والثانية تحريم بعد أمد.

التحريم المؤبد يقتضي أن من حرم الله عليه النار فإنه إذا كان التحريم تحريما مؤبدا، فإنه لن يدخلها، يغفر الله له، أو يكون من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.

وإذا كان التحريم بعد أمد، يعني: ربما يدخلها، ثم يحرم عليه البقاء فيها، وهذا الحديث يحتمل الأول، ويحتمل الثاني، فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، والذي أتى بالتوحيد وانتهى عند ضده وكانت عنده بعض الذنوب والمعاصي، ومات من غير توبة فهو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه، ثم حرم عليه النار، وإن شاء الله غفر له، وحرم عليه النار ابتداء.

فإذا وجه الشاهد من الآية وجه الشاهد من الحديث للباب أن هذه الكلمة، وهي كلمة التوحيد، وسيأتي بيان معناها مفصلا، إن شاء الله تعالى، هذه الكلمة لما ابتغى بها صاحبها وجه الله، وأتى بشروطها وبلوازمها تفضل الله عليه، وأعطاه ما يستحقه من أنه حرم عليه النار، وهذا فضل عظيم، نسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا من أهله.

حديث أبي سعيد الخدري بعد ذلك فيه: قال موسى: يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به قال: قل يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا … .

في هذا الحديث دلالة على أن أهل الفضل والرفعة في الدين والإخلاص والتوحيد قد يُنَبَّهُون على شيء من مسائل التوحيد، فهذا موسى -عليه السلام- وهو أحد أولي العزم من الرسل، وهو كليم الله -جل وعلا- أراد شيئا يختص به غير ما عند الناس، وأعظم ما يختص به أولياء الله وأنبياؤه ورسله وأولو العزم منهم هو كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فأراد شيئا أخص فعلم أنه لا أخص من كلمة التوحيد، فهي أفضل شيء، وهي التي دل عليها أولي العزم من الرسل، ومن دونهم من الناس.

قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري- يعني ومن في السماوات السبع من الملائكة ومن عباد الله غير الله -جل وعلا- - والأرضين السبع في كفة- يعني لو تمثلت السماوات أجساما والأرض جسما - والجميع سيوضع في ميزان له كفتان وجاءت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كما قال هنا- ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله .

لا إله إلا الله كلمة توحيد فيها ثقل لميزان من قالها، وعظم في الفضل لمن اعتقدها، وما دلت عليه؛ فلهذا قال: مالت بهن لا إله إلا الله وجه الدلالة أنه لو تصور أن ذنوب العبد بلغت ثقل السماوات السبع وثقل ما فيها من العباد والملائكة وثقل الأرض، لكانت لا إله إلا الله مائلة بذلك الثقل من الذنوب، وهذا هو الذي دل عليه حديث البطاقة حيث جعل على أحد العصاة سجلات عظيمة فقيل له: هل لك من عمل؟ فقال: لا؟ فقيل له: بلى ثم أخرجت له بطاقة فيها لا إله إلا الله فوضعت في الكفة الأخرى فطاشت سجلات الذنوب وثقلت البطاقة .

وهذا الفضل العظيم لكلمة التوحيد إنما هو لمن قويت في قلبه، ذلك أنها في قلب بعض العباد تكون قوية؛ لأنه مخلص فيها مُصَدِّق لا ريب عنده فيما دلت عليه، معتقد ما فيها محب لما دلت عليه فيقوى أثرها في القلب ونورها، وما كان كذلك فإنها تحرق ما يقابلها من الذنوب.

وأما من لم يكن من أهل تمام الإخلاص فيها، فإنه لا تطيش له سجلات الذنوب، فإذن يكون هذا الحديث وحديث البطاقة يدل على أن لا إله إلا الله لا يقابلها ذنب، ولا تقابلها خطيئة، لكن هذا في حق من كملها وحققها بحيث لم يخالطها في قلبه في معناها ريب، ولا تردد.

ومعناها مشتمل على الربوبية بالتضمن وعلى الأسماء والصفات باللزوم، وعلى الإلهية بالمطابقة، فإذن يكون من يكمل له الانتفاع بهذه الكلمة، ولا يقابلها ذنوب وسجلات، ولو كانت في ثقل السموات وما فيها والأرض يكون ذلك في حق من كمل ما دلت عليه من التوحيد، وهذا معنى هذا الحديث، وحديث البطاقة.

وهذا أيضا هو الذي دل عليه الحديث الآخر في الباب عن أنس قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله -تعالى-: يا ابن آدم لو آتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لآتيتك بقرابها مغفرة .

وهذا من فضل التوحيد وتكفيره الذنوب، ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة، وهي أنه ممن أتى بذنوب عظيمة، ولو كانت كقراب الأرض خطايا يعني كعظم وقدر الأرض خطايا، ولكنه لقي الله لا يشرك به شيئا لأتى الله لذلك العبد بمقدار تلك الخطايا مغفرة.

وهذا لأجل فضل التوحيد، وعظم فضل الله -جل وعلا- على عباده بأن هداهم إليه ثم أثابهم عليه، هذا بعض ما تيسر، وأسأل الله -جل وعلا- لي ولكم التوفيق والرشد والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 6:34 am

باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، وقول الله تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وعن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير -رضي الله عنه- فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت. قال فما صنعت؟ قلت: استرقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حُمَة قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي، ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد؛ إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فنهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك.

فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال: سبقك بها عكاشة .


--------------------------------------------------------------------------------


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد:

فإن الاهتمام بالعلم، والرغب فيه، والحرص عليه، والإقبال عليه دليل صحة القلوب؛ لأن القلب إذا صحا لنفسه وعرف ما ينفعه فإنه سيحرص على العلم؛ ذلك لأن الله -جل جلاله- مدح أهل العلم ورفعهم على غيرهم درجات قال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وقال -جل وعلا-: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ .

فعدم استواء من يعلم مع من لا يعلم، هذا إنما يذكره ويعيه أهل الألباب: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ وأما الجاهل فهو لا يعرف أنه جاهل، ويقنع بالجهالة، ثم هو لا يعلم معنى العلم وأهمية العلم، وأن العلم هو الشرف الأعظم في هذه الحياة.

ولهذا قال العلماء: من دلائل أهمية العلم أن الله -جل جلاله- ما أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو بالازدياد من شيء إلا من العلم فقال سبحانه لنبيه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا وما أمره بالازدياد أو بدعاء الازدياد من غير العلم وكفى بذلك شرفا.

العلم يشترك كثيرون في الاهتمام به، لكن لا يستوون في أخذه، ولا في طريقة أخذه، وهم طبقات فمنهم المتعجل الذي يظن أن العلم يحصل في أسابيع أو في أشهر، أو في سنين معدودة، وهذا بعيد عن الصواب؛ لأن العلم لا ينتهي حتى يموت المرء، وبقي من العلم أشياء كثيرة لم يعلمها، فإن العلم واسع الأطراف واسع الجنبات.

والله -جل وعلا- هو ذو العلم الكامل، وأعطى البشر بمجموعهم أعطاهم بعض علمه، فهذا يفوت عليه شيء من العلم، وذاك يفوت عليه شيء من العلم، ولكن بمجموعهم لو جمع علم من فيها لكان شيئا قليلا جدا من علم الله كما تضع الإبرة في البحر ثم تخرجها لم تنقص من ماء البحر شيئا.

وإذا كان كذلك فإن رَوْم العلم لا يمكن أن يكون بإطلاق بل ينبغي لطالب العلم أن يكون متدرجا فيه، والتدرج سنة لا بد منها، هي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي سنة الصحابة، وهي سنة أهل العلم بعدهم.

فالنبي -عليه الصلاة والسلام- ما علم الصحابة العلم جملة واحدة وإنما علمهم في سنين عددا. في مكة علمهم أصل الأصول الذي به سلامة القلب وصحته وسلامة العقل وصحته ألا وهو توحيد الله -جل جلاله- والبراءة من كل ما سوى الرب -جل وعلا-.

ثم بعد ذلك أتى العلم شيئا فشيئا لصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكل أخذ من العلم بقدر ما يسر له وقدر له، هكذا أهل العلم من بعد الصحابة لا تجد أن أولئك خاضوا العلم خوضا واحدا، فمنهم من برز في علم العربية، ومنهم من برز في علم الأصول، ومنهم من برز في التفسير، ومنهم من برز في الحديث، ومنهم من برز في علوم الآلة الأخرى كالمصطلح ونحوه، ومنهم من برز في الفقه، وهكذا في علوم شتى.

وإذا كان كذلك كانت وصية ابن شهاب الزهري التي لا بد أن نحفظها كانت وصيته نِعْم الوصية حيث قال: "من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، إنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي".

فالمتعجلون لا يُحَصِّلون العلم فلا بد إذن من التدرج، ثُمَّ ثَمَّ صنف آخر أيضا من الشباب أو من طلاب العلم وهم المتذوقون، المتذوقون أهل التذوق في أخذ العلم يأتي ويطلب علما ما مدة قليلة، ثم يأتي ويحكم على هذا العلم أو يحكم على مَن يعلم ذاك العلم، وأيضا ينتقل إلى آخر، ثم يحكم على ذلك العلم الآخر، وعلى من يعلم ذلك العلم الآخر.

وهذا دليل نقص في العلم ونقص في الإدراك والعقل؛ لأن العلوم لا يحكم عليها إلا من حواها من جميع جنباتها، وأحاط من ورائها، وهذا لا يتأتى لأكثر الشباب الذين يتذوقون تجد أنه في مدة من الزمن، أشهر أو سنة حضر عند فلان من أهل العلم، أو من المعلمين من طلبة العلم، فحكم على نفسه، أو على ذلك المعلم بأنه كذا وكذا، ثم انتقل إلى غيره.

ثم في الآخر تجد أن هذا النوع ييأس، ولا يُحَصِّل علما كثيرا ذلك؛ لأنه تعجل وكان متذوقا في العلم والتذوق بمعنى كثرة التنقل، والأخذ من هذا بشيء، والأخذ من ذاك بشيء، هذا لا يكون المرء به عالما، ولا طالب علم، وإنما كما قال الأولون: يكون أديبا؛ لأنهم عرفوا الأدب بأنه الأخذ من كل علم بطرف، وهذا مما لا ينبغي أن يسلك.

يعني: أن يكون طالب العلم الذي أراد صحة العلم وصحة السلوك فيه، لا يصلح أن يكون متذوقا، إذن فرجع السبيل إلى أن يكون مؤصلا نفسه متدرجا في العلم، والتأصيل أمره عزيز جدا، تأصيل العلم وتأصيل طالب العلم، وأن يحفظ كما حفظ الأولون.

انظر إن كنت معتبرا، انظر كتب التراجم، حيث ترجم أولئك المصنفون لأهل العلم تجد أنه في ترجمة إمام من الأئمة، وحافظ من الحفاظ تجد أنهم يذكرون في أوائل ترجمته، أنه قرأ الكتاب الفلاني من الكتب القصيرة من المتون المختصرة، وقرأ الكتاب الفلاني، وحفظ كذا، وحفظ كذا، لماذا يذكرون هذا ويجعلونه منقبة لأولئك؟

لأن حفظ تلك المتون وقراءة تلك المختصرات هي طريقة العلم في الواقع، وهذه سنة العلماء، ومن تركها فقد ترك سنة العلماء في العلم والتعليم منذ تشعب العلم بعد القرن الرابع الهجري؛ لهذا ينبغي لك أن تكون حريصا على التأني في طلب العلم، وأن تُحْكِم ما تسمع وما تقرأ شيئا فشيئا.

ومن المهمات أيضا ألا تدخل عقلك إلا صورة صحيحة من العلم، لا تهتم بكثرة المعلومات بقدر ما تهتهم بألا يدخل العقل إلا صورة صحيحة للعلم، إذا أردت أن تتناولها تناولتها بالاحتجاج أو بالذكر أو بالاستفادة تناولتها تناولا صحيحا.

أما إذا كنت تدخل في عقلك مسائل كثيرة، وإذا أتى النقاش لاحظت من نفسك أن هذه المسألة فهمتها على غير وجهها، والثانية فهمتها على غير وجهها لها قيد لم تهتم به، لها ضوابط ما اعتنيت بها فتكون الصور في الذهن كثيرة، وتكون المسائل كثيرة، لكن غير منضبطة وليس ذلك بالعلم.

إنما العلم أن تكون الصورة في الذهن للمسألة العلمية منضبطة من جهة الصورة، صورة المسألة، ومن جهة الحكم، ومن جهة الدليل، ومن جهة وجه الاستدلال فهذه الأربع تهتم بها جدا.

أعيدها: الأولى: صورة المسألة.

الثانية: حكم المسألة في أي علم في الفقه، أو في الحديث، أو في المصطلح، أو الأصول، أو النحو، أو التفسير إلى آخره، حكم المسألة.

الثالث: دليلها، ما دليل هذا الذي قال كذا وكذا.

الرابع: ما وجه الاستدلال؟ استدل بدليل كيف أعمل عقله في هذا الدليل فاستنبط منه الحكم؟ فإذا عودت ذهنك على هذه الأربع سرت مسيرا جيدا في فهم العلم.

والذي يحيط بذلك الاهتمام باللغة العربية والاهتمام بألفاظ أهل العلم؛ لأن من لم يهتم بألفاظ أهل العلم، وبلغة العلم لم يدرك مراداتهم من كلامهم هذه كلمة لأجل أن بعض الإخوة طلب أن تكون مقدمة لهذا الدرس حتى يجتمع من يريد حضور درس التوحيد، ولو تهيأ أن نجعل كل يوم عشر دقائق في بيان وصية أو في بيان شيء مما تهتمون به لكان ذلك مناسبا، إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


هذا الباب باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، وقد ذكر في الباب قبله، فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب، وهذا الباب أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد، فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله، وأهل التوحيد هم أهل الإسلام، فلكل من التوحيد فضل، ولكل مسلم نصيب من التوحيد وله بالتالي نصيب من فضل التوحيد وتكفير الذنوب.

أما خاصة هذه الأمة فهم الذين حققوا التوحيد؛ ولهذا عطف هذا الباب على ما قبله؛ لأنه أخص، باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب تحقيقه بمعنى تحقيق الشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله.

ومعنى تحقيق الشهادتين تصفية الدين يعني ما يدين به من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فصار تحقيق التوحيد يرجع إلى ثلاثة أشياء: الأول: ترك الشرك بأنواعه الأكبر والأصغر والخفي. والثاني: ترك البدع بأنواعها. والثالث: ترك المعاصي بأنواعها، وتحقيق التوحيد صار تصفيته من أنواع الشرك، وأنواع البدع، وأنواع المعاصي.

وتحقيق التوحيد يكون على هذا على درجتين: درجة واجبة ودرجة مستحبة، وعليها يكون الذين حققوا التوحيد على درجتين أيضا، فالدرجة الواجبة أن يترك ما يجب تركه من الثلاث التي ذكرت يترك الشرك خفيه وجليه صغيره وكبيره، ويترك البدع، ويترك المعاصي هذه درجة واجبة.

والدرجة المستحبة من تحقيق التوحيد، وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم تفاضل، ألا وهي ألا يكون في القلب شيء من التوجه أو القصد لغير الله -جل وعلا- يعني: أن يكون القلب متوجها إلى الله بكليته ليس فيه التفات إلى غير الله، نطقه لله وفعله وعمله لله، بل وحركة قلبه لله -جل جلاله-.

وقد عبر عنها بعض أهل العلم أعني: هذه الدرجة المستحبة أن يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، يعني في مجال أعمال القلوب وأعمال اللسان وأعمال الجوارح.

فإذا انوجد تحقيق التوحيد الذي هذا فضله، وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب ولا عذاب رجع إلى تينك المرتبتين، وتحقيقه تحقيق الشهادتين لا إله إلا الله محمد رسول الله.

هذا الباب، باب: "من حقَّق التوحيد دخل الجنة بغير حساب" وقد ذكر في الباب قبله فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب، وهذا الباب أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد، فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله، وأهل التوحيد هم أهل الإسلام، فلكل من التوحيد فضل، ولكل مسلم نصيب من التوحيد، وله بالتالي نصيب من فضل التوحيد وتكفير الذنوب.

أما خاصة هذه الأمة فهم الذين حققوا التوحيد؛ ولهذا عطف هذا الباب على ما قبله؛ لأنه أخف.

باب: "من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب" وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب، تحقيقه بمعنى تحقيق الشهادتين "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" ومعنى تحقيق الشهادتين: تصفية الدين يعني: ما يدين به من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فصار تحقيق التوحيد يرجع إلى ثلاثة أشياء:

الأول: ترك الشرك بأنواعه: الأكبر، والأصغر، والخفي.

والثاني: ترك البدع بأنواعها.

والثالث: ترك المعاصي بأنواعها.

وتحقيق التوحيد صار تصفيته من أنواع الشرك، وأنواع البدع، وأنواع المعاصي، وتحقيق التوحيد يكون على هذا على درجتين، درجة واجبة، ودرجة مستحبة، وعليها يكون الذين حققوا التوحيد على درجتين -أيضا-، فالدرجة الواجبة: أن يترك ما يجب تركه من الثلاث التي ذكرت، يترك الشرك خفيه وجليه، صغيره وكبيره، ويترك البدع، ويترك المعاصي، هذه درجة واجبة.

والدرجة المستحبة من تحقيق التوحيد وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم تفاضل، ألا وهي ألا يكون في القلب شيء من التوجه أو القصد لغير الله -جل وعلا-، يعني: أن يكون القلب متوجها إلى الله بكليته، ليس فيه التفات إلى غير الله، نطقه لله، وفعله وعمله لله، بل وحركة قلبه لله -جل جلاله-، وقد عبر عنها بعض أهل العلم -أعني هذه الدرجة المستحبة- أن يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، يعني: في مجال أعمال القلوب، وأعمال اللسان، وأعمال الجوارح.

فإذا رجع تحقيق التوحيد الذي هذا فضله، وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب ولا عذاب، رجع إلى تينك المرتبتين، وتحقيقه تحقيق الشهادتين "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" لأن في قوله: "لا إله إلا الله" الإتيان بالتوحيد، والبعد عن الشرك بأنواعه؛ ولأن في قوله: "أشهد أن محمدا رسول الله" البعد عن المعصية، والبعد عن البدع؛ لأن مقتضى الشهادة بأن محمدا رسول الله: أن يطاع فيما أمر، وأن يصدق فيما أخبر، وأن يجتنب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، فمن أتى شيئا من المعاصي والذنوب، ثم لم يتب منها، أو لم تكفر له، فإنه لم يحقق التوحيد الواجب، وإذا أتى شيئا من البدع، فإنه لم يحقق التوحيد الواجب، وإذا لم يأتِ شيئا من البدع، ولكن حسَّنها بقلبه، أو قال: لا شيء فيها، فإن حركة القلب كانت في غير تحقيق التوحيد، في غير تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، فلا يكون من أهل تحقيق التوحيد، كذلك أهل الشرك بأنواعه ليسوا من أهل تحقيق التوحيد.

وأما مرتبة الخاصة التي ذكرت، ففيها يتنافس المتنافسون، وما ثم إلا عفو الله ومغفرته ورضوانه.

باب "من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب" استدلَّ الشيخ في هذا الباب بآيتين وبحديث، أما الآية الأولى قال -رحمه الله-: وقول الله -تعالى-: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هذه الآية فيها الدلالة على أن إبراهيم -عليه السلام- كان محققا للتوحيد.

وجه الدلالة: أن الله -جل وعلا- وصفه بصفات، الأولى: أنه كان أمة، والأمة هو الإمام الذي جَمَع جميع صفات الكمال البشري، وصفات الخير، وهذا يعني: أنه لم ينقص من صفات الخير شيئا، وهذا هو معنى تحقيق التوحيد.

والأمة تطلق في القرآن إطلاقات، ومن تلك الإطلاقات: أن يكون معنى الأمة الإمام المقتدى به في الخير، وسمي أمة؛ لأنه يقوم مقام أمة في الاقتداء؛ ولأنه يكون من سار على سيره غير مستوحش ولا متردد؛ لأنه ليس مع واحد فقط، وإنما هو مع أمة.

الوصف الثاني الذي فيه تحقيق التوحيد إنه قال: قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وهاتان الصفتان، " قانتا لله": صفة، "حنيفا": صفة، ولكن هذه وهذه متلازمتان؛ لأن القنوت لله معناه دوام الطاعة، وملازمة الطاعة لله -جل وعلا- فهو ملازم الطاعة لله -جل وعلا-، "حنيفا" هذا فيه النفي، ففي قوله: "قانتا لله" الإثبات، في لزوم الطاعة، ولزوم إفراد التوحيد، وفي قوله: "حنيفا" النفي، قال العلماء: الحنيف هو ذو الحنف، وهو الميل عن طريق المشركين، مائلا عن طريق المشركين، مائلا عن هدي وسبيل المشركين، فصار إذن عنده ديمومة، وقنوت، وملازمة للطاعة، وبعد عن سبيل المشركين.

ومعلوم أن سبيل المشركين الذي صار إبراهيم -عليه السلام- حنيفا عن ذلك السبيل، يعني: مائلا عن ذلك السبيل بعيدا عنه معلوم أنه يشتمل على الشرك والبدعة والمعصية، فهما أخلاق، فهي ثلاث أخلاق المشركين، شرك وبدعة، ومعصية من غير إنابة ولا استغفار.

قال: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "لم يك": يك هذه هي يكن، وفي النفي يجوز حذف النون، نون يكن في مثل هذا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وفي آية أخرى وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهما جائزان في اللغة، إذا جاءت يكن في سياق النفي -كما هي معلوم-.

وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المشركين: جمع تصحيح للمشرك، والمشرك: اسم فاعل الشرك، و"ال" -كما هو معلوم في العربية- إذا جاءت قبل اسم الفاعل، أو اسم المفعول، فإنها تكون موصولة، كما قال ابن مالك في الألفية:

وصفــة صريحـة صلـة "ال"

وكونها بمعرب الأفعال قل



والاسم الموصول عند الأصوليين يدل على العموم، فكان إذن المعنى وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني: ولم يك فاعلا للشرك بأنواعه، لم يك منهم، ولم يك من الذين يفعلون الشرك بأنواعه، و-أيضا- دل قوله: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ على أنه ابتعد عنه؛ لأن "من" تحتمل أن تكون تبعيضية؛ فتكون المباعدة بالأجسام، ويحتمل أن تكون بيانية؛ فتكون المباعدة بمعنى الشرك.

المقصود أن الشيخ -رحمه الله- استحضر هذه المعاني من الآية، فدلته الآية على أنها في تحقيق التوحيد، قال -جل وعلا-: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ؛ ذلك لأن من جمع تلك الصفات، فقد حقق التوحيد، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.

في تفسير إمام الدعوة المصنف الشيخ محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله-، في تفسيره لآخر سورة النحل، فسر هذه الآية، فقال -رحمه الله-: "إن إبراهيم كان أمة لا يستوحش مسالك الطريق من قلة السالكين" "قانتا لله": لا للملوك ولا للتجار المترفين، "حنيفا": لا يميل يمينا ولا شمالا، كحال العلماء المفتونين، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خلافا لمن كثر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين، وهو من التفاسير الرائقة الفائقة البعيدة المعاني وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ .

قال بعد ذلك: وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ هذه من آيات في سورة المؤمنون، وهي في مدح خاصة المؤمنين، ووجه الاستدلال من الآية على الباب أنه قال: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ "لا يشركون" نفي للشرك، كما ذكرت لكم من قبل أن النفي إذا تسلط على الفعل المضارع، فإنه يفيد عموم المصدر الذي استكن بالفعل، يعني: كأنه قال -جل وعلا-: " والذين هم بربهم لا يفعلون شركا، أو لا يشركون، لا بشرك أكبر، ولا أصغر، ولا خفي" والذي لا يشرك هو الموحد، فصار عندنا لازم، وهو أن من لم يشرك أي أنواع من الشرك، فإنه ما ترك الشرك إلا لتوحيده.

قال العلماء: قدَّم هنا قوله: "بربهم" وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ؛ لأن الربوبية تستلزم العبودية، فصار عدم الإشراك في الربوبية معناه عدم الإشراك في الطاعة، وعدم الإشراك في العبودية، وهذا وصف الذين حققوا التوحيد؛ لأنه يلزم من عدم الإشراك ألا يشرك هواه، وإن أشرك المرء هواه أتى بالبدع، أو أتى بالمعصية، فصار نفي الشرك نفيا للشرك بأنواعه، ونفيا للبدعة، ونفيا للمعصية، وهذا هو تحقيق التوحيد لله -جل وعلا.

فإذن الآية دالة على ما ترجم به الإمام -رحمه الله- من قوله: "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب" وأولئك قال فيهم الله -جل وعلا-: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ .

أما الحديث فهو حديث طويل، وموضع الشاهد منه قوله -عليه الصلاة والسلام-: فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض، فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه، فقال هم: الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون .

هذه في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذه صفة من صفاتهم، وتلك الصفة خاصة بهم لا يلتبس أمرهم بغيرهم؛ لأن هذه الصفة كالشامة يعرفون بها، من هم الذين حققوا التوحيد؟ قال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون فذكر أربع صفات: الأولى: أنهم لا يسترقون، ومعنى يسترقون يعني: لا يطلبون الرقية، والطالب للرقية في قلبه ميل للراقي؛ حتى يرفع ما به من جهة السبب، وهذا النفي لا يسترقون لأن الناس في شأن الرقية تتعلق قلوبهم جدا أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه، فالرقية عند العرب في الجاهلية، وهكذا حال أكثر الناس لهم تعلق بها، فالقلب يتعلق بالراقي، ويتعلق بالرقية، وهذا ينافي كمال التوكل على الله -جل جلاله-.

وأما ما جاء في بعض الروايات أنهم الذين لا يرقون فهذا غلط؛ لأن الراقي محسن إلى غيره، وهي لفظة شاذة، والصواب ما جاء في هذه الرواية من أنهم الذين لا يسترقون يعني: لا يطلبون الرقية؛ وذلك لأن طالب الرقية يكون في قلبه ميل إلى هذا الذي رقاه، وإلى الرقية، ونوع توكل، أو نوع استرواح لهذا الذي يرقى، أو للرقية.

قال: ولا يكتوون والكي مكروه في أصله؛ لأن فيه تعذيبا بالنار، مع أنه مأذون به شرعا، لكن فيه كراهة، والعرب تعتقد أن الكي يحدث المقصود دائما؛ فلهذا تتعلق قلوبهم بالكي، فصار تعلق القلب بهذا الكي من جهة أنه سبب يؤثر دائما، ومعلوم أن الكي يؤثر بإذن الله -جل وعلا- إذا اجتمعت الأسباب، وانتفت الموانع، فالنفي لأجل أن في الكي بخصوصه ما يتعلق الناس به من أجله.

قال: ولا يتطيرون والطيرة: شيء يعرض على القلب من جراء شيء يحدث أمامه، إما أن يجعله يقدم على أمر، أو أن يحجم عنه، وهذه صفة من لم يكن التوكل في قلبه عظيم.

قال بعدها: وعلى ربهم يتوكلون وهي جامعة للصفات السابقة، هذه الصفات لا يعنى بذكرها أن الذين حققوا التوحيد لا يباشرون الأسباب، كما فهمه بعضهم من أن تحقيق التوحيد، أو أن الكمال ألا يباشر سببا البتة، أو ألا يتداول بتة، هذا غلط؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رقي -عليه الصلاة والسلام-؛ ولأنه -عليه الصلاة والسلام- تداوى، وأمر بالتداوي، وأمر -أيضا- بعض الصحابة بأن يكتوي ونحو ذلك.

فليس فيه أن أولئك لا يباشرون الأسباب مطلقا، أو لا يباشرون أسباب الدواء، وإنما فيه ذكر لهذه بخصوصها، هذه الثلاث بخصوصها؛ لأنها يكثر تعلق القلب، والتفاته إلى الراقي، أو إلى الكي، أو الكاوي، أو إلى التطير، ففيها إنقاص من التوكل.

أما التداوي فهو مشروع، إما واجب، أو مستحب، وفي بعض الأحوال يكون مباحا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام المقصود من هذا أن التداوي فعلا يعني: أن يفعل التداوي، وأن يطلب الدواء ليس خارما لتحقيق التوحيد، ولكن الذي هو من صفة أهل تحقيق التوحيد أنهم لا يسترقون بخصوص الرقية، ولا يكتوون بخصوص الكي، ولا يتطيرون، وأما ما عدا ذلك مما أذن به، فلا يدخل في ما يختص به أهل تحقيق التوحيد، فإذا يكون الأظهر عندي مما في هذا الحديث أنه مخصوص بهذه الثلاثة لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون .

أما الأسباب الأخرى المأذون بها فلا تدخل في صفة الذين حققوا التوحيد، قال: فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبقك بها عكاشة هذا فيه دليل على أن أهل تحقيق التوحيد قليل، وليسوا بكثير؛ ولهذا جاء عديدهم في هذا الحديث بأنهم سبعون ألفا، قد جاء في بعض الروايات عند الإمام أحمد وعند غيره بأن الله -جل وعلا- أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- مع كل ألف من السبعين ألفا أعطاه سبعين ألفا، فيكون العدد قرابة خمسة ملايين من هذه الأمة، فإن كان ذلك الحديث صحيحا، فقد صحَّح إسناده بعض أهل العلم، فإنه لا يكون للعدد في هذا الحديث مفهوم، أو كان قبل سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يزاد في عدد أولئك الذين حققوا التوحيد.

ما معنى أن يزاد في عددهم؟ يعني: أن الله -جل وعلا- يمن على أناس من هذه الأمة أكثر من السبعين ألفا ممن سيأتون، فيوفقهم لعمل تحقيق التوحيد، والله -جل وعلا- هو الذي يوفق، وهو الذي يهدي، ثم هو الذي يجازي، فما أعظمه من محسن بر كريم رحيم.

الباب الثالث الذي بعد باب "من حقق التوحيد" هو باب "الخوف من الشرك" وكل من حقق التوحيد فلا بد أن يخاف من الشرك؛ ولهذا سيد المحققين للتوحيد محمد -عليه الصلاة والسلام- كان يكثر من الدعاء بأن يبعد عنه الشرك، وكذلك إبراهيم -عليه السلام- كان يكثر من الدعاء بأن لا يدركه الشرك، أو عبادة الأصنام.

فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة من أن تحقيق التوحيد عند أهله معه الخوف من الشرك، وقل من يكون مخاطرا بتوحيده، أو غير خائف من الشرك، فيكون على مراتب الكمال، بل لا يوجد، فكل محقق للتوحيد، كل راغب فيه حريص عليه يخاف من الشرك، وإذا خاف من الشرك، فإن الخوف -وهو فزع القلب وهلعه وهربه من ذلك الشيء- فإن هذا الذي يخاف من الشرك سيسعى في البعد عنه.

والخوف من الشرك يثمر ثمرات منها: أن يكون متعلما للشرك بأنواعه حتى لا يقع فيه.

ومنها: أن يكون متعلما للتوحيد بأنواعه حتى يقوم في قلبه الخوف من الشرك، ويعظم ويستمر على ذلك.

ومنها: أن الخائف من الشرك يكون قلبه دائما مستقيما على طاعة الله مبتغيا مرضاة الله، فإن عصى أو غفل كان استغفاره استغفار من يعلم عظم شأن الاستغفار، وعظم حاجته للاستغفار؛ لأن الذين يستغفرون أنواع، لكن من علم حق الله -جل وعلا- وسعى في توحيده، وتعلم ذلك وسعى في الهرب من الشرك، فإنه إذا غفل وجد أنه أشد ما يكون حاجة إلى الاستغفار؛ لهذا لصلاح القلب بوَّب الشيخ-رحمه الله- هذا الباب "باب الخوف من الشرك" وكأنه قال لك: إذا كنت تخاف من الشرك كما خاف منه إبراهيم -عليه السلام-، وكما توعد الله أهل الشرك بأنه لا يغفر شركهم، فإذن تعلم ما سيأتي في هذا الكتاب، فإن هذا الكتاب إنما هو لأجل الخوف من الشرك، ولأجل تحقيق التوحيد.

فهذا الكتاب موضوع لتحقيق التوحيد، وللخوف من الشرك، والبعد عنه، فما بعد هذين البابين -باب من حقق التوحيد، وباب الخوف من الشرك- ما بعد ذلك تفصيل لهاتين المسألتين العظيمتين -تحقيق التوحيد، والخوف من الشرك ببيان معناه، وبيان أنواعه-.

ذكرت لك فيما سبق أن الشرك: هو إشراك غير الله معه في نوع من أنواع العبادة، فقد يكون أكبر، وقد يكون أصغر، وقد يكون خفيا، قال الشيخ-رحمه الله-: وقول الله -عز وجل-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ هذه الآية من سورة النساء فيها قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ والمغفرة: هي الستر لما يخاف وقوع أثره، وفي اللغة يقال: غفر إذا ستر، ومنه سمي ما يوضع على الرأس "مغفرا" لأنه يستر الرأس، ويقيه الأثر المكروه من وقع السيف ونحوه على الرأس، فمادة المغفرة راجعه إلى ستر الأثر الذي يخاف منه، والشرك أو المعصية لها أثرها إما في الدنيا، وإما في الآخرة، أو فيهما جميعا، وأعظم ما يمن به على العبد أن يغفر ذنبه، وذلك بأن يستر عليه، وأن يمحى أثره، فلا يؤاخذ به الدنيا، ولا يؤاخذ به في الآخرة، ولولا المغفرة لهلك الناس.

قال -جل وعلا- هنا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ "لا يغفر" يعني: أبدا لا يغفر أن يشرك به، يعنى أنه بوعده هذا لم يجعل مغفرته لمن أشرك به، قال هنا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قال العلماء: في هذه الآية دليل على أن المغفرة لا تكون لمن أشرك شركا أكبر، أو أشرك شركا أصغر؛ فإن الشرك لا يدخل تحت المغفرة، بل يكون بالموازنة، ما يغفر إلا بالتوبة، فمن مات على ذلك غير تائب فهو غير مغفور له ما فعله من الشرك، قد يغفر غير الشرك كما قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فجعلوا الآية دليلا على أن الشرك الأكبر والأصغر لا يدخلون تحت المشيئة.

وجه الاستدلال من الآية أن قوله: لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ "أن يشرك" "هذه أن موصول حرفي" مع "يشرك": فعل، وتقدر "أن" المصدرية مع ما بعدها من الفعل -كما هو معلوم- بمصدر، والمصدر نكرة وقع في سياق النفي، وإذا وقعت النكرة في سياق النفي عمَّت، قالوا: فهذا يدل على أن الشرك هنا الذي نفي الأكبر والأصغر و -أيضا- الخفي، كل أنواع الشرك لا يغفرها الله -جل وعلا- وذلك لعظم خطيئة الشرك؛ لأن الله -جل وعلا- هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي أعطى، وهو الذي تفضَّل، فكيف يتوجه القلب عنه إلى غيره، لا شك أن هذا ظلم، وهو ظلم في حق الله -جل وعلا -، ولذلك لم يغفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأكثر علماء الدعوة.

قال آخرون من أهل العلم: إن قوله هنا: لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ دالة على العموم، ولكن هذا عموم مخصوص، هذا عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ يعني: الشرك الأكبر فقط دون غيره، وأما ما دون الشرك الأكبر، فإنه يكون داخلا تحت المشيئة، فيكون العموم في الآية مرادا، يكون العموم مرادا به الخصوص لماذا؟ قالوا: لأن القرآن فيه هذا اللفظ "أن يشرك به" ونحو ذلك، ويراد به الشرك الأكبر دون الأصغر غالبا.

فالشرك غالبا ما يطلق في القرآن على الأكبر دون الأصغر، قال -جل وعلا-: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ "من يشرك بالله" هنا يشرك -أيضا- فعل داخل في سياق الشرط فيكون عاما، فهل يدخل الشرك الأصغر والخفي فيه؟ بالإجماع لا يدخل؛ لأن تحريم الجنة، وإدخال النار والتخليد فيها إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر، فدلنا ذلك على أن المراد بقوله: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ إنهم أهل الإشراك في الشرك الأكبر، فلم يدخل الأصغر، ولم يدخل ما دونه، أو أنواع الأصغر، فيكون إذا فهم آية "النساء" على فهم آية "المائدة" ونحوها، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ في الشرك الأكبر ونحو ذلك، فيكون إذا على هذا القول المراد بما نفي هنا، أن يغفر الشرك الأكبر.

ولما كان اختيار إمام الدعوة كما هو اختيار عدد من المحققين كشيخ الإسلام وابن القيم وكغيرهما أن العموم هنا للأكبر والأصغر والخفي بأنواع الشرك، كان الاستدلال بهذه الآية صحيحا؛ لأن الشرك أنواع، وإذا كان الشرك بأنواعه لا يغفر، فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف، إذا كان الرياء لا يغفر، إذا كان الشرك الأصغر، الحلف بغير الله، أو تعليق التميمة أو حلقة أو خيط، أو نحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر، ما شاء الله وشئت، نسبة النعم إلى غير الله، إذا كان لا يغفر، فإنه يوجب أعظم الخوف منه، كذلك الشرك الأكبر، وإذا كان كذلك فيجتمع إذا في الخوف من الشرك.

منهم على غير التوحيد يعني: من يعبدون غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويتوجهون إلى غير الله، ويذبحون لغير الله، وينذرون لغير الله، ويحبون محبة العبادة غير الله، ويرجون غير الله رجاء العبادة، ويخافون خوف السر من غير الله إلى غير ذلك، يكون هؤلاء أولى بالخوف، يكون هؤلاء أولى بالخوف من الشرك؛ لأنهم وقعوا فيما هو متفق عليه في أنه لا يغفر، كذلك يقع في الخوف، ويكون الخوف أعظم ما يكون في أهل الإسلام الذين قد يشركون بعض أنواع الشرك من الشرك الخفي، أو الشرك الأصغر بأنواعه، وهم لا يشعرون، أو وهم لا يحذرون.

فيكون الخوف إذا علم العبد المسلم أن الشرك بأنواعه لا يغفر وأنه مؤاخذ به، فليست الصلاة إلى الصلاة يغفر بها الشرك الأصغر، وليس رمضان إلى رمضان يغفر به الشرك الأصغر، وليست الجمعة إلى الجمعة يغفر به الشرك الأصغر، فإذا يغفر بماذا؟ يغفر بالتوبة فقط، فإن لم يتب، فإنه ثم الموازنة بين الحسنات وبين السيئات، وما ظنكم بسيئة فيها التشريك بالله مع حسنات من ينجو من ذلك؟ ليس ثم إلا من عظمت حسناته، فزادت على سيئة ما وقع فيه من أنواع الشرك، ولا شك أن هذا يوجب الخوف الشديد؛ لأن المرء على خطر في أنه توزن حسناته وسيئاته، ثم يكون في سيئاته أنواع الشرك، وهي -كما هو معلوم- عندكم أن الشرك بأنواعه من حيث الجنس أعظم من الكبائر، كبائر الأعمال المعروفة.

إذا وجه الاستدلال من آية "النساء" أن قوله -جل وعلا- إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أن فيها عموما يشمل أنواع الشرك جميعا، وهذه لا تغفر؛ فيكون ذلك موجبا للخوف من الشرك، وإذا وقع أو حصل الشرك في القلب، فإن العبد يطلب معرفة أنواعه حتى لا يشرك، ومعرفة أصنافه وأفراده حتى لا يقع فيها، وحتى يحذر أحبابه، ومن حوله منها؛ لذلك كان أحب الخلق، أو أحب الناس، وخير الناس للناس من يحذرهم من هذا الأمر، ولو لم يشعروا، ولو لم يعقلوا، قال -جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ؛ لأنهم يدلون الخلق على ما ينجيهم، فالذي يحب للخلق النجاة هو الذي يحذرهم من الشرك بأنواعه، ويدعوهم إلى التوحيد بأنواعه؛ لأن هذا أعظم ما يدعى إليه.

ولهذا لما حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة تردد، وشك، ورجوع عن مناصرة الدعوة، وفهم ما جاء به الشيخ-رحمه الله-، وكتبوا للشيخ وغلظوا، وقالوا: إن ما جئت به ليس بصحيح، وإنك تريد كذا وكذا، قال في آخرها: قال بعد أن شرح التوحيد وضده ورغَّب ورهَّب قال في آخرها -رحمه الله-: "ولو كنتم تعقلون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم، ولكنكم قوم لا تعقلون" وهذا صحيح، ولكن لا يعقله إلا من عرف حق الله -جل وعلا-، رحمه الله -تعالى-، وأجزل له المثوبة، وجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، ورفع درجته في المهديين والنبيين والصالحين.

ثم ساق الشيخ-رحمه الله- بعد هذه الآية قول الله -جل وعلا-: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ الذي دعا بهذه الدعوة هو إبراهيم -عليه السلام-، ومر معنا في الباب قبله أن إبراهيم قد حقق التوحيد، وقد وصفه الله بأنه كان أمة قانتا لله حنيفا، وبأنه لم يك من المشركين، فمن كان على هذه الحال هل يطمئن من أنه لن يعبد غير الله، ولن يعبد الأصنام أم يظل على خوفه؟ حال الكُمَّل الذين حققوا التوحيد هل هم يطمئنون أم يخافون؟

هذا إبراهيم -عليه السلام- كما في هذه الآية خاف الشرك، وخاف عبادة الأصنام، فدعا الله بقوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فكيف ممن دون إبراهيم ممن ليس من السبعين ألفا فهم عامة هذه الأمة؟ والواقع أن عامة الأمة لا يخافون من الشرك فمن الذي يخاف؟ هو الذي يسعى في تحقيق التوحيد، قال إبراهيم التيمي-رحمه الله من سادات التابعين- لما تلا هذه الآية قال: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم" إذا كان إبراهيم -عليه السلام- هو الذي حقق التوحيد، وهو الذي وصف بما وصف به، وهو الذي كسَّر الأصنام بيده، ويخاف فمن يأمن البلاء بعده؟، إذا ما ثم إلا غرور أهل الغرور.

وهذا يوجب الخوف الشديد؛ لأنه ما أعطى إبراهيم الضمانة على ألا يشرك، وعلى ألا يزغ قلبه مع أنه سيد المحققين للتوحيد في زمانه، بل وبعد زمانه إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فهو سيد ولد آدم، ومع ذلك خاف، قوله هنا: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ الأصنام: جمع صنم، والصنم هو ما كان على صورة مما يعبد من دون الله، يصور صورة على شكل وجه رجل، أو على شكل جسم حيوان، أو رأس حيوان، أو على شكل صورة كوكب، أو نجم، أو على شكل الشمس والقمر ونحو ذلك، فإذا صوَّر صورة، فتلك الصورة يقال لها: صنم.

والوثن هو ما عبد من دون الله مما هو ليس على شكل صورة، فالقبر وثن، وليس بصنم، والمشهد، مشاهد القبور عند عبادها هذه أوثان، وليست بأصنام، وقد يطلق على الصنم أنه وثن، كما قال -جل وعلا- في قصة إبراهيم في سورة العنكبوت: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا قد يطلق على قلة، وقال بعض أهل العلم: هم عبدوا الأصنام، وعبدوا الأوثان جميعا، فصار في بعض الآيات ذكر الأصنام لعبادتهم الأصنام، وفي بعض ذكر الأوثان لعبادتهم الأوثان، والأول أظهر في أنه قد يطلق على الصنم أنه وثن؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد فدعا الله أن لا يجعل قبره وثنا، فصار الوثن ما يعبد من دون الله مما ليس على هيئة صورة.

قال-رحمه الله-: وفي الحديث أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه قال: "الرياء" الرياء قسمان: رياء المسلم، ورياء المنافق، رياء المنافق: رياء في أصل الدين. يعني: راءى بإظهار الإسلام، وأبطن الكفر، يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ورياء المسلم الموحد أن يحسن صلاته من أجل نظر الرجل، أو أن يحسن تلاوته لأجل التثنية، أن يمدح ويثنَّى، لا لأجل التأثير.

فالرياء مشتق من الرؤية، فما كان من جهة الرؤية، يعني: أن يحسن عبادة لأجل أن يُرَى من المتعبدين، يطيل في صلاته، يطيل في ركوعه في سجوده، يقرأ في صلاته أكثر من العادة من أجل أن يُرَى ذلك منه، يقوم الليل لأجل أن يقول الناس عنه أنه يقوم الليل، هذا شرك أصغر، والشرك الأصغر هذا الذي هو الرياء قد يكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به، وقد يكون محبطا للزيادة التي زادها؛ فيكون محبطا لأصل العمل الذي تعبد به إذا ابتدأ النية بالرياء، يعني: فيما لو صلى دخل الصلاة لأجل أن يُرى أنه يصلي، ليس عنده رغبة في أن يصلي الراتبة، لكن لما رأى أنه يُرى، ولأجل أن يمدح بما يراه الناس منه صلى، فهذا عمله يعني: تلك الصلاة حابطة، ليس له فيها ثواب، وإن جاء الرياء في أثناء العبادة، فإن ما زاده لأجل الرؤية يبطل، كما قال عليه -الصلاة والسلام-: قال الله -تعالى-: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه .

الشاهد من الحديث قوله -عليه الصلاة والسلام-: أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر هو أخوف الذنوب التي خافها النبي -عليه الصلاة والسلام- على أهل التوحيد؛ لأنهم ما داموا أهل توحيد، فإنهم ليسوا من أهل الشرك الأكبر، فبقي أن يخاف عليهم الشرك الأصغر، والشرك الأصغر تارة يكون في النيات، وتارة يكون في الأقوال، وتارة يكون في الأعمال، يعني: في القلب يكون الشرك الأصغر، وفي المقال، وفي الفعال -أيضا-، وسيأتي في هذا الكتاب بيان أصناف من كل واحدة من هذه الثلاث.

إذن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فهو أخوف الذنوب على هذه الأمة؛ لماذا خافه -عليه الصلاة والسلام -، وكان أعظم الذنوب خوفا؟ لأجل أثره وهو أنه لا يغفر، ولأجل أن الناس قد يغفلون عنه؛ ولهذا خافه عليهم -عليه الصلاة والسلام-، والشيطان حرصه على أهل التوحيد أن يدخل فيهم الشرك الأصغر من جهة الرياء، ومن جهة الأقوال، والأعمال، والنيات أعظم من فرحه بغير ذلك من الذنوب.

بعد ذلك ساق حديث ابن مسعود قال: وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار وجه الاستدلال منه أنه قال: من مات وهو يدعو من دون الله ندا ودعوة الند من دون الله من الشرك الأكبر؛ لأن الدعاء عبادة، وهو أعظم العبادة، فقد جاء في الحديث الصحيح الدعاء هو العبادة وفي معناه حديث أنس الذي في السنن الدعاء مخ العبادة فهو أعظم أنواع العبادة، فمن مات وهو يصرف هذه العبادة، أو شيئا منها لغير الله -ند من الأنداد- فقد استوجب النار.

وقوله: "دخل النار" يعني: كحال الكفار "خالدا فيها" لأن الشرك الأكبر إذا وقع من المسلم فإنه -ولو كان أصلح الصالحين- يحبط العمل0 قد قال -جل وعلا- لنبيه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فلو أشرك النبي -عليه الصلاة والسلام- فإن الله عظيم، والله أكبر، وخلقه هم المحتاجون إليه، العبيد له سبحانه، فلو أشرك النبي -عليه الصلاة والسلام- لحبط عمله، ولكان في الآخرة من الخاسرين، أفلا يوجب هذا أن يخاف من هو دونه ممن يدعي الصلاح والعلم من الشرك؟ بل قد شاع في هذه الأمة أن بعض المنتسبين إلى العلم يدعو إلى الشرك، ويحض عليه، ويكره ويبغض في التوحيد، وهذا كما قال الله -جل وعلا- عن أسلافهم: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ .

فإذن وجه الاستدلال ظاهر، من مات وهو يدعوا لله ندا من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار وذلك يوجب الخوف؛ لأن قصد المسلم، بل قصد العاقل أن يكون ناجيا من النار، ومتعرضا لثواب الله في الجنة.

لفظ: من دون الله يكثر في القرآن والسنة، "ومن دون الله" عند علماء التفسير وعلماء التحقيق، يراد بها شيئان:

الأول: معنى "مع": يدعو من دون الله. يعني: مع الله، والثاني: أن كل، وهذا بل قبل الثاني تتمه للأول، الأول أن تكون بمعنى ما "من دون الله" يعني: مع الله، وعبر عن المعية بلفظ "من دون الله" لأن كل من دُعي مع الله فهو دون الله -جل وعلا-، فهم دونه، فالله -جل وعلا- هو الأكبر، هو العظيم، وفي هذا دليل على بشاعة عملهم.

والثاني: أن قوله: "من دون الله" يعني: غير الله من مات وهو يدعو من دون الله يعني: وهو يدعو إله غير الله، فتكون "من دون الله" يعني: أنه لم يعبد الله، وأشرك معه غيره، بل دعا غيره استقلالا، فشملت من دون الله الحالين: من دعا الله، ودعا غيره، ومن دعا غير الله، وتوجه إليه استقلالا، قال: رواه البخاري.

ولمسلم عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار من لقي الله لا يشرك به شيئا ذكرت لكم بالأمس أن قوله: لا يشرك به شيئا هذا فيه نوعان من العموم: عموم في أنواع الشرك، فهي منفية، وعموم في المتوجه إليهم، في المشرك بهم، في قوله: "شيئا" من لقي الله لا يشرك يعني: بأي أنواع من الشرك، "به شيئا" يعني: لم يتوجه إلى أي أحد لا لملك، ولا لنبي، ولا لصالح، ولا لجني، ولا لطالح، ولا لحجر، ولا لشجر، إلى غير ذلك.

دخل الجنة يعني: أن الله -جل وعلا- وعده بدخول الجنة برحمته -سبحانه- وتفضله، وبوعده الصادق الذي لا يخلف، قال: ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار فكل مشرك متوعد بالنار، بل وجه الدلالة، كما يستقيم مع استدلال الشيخ بالآية بأن من لقي وهو على شيء من الشرك الأكبر، أو الأصغر، أو الخفي فإنه سينال العقوبة والعذاب في النار -والعياذ بالله-. قال: ومن لقيه يشرك به شيئا فهذه فيها عموم -أيضا كما ذكرنا-؛ لأن "من" هنا شرطية، و"يشرك" فيها نكرة، وهي عامة لأنواع الشرك، و"شيئا" عامة في المتوجه إليه من لقيه يشرك به شيئا دخل النار وهنا دخول النار هل هو أبدي أم أمدي؟ بحسب الشرك، فإن كان الشرك أكبر، ومات عليه فإنه يدخل النار دخولا أبديا، وإن الشرك ما دون الشرك الأكبر، أصغر أو خفي، فإنه متوعد بالنار، وسيدخل النار ويخرج منها؛ لأنه من أهل التوحيد.

هل يدخل الشرك الأصغر في الموازنة أم لا، ذكرت لك في أول الدرس أن الشرك الأصغر يدخل في الموازنة، موازنة الحسنات والسيئات، وأن من رجحت حسناته أنه لا يعذب على الشرك الأصغر، لكن هذا ليس في كل الخلق، لكن منهم من يعذب على الشرك الأصغر؛ لأن الموازنة بين الحسنات والسيئات ليست في كل الخلق، وليست في كل الذنوب، بل قد يكون من الذنوب ما يستوجب النار، ولو رجحت الحسنات على السيئات فإنه يستوجب الجنة، ولكن لا بد من أن يطهر في النار، وهذا دليل على وجوب الخوف من الشرك؛ لأن من لقي الله وهو من لقي الله يشرك به شيئا دخل النار فإذا كان كذلك.

وهذا يشمل الشرك الأكبر والأصغر والخفي، فإن المرء يجب عليه أن يهرب أشد الهرب من ذلك. والشرك الأصغر والخفي يستعيذ المرء بالله -جل وعلا- منه، ويقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه ؛ لأنه إذا علم، فأشرك، فإنه سيترتب الأثر الذي ذكرناه، وهو عدم المغفرة فف


عدل سابقا من قبل تركيه الخضرى في الخميس 08 أبريل 2010, 6:57 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: 4- باب الخوف من الشرك   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 6:45 am

4- باب الخوف من الشرك
س: اذكر مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد؟
جـ: لما كان الشرك ينافي التوحيد ويوجب دخول النار والخلود فيها وحرمان الجنة إذا كان أكبر وأنها لا تتحقق السعادة إلا بالسلامة منه ذكر المؤلف أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه أعظم خوف وأن يسعى في الفرار منه ومن طرقه ووسائله وأسبابه ويسأل الله العافية منه كما فعل ذلك الأنبياء والأصفياء وخيار الخلق.
س: اذكر أنواع الشرك مع التعريف لكل نوع؟
جـ: الشرك نوعان: أكبر: وهو أن يجعل لله شريكًا في عبادته يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يحبه كمحبة الله أو يصرف له نوعًا من أنواع العبادة، فهذا المشرك الذي حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
الثاني: الشرك الأصغر: وهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك الأكبر كالحلف بغير الله ويسير الرياء وعدم الإخلاص في العمل لله.
قال تعالى: }إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ{([1]).
س: اشرح هذه الآية واذكر ما يستفاد منها وبين مناسبتها لهذا الباب؟
جـ: يخبر الله تعالى أنه لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك وأنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده.
وتفيد الآية أن الشرك أعظم الذنوب لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه وأن ما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة إن شاء غفره لمن#
لقيه به، وإن شاء عذبه به، وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله.
ومناسبة الآية للباب: أنها جاءت مخوفة ومحذرة من الشرك وأبانت أن الله لا يغفر هذا النوع من المعاصي.
وقال الخليل عليه السلام }وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ{([2]).
س: من هو الخليل، وما المراد بالأصنام، اشرح الآية وبين مناسبتها للباب؟
جـ: الخليل: هو الذي تخللت محبته القلب ونفذت إليه مأخوذ من الخلة وهي خالص المحبة، والأصنام: جمع صنم وهو ما كان منحوتًا على هيئة صورة وعبد من دون الله وقيل هو عام فيما عبد من دون الله وإن لم يكن منحوتًا على هيئة صورة.
ومعنى الآية: اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام وباعد بيننا وبينها.
ومناسبتها للباب: هي أنه إذا كان خليل الرحمن الذي كان يكسر الأصنام بيده اشتد خوفه على نفسه وعلى بنيه من الشرك بسبب الافتتان بالأصنام فسأل الله له ولبنيه وقاية عبادتها فنحن أولى منه لضعف إيماننا.
وفي الحديث: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء» رواه أحمد وغيره.
س: ما هو الرياء؟ ولماذا خافه النبي r على أصحابه، واذكر علاقة الحديث بالباب؟ #

جـ: الرياء مأخوذ من الرؤية وهي أن يتظاهر الإنسان بالأعمال الصالحة ليحمده الناس وخافه النبي r على أصحابه لأنة أكثر موافقة للنفس ومحبة لها وأسهل للنفوذ إليها. وعلاقة الحديث بالباب أنه إذا كان الشرك الأصغر مخوفًا على الصحابة مع كمال إيمانهم فينبغي لك أيها المسلم أن تخاف من الأكبر والأصغر لضعف الأيمان.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله r قال: «من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار» رواه البخاري.
س: اشرح هذا الحديث وما الذي يخرج قوله من مات وما معنى الدعاء هنا وما المقصود بالند وما علاقة الحديث بالباب وما الذي يستفاد منه؟
جـ: أخبر r أن من أشرك بالله ومات على الشرك ولم يتب دخل النار. ويخرج قوله من مات من تاب قبل أن يموت ومعنى الدعاء هنا صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله. والند: هو الشبيه والمثيل. وعلاقة الحديث بالباب أنه جاء محذرًا ومخوفًا من الشرك في أي نوع من أنواعه.
ويستفاد منه أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر.
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله r قال: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار» رواه مسلم.
س: ما معنى لقي الله ومتى يكون هذا اللقاء؟ ما الذي يفيده النفي وما علاقة هذا الحديث بالباب؟
جـ: معنى لقي الله: واجهه وقابله وهذا اللقاء يكون يوم القيامة، ويفيد النفي إثبات ضد المنفي وهو التوحيد أي لقي الله موحدًا، وعلاقة الحديث بالباب أنه أفاد أن من مات مشركًا فهو من أهل النار وذلك يوجب#


شدة الخوف من الشرك.
س: اذكر ما يستفاد من الآيات والأحاديث المذكورة في هذا الباب؟
جـ: يستفاد منها:
1-الخوف من الشرك.
2-أن الرياء من الشرك الأصغر.
3-أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
4-قرب الجنة والنار.
5-فضيلة من سلم من الشرك.
6-شفقة النبي r على أمته فلا خير إلا دلهم عليه ولا شر إلا حذرهم منهم.
7-أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر.
8-أن من تاب من الذنب قبل أن يموت تاب الله عليه.

***#





([1]) سورة النساء آية (48 و116).

([2]) سورة إبراهيم آية (35).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 6:51 am


باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وقول الله -تعالى-: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذا إلى اليمن قال: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب أخرجاه.

ولهما عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه؛ فأوتي به، فبصق في عينيه؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله -تعالى- فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم يدوكون: يخوضون.


--------------------------------------------------------------------------------


هذا الباب هو باب "الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله" باب الدعوة إلى التوحيد، وقد ذكر في الباب قبله الخوف من الشرك، وقبله ذكر فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب، وباب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب، ولما ذكر بعده باب الخوف من الشرك اجتمعت معالم حقيقة التوحيد في النفس، في نفس الموحد، فهل من اجتمعت حقيقة التوحيد في قلبه بأن عرف فضله، وعرف معناه، وخاف من الشرك، ومعنى ذلك أنه استقام على التوحيد، وهرب من ضده، هل يبقي مقتصرا على نفسه أم أنه لا تتم حقيقة التوحيد في القلب إلا بأن يدعو إلى حق الله الأعظم؟، ألا وهو إفراده -جل وعلا- بالعبادة، وبما يستحقه -سبحانه وتعالى- من نعوت الجلال، وأوصاف الجمال.

بوَّب الشيخ في هذا الباب ليدل على أن من تمام الخوف من الشرك، ومن تمام التوحيد أن يدعو المرء إلى التوحيد، فإنه لا يتم في القلب حتى تدعو إليه، وهذه حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله علمت حيث شهد العبد المسلم لله بالوحدانية، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وشهادته معناها اعتقاده، ونطقه، وإخباره الغير بما دلت عليه، فلا بد -إذن- في حقيقة الشهادة وفي تمامها من أن يكون المرء المكلف الموحد أن يكون داعيا إلى التوحيد؛ لهذا ناسب أن يذكر هذا الباب بعد الأبواب قبله، ثم له مناسبة أخرى لطيفة، وهي أن ما بعد هذا الباب هو تفسير للتوحيد وبيان أفراده، وتفسير للشرك وبيان إفراده، فيكون -إذن- الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله الدعوة إلى التوحيد دعوة إلى تفاصيل ذلك، وهذا من المهمات؛ لأن كثيرين من المنتسبين للعلم من أهل الأمصار يسلمون بالدعوة إلى التوحيد إجمالا، ولكن إذا أتى التفصيل في بيان مسائل التوحيد، أو جاء التفصيل ببيان أفراد الشرك، فإنهم يخالفون في ذلك وتغلبهم نفوسهم في مواجهة الناس في حقائق إفراد التوحيد وإفراد الشرك.

إذن فالذي تميزت بها هذه الدعوة -دعوة الإمام المصلح رحمه الله- أن الدعوة فيها إلى شهادة أن لا إله إلا الله دعوة تفصيلية، ليست إجمالية، أما الإجمال فيدعو إليه كثيرون، نهتم بالتوحيد، ونبرأ من الشرك، لكن لا يذكرون تفاصيل ذلك، والذي ذكره الإمام-رحمه الله- في بعض رسائله أنه لما أراد هذا الأمر يعني: الدعوة إلى التوحيد عرضه على علماء الأمصار قال: وافقوني على ما قلت، وخالفوني في مسألتين: في مسألة التكفير، وفي مسألة القتال، وهاتان المسألتان سبب المخالفة -مخالفة أولئك العلماء فيها- أنهما فرعان ومتفرعتان عن البيان والدعوة إلى أفراد التوحيد، والنهى عن أفراد الشرك.

إذن الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، هو الدعاء إلى ما دلت عليه من التوحيد، والدعاء إلى ما دلت عليه من نفي الشريك في العبادة، وفي الربوبية، وفي الأسماء والصفات عن الله -جل وعلا-، وهذه الدعوة دعوة تفصيلية لا إجمالية؛ ولهذا فصَّل الإمام-رحمه الله- في هذا الكتاب أنواع التوحيد، وأفراد توحيد العبادة، وفصل الشرك الأكبر والأصغر، وبيَّن أفرادا من ذا وذا.

يأتي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله في الباب الذي بعده؛ لأنه باب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، قال رحمه الله: وقول الله -تعالى-: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ هذه الآية من آخر سورة "يوسف" هي في الدعوة إلى الله، وسورة "يوسف" -كما هو معلوم- من تأملها هي في الدعوة إلى الله من أولها إلى آخرها، موضوعها الدعوة؛ ولهذا جاء في آخرها قواعد مهمة في حال الدعاة إلى الله، وحال الرسل الذين دعوا إلى الله، وما خالف به الأكثرون الرسل، واستيئاس الرسل من نصرهم، ونحو ذلك من أحوال الدعاة إلى الله، في آخر تلك السورة قال الله -جل وعلا- لنبيه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ هذه سبيلي أنني أدعو إلى الله.

فمهمة الرسل هي الدعوة إلى الله -جل وعلا- هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وأحسن الأقوال قول من دعا إلى الله، وأحسن الأعمال عمل من دعا إلى الله -جل وعلا-؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال الحسن البصري-رحمه الله- في تفسير هذه الآية ما معناه قال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله من خلقه، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، هذا خليل الله، هذا حبيب الله" وهذا أمر عظيم في أن الداعي إلى الله هو أحسن أهل الأقوال قولا وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ .

قال -جل وعلا-هنا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ قوله: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ هذا موطن الشاهد، فإنه دعاء إلى الله -جل وعلا- لا إلى غيره، وهذه فيها فائدتان الأولى: أن الدعوة إلى الله دعوة إلى توحيده، دعوة إلى دينه -كما سيأتي- تفسير هذه الكلمة في الحديثين بعدها حديث ابن عباس في إرسال معاذ إلى اليمن، وحديث سهل بن سعد -رضى الله عنه- في إعطاء عليّ الراية، قال -جل وعلا-: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ الفائدة الأولى: أن الدعوة إلى التوحيد، الثانية: أن في قوله: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ التنبيه على الإخلاص، وهذا يحتاجه من أراد الدعاء إلى شهادة أن لا اله إلا الله، والدعاء إلى الإسلام، يعني: الدعوة إلى الإسلام يحتاج أن يكون مخلصا في ذلك؛ ولهذا قال الشيخ-رحمه الله- في مسائل هذا الباب في قوله: "إلى الله" التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرين وإن دعوا إلى الحق، فإنما يدعون إلى أنفسهم، أو نحو ذلك.

قال: "على بصيرة" والبصيرة هي العلم، البصيرة على معرفة لم يدع إلى الله على جهالة، قال: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي يعني: أدعو أنا إلى الله ومن اتبعني ممن أجاب دعوتي، فإنهم يدعون إلى الله -أيضا- على بصيرة، وهذا -أيضا- من مناسبة إيراد الآية تحت هذا الباب؛ لأن من اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعون إلى الله.

فإذن المتبوعون للرسول -عليه الصلاة والسلام- الموحدون لا بد لهم من الدعوة إلى الله، بل هذه صفتهم التي أمر الله نبيه أن يخبر عن صفته وعن صفتهم، قال: "قل" يعني: يا محمد هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فهذه -إذن- خصلة أتباع الأنبياء أنهم لم يخافوا من الشرك فحسب، ولم يعلموا التوحيد ويعملوا به فحسب، بل أنهم دعوا إلى ذلك، وهذا أمر حتمي؛ لأن من عرف عظم حق الله -جل وعلا- فإنه يغار على حق الرب -سبحانه وتعالى-، يغار على حق مولاه، يغار على حق من أحبه فوق كل محبوب، أن يكون توجه الخلق إلى غيره بنوع من أنواع التوجهات، فلا بد -إذن- أن يدعو إلى أصل الدين، وأصل الملة الذي اجتمعت عليه الأنبياء والمرسلين، ألا وهو توحيده -جل وعلا- في عبادته، وفي ربوبيته، وفي أسمائه وصفاته -جل وعلا وعز سبحانه-.

ثم ساق الإمام-رحمه الله- حديث ابن عباس أنه قال: لما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذا إلى اليمن قال: إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلي أن يوحدوا الله هذا موطن الشاهد، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر معاذا إذا دعا أن يكون أول الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وفسرتها الرواية الأخرى للبخاري في كتاب التوحيد من صحيحه قال: إلى أن يوحدوا الله فشهادة أن لا إله إلا الله، الدعوة إليها مأمور بها، وهي الدعوة إلى التوحيد، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- أمر معاذا أن يدعو أهل اليمن، وهم من أهل الكتاب يعني: من أهل الكتاب الذي هو التوراة والإنجيل، بعضهم يهود، وبعضهم نصارى، أما المشركون فهم فيهم قليل، بل أكثرهم على أحد أتباع الملتين.

قال العلماء في قوله -عليه الصلاة والسلام- له: إنك تأتى قوما أهل الكتاب فيه توطين، وفيه توطئة للنفس أن يهيئ نفسه لمناظرتهم، ومعاذ بن جبل من العلماء بدين الإسلام، ومن علماء الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-، فقال له -عليه الصلاة والسلام- ذلك ليهيئ نفسه لمناظرتهم، ولدعوتهم، ثم أمره أن يكون أول الدعوة إلى أن يوحدوا الله -جل وعلا- في قوله هنا: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله هذه تقرأ على وجهين: الأول: فليكن أولُ ما تدعوهم إليه شهادةَ أن لا اله إلا الله فتكون "أولُ" اسم يكن، وتكون "شهادةَ" هي الخبر، وهذا من جهة المعنى معناه أنه أخبره عن الأولين، فابتدأ بالأولية، ثم أخبره بذلك الأول. والضبط الثاني، أو القراءة الثانية أن تقر هكذا: فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله فيكون "أولَ" خبر يكن مقدم، و"شهادةُ" اسم يكن مؤخر مرفوع، وهذا معناه الإخبار عن الشهادة بأنها أول ما يدعى إليه، وهذان الوجهان جائزان، والمشهور هو الوجه الثاني، هذا بجعل "أول" منصوبة؛ وذلك لأن مقام ذكر الشهادة والابتداء بها هو الأعظم، وهو المقصود ليلتفت السامع والمتلقي -وهو معاذ- إلى ما يراد أن يخبر عنه من جهة الشهادة.

فإذن موطن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبة إيراد هذا الحديث في الباب هو ذكر أن أول ما يدعى إليه هو التوحيد، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، ثم ساق -أيضا- حديث سهل بن سعد الذي في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم .

"بات" البيتوتة: هي المكث في الليل، معه نوم، أو ليس معه نوم، بات الناس يدوكون ليلتهم يعني: يخوضون في تلك الليلة، باتوا يعني: ظلوا ليلا يتحدثون من دون نوم لشدة هذا الفضل الذي ذكره عليه الصلاة والسلام.

جزى الله فضيلة الشيخ خير الجزاء، ونفعنا وإياكم بما سمعنا.

ثم ساق أيضا حديث سهل بن سعد الذي في الصحيحين أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون ليلتهم بات: البيتوتة هي المكث في الليل، معه نوم أو ليس معه نوم بات الناس يدوكون ليلتهم يعني: يخوضون في تلك الليلة، باتوا يعني ظلوا ليلا يتحدثون من دون نوم؛ لشدة هذا الفضل الذي ذكره -عليه الصلاة والسلام-.

قال: فلما أصبحوا غَدَوْا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يُعْطَاهَا فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه فأتى به فبصق في عينيه، ثم دعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام هذا موطن الشاهد.

والمناسبة لإيراد هذا الحديث في الباب قال: ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله -تعالى- فيه الدعوة إلى الإسلام هي الدعوة إلى التوحيد؛ لأن أعظم أركان الإسلام شهادة أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله، وضم إليها -عليه الصلاة والسلام- أن يدعوهم أيضا إلى حق الله فيه يعني: إلى ما يجب عليه من حق الله فيه.

قال: وأخبرهم بما يجب عليه من حق الله فيه، يعني: في الإسلام من جهة التوحيد ومن جهة الفرائض، واجتناب المحرمات، ولهذا كانت الدعوة إلى الإسلام يجب أن تكون في أصله، وهو التوحيد، وبيان معنى الشهادتين ثم بيان المحرمات والواجبات؛ لأن أصل الأصول هو المقدم فهو أول واجب.

لاحظ أن الآية، آية سورة يوسف فيها بيان أن كل الصحابة دعاة إلى الله -جل وعلا- دعاة إلى التوحيد، وحديث معاذ فيه أن معاذ كان من الدعاة إلى الله، وفصّل فيه نوع تلك الدعوة إلى الله -جل وعلا-.

وكذلك حديث سهل بن سعد الذي فيه قصة علىّ، فيه الدعوة إلى الإسلام يكون هذان الحديثان كالتفصيل لقوله في الآية:

أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فالدعوة على بصيرة هي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله إلى أن يوحدوا الله، الدعوة إلى الإسلام، وما يجب على العباد من حق الله فيه.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 7:03 am

باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وقول الله -تعالى-: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا .

وقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .

وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يُعْبَد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.


--------------------------------------------------------------------------------


باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، مر معنا أن التوحيد هو شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا قال العلماء: العطف هنا التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، هذا من عطف المترادفات، ولكن هذا فيه نظر من جهة أن الترادف غير موجود، الترادف الكامل، لكن الترادف الناقص موجود، فإذن هو من قبيل عطف المترادفات التي معناها واحد لكن يختلف بعضها عن بعض في بعض المعنى.

فالتوحيد مر معنا تعريفه بأول الكتاب وقوله: باب تفسير التوحيد، يعني: الكشف والإيضاح عن معنى التوحيد، وقد قلت لك: إن التوحيد هو اعتقاد أن الله -جل وعلا- واحد في ربوبيته لا شريك له واحد في إلاهيته لا نِدَّ له، واحد في أسمائه وصفاته لا مثل له سبحانه وتعالى، قال جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

ويشمل ذلك أنواع التوحيد جميعا، فإذن التوحيد هو اعتقاد أن الله واحد في هذه الثلاثة أشياء.

وشهادة أن لا إله إلا الله يعني: تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، هذه الشهادة أعظم كلمة قالها مكلف، ولا شيء أعظم منها؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسماوات، وما تعبَّدَ المتعبدون إلا بتحقيقها وبامتثالها، شهادة أن لا إله إلا الله، الشهادة تارة تكون شهادة حضور وبصر، وتارة تكون شهادة علم يعني: يشهد على شيء حضره ورآه أو يشهد على شيء علمه، هذان نوعان بمعنى الشهادة.

فإذا قال قائل: أشهد فيحتمل أنه سيشهد بشيء رآه أو بشيء علمه، وأشهد أن لا إله إلا الله هذه شهادة علمية، ولهذا في قوله: أشهد العلم، والشهادة في اللغة وفي الشرع، وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ شهد كقوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وكقوله: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .

شهد تتضمن أشياء الأول: الاعتقاد بما سينطق به، الاعتقاد بما شهده، شهد أن لا إله إلا الله يعني: اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة، وهذا فيه العلم، وفيه اليقين بأن الشهادة فيها الاعتقاد، والاعتقاد لا يسمى اعتقادا إلا كان ثم علم ويقين.

الثاني: التكلم بها شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم صار اعتقادا وصار أيضا إعلاما ونطقا بها.

والثالث: الإخبار بذلك، والإعلام به فينطقه بلسانه من جهة الواجب، وأيضا لا يسمى شاهدا حتى يخبر غيره بما شهد، هذا من جهة الشهادة، فإذن يكون: أشهد أن لا إله إلا الله، معناها أعتقد وأتكلم وأعلم، وأخبر بأن لا إله إلا الله.

فافترقت إذن عن حال الاعتقاد، وافترقت إذن عن حال القول، وافترقت إذن عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد من الثلاثة مجتمعة؛ ولهذا نقول في الإيمان: إنه اعتقاد الجنان، وقول اللسان، وعمل الجوارح والأركان.

لا إله إلا الله هذه هي كلمة التوحيد، وهي مشتملة من حيث الألفاظ على أربعة ألفاظ الأول: "لا" الثاني "إله" الثالث "إلا" الرابع لفظ الجلالة (الله).

أما لا هنا فهي النافية للجنس تنفى جنس استحقاق الألوهية عن أحد إلا الله -جل وعلا- يعني في هذا السياق وإذا أتى بعد النفي "إلا" وهي أداة الاستثناء صارت تفيد معنى زائدا وهو الحصر والقصر، فيكون المعنى الإلهية الحقة أو الإله الحق هو الله، بالحصر والقصر ليس ثم إله حق إلا هو دون من سواه.

وكلمة (إله) فِعَال يعني من جهة الوزن فعال، قالوا: فعال تأتى أحيانا بمعنى فاعل، وتأتى أحيانا بمعنى مفعول، وننظر هنا فنجد أن كلمة أله في اللغة بمعنى عبد، وقال بعض اللغويين: أله يأله إذا تحير، أله فلان يأله أو تأله إذا تحير، وسمي الإله عندهم إلها؛ لأن الألباب تحيرت في كنه وصفه، وكنه حقيقته.

وهذا القول ليس بجيد، بل الصواب أن كلمة إله فعال بمعنى مفعول وهو المعبود، فإله معناها معبود ويدل على ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس أنه قرأ في سورة الأعراف: " أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك " .

كان ابن عباس يقرأها هكذا "ويذرك وإلهتك" قال: لأن فرعون كان يُعْبَد ولم يكن يَعْبُد، فصوب القراءة بـ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ يعني وعبادتك، وقراءتنا وهي قراءة السبعة وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ يعني المتقدمين، فهذا معناه أن ابن عباس فهم من الإلهة معنى العبادة، قد قال الراجز في شعره المعروف الذي ذكرته لكم من قبل: لله در الغانيات المدف

سـبحن واسترجعن من تأله



يعني: من عبادتي، فإذن يكون الإله هو المعبود لا إله يعني لا معبود إلا الله هنا لا معبود، لا النافية للجنس -كما تعلمون- تحتاج إلى اسم وخبر؛ لأنها تعمل عمل "إن" جعل لا++ في نكرة، فأين خبر لا النافية للجنس؟ كثير من الناس من المنتسبين للعلم قدروا الخبر لا إله موجود إلا الله.

وهذا يحتاج إلى مقدمة قبله، وهو أن المتكلمين والأشاعرة والمعتزلة ومن ورثوا علوم اليونان قالوا: إن كلمة إله هي بمعنى فاعل؛ لأن فعال تأتي بمعنى مفعول أو فاعل.

فقالوا: هي بمعنى أله، والإله هو القادر ففسروا الإله بأنه القادر على الاختراع، ولهذا تجد في عقائد الأشاعرة ما هو مسطور في شرح العقيدة السنوسية التي تسمى عندهم بـ "أم البراهين" قال ما نصه فيها: " الإله هو المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، قال: فمعنى لا إله إلا الله: لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، ففسروا الإله الألوهية بالربوبية، وفسروا الإله بالقادر على الاختراع أو بالمستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه.

وبالتالي يقدرون الخبر موجود، لا إله موجود، يعني: لا قادر على الاختراع والخلق موجود إلا الله، لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه موجود إلا الله؛ لأن الخلق جميعا محتاجون إلى غيرهم، وهذا الذي قالوه هو الذي فتح باب الشرك في المسلمين؛ لأنهم ظنوا أن التوحيد هو إفراد الله بالربوبية؛ فإذا اعتقد أن القادر على الاختراع هو الله وحده صار موحدا، إذا اعتقد أن المستغني عما سواه، والمفتقر إليه كل من عداه هو الله وحده صار عندهم موحدا.

وهذا من أبطل الباطل أين حال مشركي قريش الذين قال الله -جل وعلا- فيهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وفي آية أخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ونحو ذلك من الآيات وهي كثيرة كقوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ الآيات من سورة يونس.

وهذا معلوم أن مشركي قريش لم يكونوا ينازعون في الربوبية، فإذن صارت هذه الكلمة دالة على غير ما أراد أولئك، وهو ما ذكرناه آنفا من أن معنى لا إله يعني: لا معبود، فيكون الخبر إما أن يكون تقديره موجود، فيكون المعنى: لا معبود موجود إلا الله، وهذا باطل؛ لأننا نرى أن المعبودات كثيرة قد قال جل وعلا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ مخبرا عن قول الكفار أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا فالمعبودات كثيرة والمعبودات موجودة.

فإذن تقدير الخبر بموجود غلط، ومن المعلوم أن المتقرر في علم العربية أن خبر لا النافية للجنس يكثر حذفُه في لغة العرب، وفي نصوص الكتاب والسنة؛ ذلك أن خبر لا النافية للجنس يحذف إذا كان المقام يدل عليه، وإذا كان السامع يعلم ما المقصود من ذلك.

وقد قال ابن مالك في آخر باب لا النافية للجنس حينما ساق هذه المسألة:

وشاع في ذا الباب. .......

......................



يعني باب لا النافية للجنس:

وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر

إذا المــراد مـع سـقوطه ظهـر



إذا ظهر المراد مع حذف الخبر فإنك تحذف الخبر؛ لأن الكلام الأنسب أن يكون مختصرا كما قال -عليه الصلاة والسلام-: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول .

أين الخبر؟ كلها محذوفات؛ لأنها معلومة لدى السامع؛ إذن فالخبر هنا معلوم، وهو أنه ليس الخبر موجودا، يعني يقدر بموجود؛ لأن الآلهة التي عبدت مع الله موجودة، فيقدر الخبر بقولك بحق، أو حق لا إله بحق يعني لا معبود بحق أو لا معبود حق إلا الله.

إن قدرت الظرف فلا بأس، أو قدرت كلمة مفردة حق لا بأس، لا معبود حق إلا الله، هذا معنى كلمة التوحيد فيكون إذن كل من عُبِدَ غير الله -جل وعلا- عُبِدَ نعم، ولكن هل عبد بالحق أم عبد بالباطل، والظلم والطغيان والتعدي عبد بالباطل، والظلم والطغيان والتعدي، وهذا يفهمه العربي من سماع كلمة لا إله إلا الله.

ولهذا بئس قوم كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: بئس قومٍ أبو جهل أعلم منهم بلا إله إلا الله، يفهم هذه الكلمة وأبى أن يقولها، ولو كانت كما يزعم كثير من أهل هذا العصر وما قبله لقالوها بسهولة، ولم يدروا ما تحتها من المعاني لكن يعلم أن معناها لا معبود حق إلا الله، وأن عبادة غيره إنما هي بالظلم، ولن يقر بالظلم على نفسه وبالبغي، ولم يقر بأنه باغٍ متعد، وبالتعدي والعدوان، وهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله، وفيها الجمع بين النفي والإثبات، كما سيأتي في بيان آية الزخرف: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ .

قال الإمام -رحمه الله- وقول الله -تعالى-: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ هذه الآية تفسير للتوحيد، وذلك أننا عَرَّفَنَا التوحيدَ بأنه إفراد الله بالعبادة، وهو توحيد الإلهية، وهذه الآية اشتملت على الثناء على خاصة عباد الله بأنهم وحَّدوا الله بالإلهية، وهذه مناسبة الآية للباب فقد وصفهم الله -جل وعلا- بقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ويدعون بمعنى يعبدون؛ لأن الدعاء هو العبادة، والدعاء نوعان -كما سيأتي تفصيله-: دعاء مسألة، ودعاء عبادة.

قال هنا: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني يعبدون يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ الوسيلة هي الحاجة، الوسيلة هي القصد والحاجة يعني أن حاجاتهم يبتغونها إلى ربهم ذو الربوبية إلى ربهم ذي الربوبية الذي يملك الإجابة.

وفي قول الله -جل وعلا- في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ سئل ابن عباس -رضي الله عنهما- وهي من مسائل نافع بن الأزرق المعروفة سئل عن قوله الوسيلة في قوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ما معنى الوسيلة؟ قال: الوسيلة الحاجة، فقال له: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، ألم تسمعا إلى قول الشاعر، وهو عنترة يخاطب امرأة:

إن الرجال لهم إليك وسيلة

أن يؤخـذوك تكحـلي وتخضبي



لهم إليك وسيلة يعني: لهم إليك حاجة.

ووجه الاستدلال من آية المائدة أنه قال: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ فقدم الجار والمجرور على لفظ الوسيلة، وتقديم الجار والمجرور، وحقه التأخير يفيد الحصر والقصر، وعند عدد من علماء المعاني يفيد الاختصاص، وهذا أو ذلك، فوجه الاستدلال ظاهر في أن قوله تعالى في آية الإسراء: يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أن حاجاتهم إنما يبتغونها عند الله، وقد اختص الله -جل وعلا- بذلك، فلا يتوجهون إلى غيره.

وقد حصروا وقصروا التوجه لله -جل وعلا- وقد جاء بلفظ الربوبية دون لفظ الألوهية يعني قال: يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ولم يقل يبتغون إلى الله الوسيلة؛ لأن إجابة الدعاء والإثابة هي من مفردات الربوبية؛ لأن ربوبية الله على خلقه تقتضي أن يجيب دعائهم، وأن يعطيهم سؤلهم؛ لأن ذاك من أفراد الربوبية، فإذن ظهر من قوله: يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أن فيها تفسير التوحيد، وهو أن كل حاجة من الحاجات إنما تنزلها بالله -جل وعلا- "يدعون" يعبدون.

وهم إنما يطلبون حاجاتهم من الله -جل وعلا-، فلا يعبدون بنوع من العبادات ويتوجهون به لغير الله، فإذا نحروا فإنما ينحرون يبتغون إلى ربهم الحاجة، وإذا صلوا إنما يصلون يبتغون إلى ربهم الحاجة، وإذا استغاثوا فإنما يستغيثون بالله يبتغون إليه الحاجة دون ما سواه إلى آخر مفردات توحيد العبادة.

فهذه الآية دالة بظهور على أن قوله يدعون: يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أنه هو التوحيد، وقد استشكل بعض أهل العلم في إيراد هذه الآية في هذا الباب وقال: ما مناسبة هذه الآية لهذا الباب، وبما ذكرت لك تتضح المناسبة جلية قال جل وعلا: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وهذه حال خاصة بعباد الله أنهم جمعوا بين العبادة وبين الخوف وبين الرجاء فيرجون رحمته يخافون عذابه، وهم إنما توجهوا إليه وحده دون ما سواه فأنزلوا الخوف والمحبة والدعاء والرغب والرجاء لله -جل وعلا- وحده دون ما سواه، وهذا هو تفسير التوحيد.

قال -رحمه الله- وقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وجه الاستدلال من هذه الآية في قوله: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي هذه الجملة فيها البراءة وفيها الإثبات. البراءة مما يعبدون قال: بعض أهل العلم تبرأ من العبادة ومن المعبودين قبل أن يتبرأ من العابدين لأنه إذا تبرأ من أولئك فقد بلغ به الحنق والكراهة والبغضاء، والكفر بتلك العبادة مبلغها الأعظم.

وقد جاء تفصيل ذلك في آية الممتحنة كما هو معلوم. إذن مناسبة هذه الآية للباب أن قوله: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي اشتملت على نفي وإثبات فهي مساوية لكلمة التوحيد بل هي دلالة كلمة التوحيد ففي هذه الآية تفسير شهادة أن لا إله إلا الله؛ ولهذا قال -جل وعلا- بعدها: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ما هذه الكلمة؟ هي قول لا إله إلا الله كما عليه تفاسير السلف.

فإذن قوله جل وعلا: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ هذا فيه النفي الذي نعلمه من قوله "لا إله" فتفسير شهادة أن لا إله إلا الله في هذه الآية "لا إله" معناها أنني براء مما تعبدون "إلا الله" معناها إلا الذي فطرني.

فإذن في آية الزخرف هذه أن إبراهيم -عليه السلام- شرح لهم معنى كلمة التوحيد بقوله: إنني براء مما تعبدون، والبراءة هي الكفر والبغضاء، والمعاداة تبرأ من عبادة غير الله إذا أبغضها وكفر بها وعاداها، وهذه لا بد منها، لا يصح إسلام أحد حتى تقوم هذه البراءة في قلبه؛ لأنه إن لم تكن هذه البراءة في قلبه، فلا يكون موحدا، البراءة هي أن يكون مبغضا لعبادة غير الله، كافرا بعبادة غير الله، معاديا لعبادة غير الله.

كما قال هنا: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ أما البراءة من العابدين فإنها من اللوازم، وليست من أصل كلمة التوحيد، البراءة من العابدين فقد يعادي، وقد لا يعادي، وهذه لها مقامات منها ما هو مُكَفِّر، ومنها ما هو نوع موالاة، ولا يصل بصاحبه إلى الكفر.

إذن تَحَصَّل لك أن البراءة التي هي مضمَّنَة في النفي "لا إله" بغض لعبادة غير الله، وكفر بعبادة غير الله، وعداوة لعبادة غير الله.

وهذا القدر لا يستقيم إسلام أحد حتى يكون في قلبه ذلك. قال: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وهذا استثناء كما هو الاستثناء في كلمة التوحيد لا إله إلا الله، قال بعض أهل العلم: قال إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ذكر الفطر دون غيره؛ لأن في ذلك التذكير بأنه إنما يستحق العبادة مَن فَطَرَ، أما من لم يفطر، ولم يخلق شيئا فإنه لا يستحق شيئا من العبادة.

إذن مناسبة هذه الآية ظاهرة في الباب، ووجه الاستدلال منها ومعنى البراءة ومعنى النفي والإثبات فيها وفي كلمة التوحيد. قال: وقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أربابا: الربوبية أربابا: جمع رب، والربوبية هنا هي العبادة، يعني اتخذوا أحبارهم ورهبانهم معبودين من دون الله يعني مع الله، وذلك أنهم أطاعوهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، والطاعة من التوحيد فرد من أفراد العبادة أن يطيع في التحليل والتحريم.

فإذا أطاع غير الله في التحليل وفي التحريم، فإنه قد عبد ذلك الغير فهذه الآية فيها ذكر أحد أفراد التوحيد، أحد أفراد العبادة وهو الطاعة، وسيأتي إيرادها في باب مستقل -إن شاء الله تعالى- مع بيان ما تشتمل عليه من المعاني.

قال: وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أثبت الله -جل وعلا- أنهم اتخذوا من دون الله أندادا يعني مع الله أو من دونه أندادا، جعلوهم يستحقون شيئا من العبادات، ووصفهم بأنهم يحبونهم يعني: المشركين يحبونهم كحب الله، وقوله هنا: كَحُبِّ اللَّهِ المفسرون من السلف فمَن بعدهم هنا على قولين:

منهم من يقول: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ هي كلها في الذين اتخذوا أندادا يعني يحبون أندادهم كحبهم لله.

وقال آخرون: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ يعني يحبونهم كحب المؤمنين لله، فالكاف بمعنى مثل هنا كقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً كالحجارة: الكاف هنا اسم بمعنى مثل؛ لأنه عطف عليها اسم آخر قال: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .

يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ يعني ساووا محبة تلك الآلهة بمحبة الله، فهم يحبون الله حبا عظيما، ولكنهم يحبون تلك الآلهة أيضا حبا عظيما، وهذا التساوي هو الشرك، والتسوية هذه هي التي جعلتهم من أهل النار كما قال جل وعلا في سورة الشعراء مخبرا عن قول أهل النار: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ومعلوم أنهم ما سووا تلك الآلهة برب العالمين في الخلق والرزق ومفردات الربوبية، وإنما سووهم برب العالمين في المحبة والعبادة.

فإذن هنا يكون قوله جل وعلا: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ يعني يحبونهم محبة مثل محبتهم لله، وهذا الوجه أرجح من الوجه الآخر الذي تقديره كحب المؤمنين لله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .

وجه الاستدلال من الآية ومناسبتها من الباب ظاهرة في أن التشريك في المحبة منافٍ لكلمة التوحيد، منافٍ للتوحيد من أصله، بل حكم الله عليهم بأنهم اتخذوا أندادا من دون الله ووصفهم بأنهم اتخذوا الأنداد في المحبة، والمحبة محركة، وهي التي تبعث على التصرفات.

فإذن هنا فيه ذكر للمحبة، والمحبة نوع من أنواع العبادة، ولما لم يفردوا الله بهذه العبادة صاروا متخذين أندادا من دون الله، وهذا معنى التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله.

ثم قال -رحمه الله-: في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعْبَد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل في هذا الحديث بيان التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله؛ ذلك أن ثمة فرقا بين قول لا إله إلا الله، وبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله فالتوحيد والشهادة أرفع درجة، ومختلف عن مجرد القول.

وهذا الحديث فيه قيد زائد عن مجرد القول، قال -عليه الصلاة والسلام-: من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله فيكون الواو هنا تعطف ويكون ما بعدها غير ما قبلها؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، ويكون كفر بما يعبد من دون الله هذه زيادة على مجرد القول، فيكون قال لا إله إلا الله ومع ذلك ومع قوله: كفر بما يعبد من دون الله يعني تبرأ مما يعبد من دون الله، هذا قول.

والقول الثاني: أن الواو هنا ليست عاطفة عطف مغايرة شيء عن شيء أصلا، وإنما هي من باب عطف التفسير يعني يكون ما بعدها بعض ما قبلها كقوله جل وعلا: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ جبريل وميكال بعض الملائكة فعطفهم وخصهم بالذكر، وأظهر اسم جبريل وميكال؛ لبيان أهمية هذين الاسمين وأهمية الملكين؛ لأن أولئك اليهود لهم كلام في جبريل وميكال، المقصود أن يكون العطف هنا عطف خاصٍ بعد عام، أو عطف تفسير؛ لأن ما بعدها داخل فيما قبلها، وهذا تفسير لقوله: "لا إله إلا الله".

فيكون إذن لا إله إلا الله، على هذا القول الثاني متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله، وهذا هو الذي ذكرته لك في معنى البراء في آية الزخرف: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي .

قلنا: البراءة تتضمن البغض والكفر والمعاداة، الكفر بما يعبد من دون الله، وهذا تفسير ظاهر لكلمة التوحيد.

قال -عليه الصلاة والسلام-: من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله هذا تفسير، وهذا الوجه الثاني هو الأظهر والأنسب لسياق الشيخ -رحمه الله تعالى- بل هو الذي يتوافق مع ما قبله من الأدلة. قال: حرم دمه وماله وحسابه على الله عز وجل ذلك أنه صار مسلما، من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله صار مسلما، والمسلم لا يحل دمه إلا بإحدى ثلاث، ولا يحل ماله، ولهذا قال هنا: حرم ماله ودمه .

إذن يظهر لك من هذه الترجمة، وما فيها من الآيات والحديث أن تفسير التوحيد هو تفسير شهادة أن لا إله إلا الله يحتاج منك إلى مزيد عناية ونظر وتأمل وتأني حتى تفهمه بحجته، وبيان وجه الحجة في ذلك.

بعد ذلك قال الشيخ -رحمه الله-: "وتفسير هذه الترجمة ما يأتي بعدها من أبواب " فالكتاب كله هو تفسير للتوحيد، وتفسير لكلمة لا إله إلا الله، وبيان ما يضاد بذلك، وبيان ما ينافي أصل التوحيد، وما ينافي كمال التوحيد، وبيان الشرك الأكبر والشرك الأصغر، والشرك الخفي، وشرك الألفاظ، وبيان بعض مستلزمات التوحيد، توحيد العبادة من الإقرار لله بالأسماء والصفات، وبيان ما يتضمن توحيد العبادة من الإقرار لله جل وعلا بالربوبية.

هذا وآمل من الإخوة إذا خرجت ألا يتبعني أحد لأن فيه شيئا من الإحراج، هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

الأرباب جمع الرب والربوبية هنا بمعنى الطاعة بمعنى العبادة الرب هو المعبود كقوله في مسائل القبر: "من ربك" يعني من معبودك هذا يأتي مفصلا في الربوبية والألوهية معنى هذه وهذه إن شاء الله.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد. فموضوع كلمة هذا اليوم عن نفسية طالب العلم حين يتلقى الدرس، والمستمعون للعلم يختلفون، يختلفون من جهة رغبتهم فيما يسمعون، ويختلفون أيضا من جهة استعداداتهم، فليست الرغبات واحدة، وليست الاستعدادات واحدة، الرغبات مختلفة منهم من يستمع للعلم رغبة في تحصيله، هذا هو الغالب ولله الحمد، ومنهم من يستمع للعلم رغبة في تقييم المعلم أو في معرفة مكانته من العلم وحسن تعليمه أو حسن استعدادته للعلوم.

ومنهم من يأتي مرة ويترك عشر مرات، وهذه في رغبات أيضا متنوعة، ويهمنا منها من يأتي للعلم رغبة في العلم، فحين يأتي طالب العلم للدرس راغبا في الاستفادة ينبغي أن يكون على نفسية وحالة قلبية خاصة وحالة عقلية أيضا خاصة.

أما الحالة القلبية والنفسية، فأن يكون قصده من هذا العلم أن يرفع الجهل عن نفسه، وهذا هو الإخلاص في العلم.

لأن طلب العلم عبادة، والإخلاص فيه واجب، والإخلاص في العلم بأن ينوي بتعلمه رفع الجهل عن نفسه، وقد سئل الإمام أحمد عن النية في العلم كيف تكون؟ فقال: " أن ينوي رفع الجهل عن نفسه "

فإذا كان في طلبه للعلم يروم أن يكون معلما أو أن يكون داعيا أو أن يكون مؤلفا، ونحو ذلك فالنية الصالحة فيه والإخلاص في ذلك يكون بشيئين: الأول: أن ينوي رفع الجهل عن نفسه. الثاني: أن ينوي رفع الجهل عن غيره.

فإذا لم ينو أحد هذين، أو لم ينوهما معا، فإنه ليس بصاحب نية صحيحة، فإذا رام أحدنا أن يطلب العلم فلا بد أن يكونا ناويا رفع الجهل عن نفسه، وإذا نوى هذه النية يكون مستحضرا -بالطبع- أن الله -جل جلاله- خلقه وله عليه أمر ونهي في أصل الأصول ألا وهو حقه جل وعلا: التوحيد.

وكذلك في الأمر والنهي في الحلال وفي الحرام، وسبب الإقدام على المنهيات في العقائد، وكذلك في السلوك الجهل، من أسباب ذلك الجهل، ثم أسباب أخرى. فإذا علم ورفع الجهل عن نفسه، كان عالما بمراد الله -جل وعلا- ثم بعد ذلك يستعين الله -جل وعلا- في امتثال مُرَادَاتِهِ الشرعية هذا أمر نفسي مهم.

والأمر النفسي الثاني المهم أيضا أنه حين يتلقى العلم يتلقى وهو واثق من علم المعلم، يعني أن يكون في نفسه أن الأصل في المعلم أنه يعلم على الصواب، فإذا دخل وفي نفسه أن المعلم يعلم غلطا أو أن معلوماته مشوشة، أو أنه كذا وكذا مما يضعفه في العلم، فإنه لن يستفيد من ذلك؛ لأنه إذا استمع سيستمع بنفس المُعارض.

فسيأتي إذا قال كلمة أخذ يفكر بعدها نصف دقيقة أو دقيقة فيما قال، قال: هذا صحيح وفي اطلاعاته، وقد اطلع كذا وكذا مما يعارض كلام المعلم، ثم في هذه الدقيقة يكون المعلم قد أتى بشيء آخر، فإذا انتهى هذا من تفكيره سمع جملة أخرى، فتكون مشوشة أيضا فيدخل في اعتراضات، وهذا يحرم المستمع العلم، وإذا كان عند طالب العلم فيما يسمع إشكالات أو إيرادات فيكون عنده ورقة أو كراسة بين يديه يكتب الإشكال ثم لا يفكر فيه.

وهو يستمع العلم يكتب بحث هذه المسألة. المسألة كذا وكذا ثم بعد ذلك إذا فرغ من هذا الدرس يذهب هو ذلك اليوم أو بعده يذهب ويبحث هذه المسألة، أو يسأل عنها، ومن المعلوم أنه ليس من شرط المعلم أن يكون محققا، وليس من شرط المعلم أن يكون مصيبا دائما، فقد يكون له اختيارات، أو آراء تخالف المشهور، أو تكون له توجيهات غلط فيها.

لكن الشأن أن يكون المعلم مشهودا له بالعلم مؤصلا في العلم، يعرف ما يتكلم به، فإذا عرف ما يتكلم به وعرف أقوال الناس، وعلم العلم فإنه قد يكون عنده غفلة في مسألة، أو في حكم، أو نحو ذلك فيغلط مرة أو يغلط في تصور ونحو ذلك، هذا ليس بعجيب؛ لأن المعلم بشر والبشر خطاءون.

إذن المهم أن تتلقى العلم ممن وثقت بعلمه، وأنت في نفسية غير معارضة، وهذا يحرم كثيرين علما واسعا؛ حيث إنهم يتلقون العلم بنفسية السؤال بنفسية من يستشكل، ولهذا من أكثر السؤال في حلقات العلم لا يكون مجيدا.

وقد حضرت مرة عند الشيخ عبد الرزاق عفيفي العلامة المعروف -رحمه الله تعالى- وكان عنده من يسأله عن المسائل في الحج فإذا أتى مستفتٍ يستفتي فيأتي هذا السائل ويقول له: فإن كان كذا؟ فيحاول أن يتعلم العلم بطرح مسائل أخرى غير المسألة التي استفتى فيها السائل.

فقال له الشيخ -رحمه الله-: العلم لا يؤتى هكذا، وإنما يؤتى العلم بدراسته، وهذا صحيح؛ لأن المتعلم حين يحضر عند أهل العلم، فيسمع فإنه إذا عرض لذهنه أنه في كل ما يأتي يسأل، أو في كل ما يسمع يعترض كما مر معنا كثيرا من بعض الإخوان والشباب في حلقات العلم يريدون أسئلة ويريدون استشكالات طبعا بحسب ما عندهم من العلم سألوا واستشكلوا، ولو صبروا لكان خيرا لهم.

هذه النفسية تؤثر على الذهن وعلى صفائه وعلى تصور العلوم في أثناء الدرس؛ لهذا ينبغي لنا أننا حين نتلقى العلم أن نتلقاه بنفسية من ليس عنده علم ألبتة، يسمع ويسمع ويسمع، وإذا استشكل فيكون بعد ذلك في محله، يقيد ثم يبحث أو يسأل عن ذلك.

طبعا هذا في حق من وثقنا بعلمه، فأخذنا عنه العلم، عن ثقة بما يأتي به. نعم.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب التوحيد شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 7:14 am


باب ما جاء في الرقى والتمائم
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: باب ما جاء في الرقى والتمائم وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري -رضي الله عنه- أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك رواه أحمد وأبو داود.

التمائم شيء يعلق على الأولاد من العين لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود -رضي الله عنه- والرقى وهي التي تسمى العزائم وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العين والحمى والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا من تعلق شيئا وكل إليه رواه أحمد والترمذي.

وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه وعن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعِدْل رقبة رواه وكيع وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ومن غير القرآن


--------------------------------------------------------------------------------


باب ما جاء في الرقى والتمائم تلحظ أن الباب الأول قال فيه الإمام -رحمه الله-: باب من الشرك لبس الحلقة والخيط وهنا قال: باب ما جاء في الرقى والتمائم، ولم يقل باب من الشرك الرقى والتمائم ذلك؛ لأن الرقى منها ما هو جائز مشروع ومنها ما هو شرك والتمائم منها ما هو متفق عليه أنه شرك ومنها ما قد اختلف الصحابة فيه هل هو من الشرك أم لا؟ بهذا عبر -رحمه الله- بقوله: باب ما جاء في الرقى والتمائم وهذا من أدب التصنيف العالي.

الرقى جمع رقية، والرقية معروفة قد كانت العرب تستعملها، وحقيقتها أنها أدعية وألفاظ تقال أو تتلى ثم ينفث بها، ومنها ما له أثر عضوي في البدن ومنها ما له أثر على الأرواح ومنها ما هو جائز مشروع ومنها ما هو شرك والنبي -عليه الصلاة والسلام- رَقى ورُقي، رَقى غيره ورَقى نفسه -عليه الصلاة والسلام- ورُقي أيضا رقاه جبريل ورقته عائشة ونحو ذلك فهذا الباب معقود لبيان حكم الرقى قال باب ما جاء في الرقى والتمائم، وقد رخص الشرع من الرقى بالتي ليس فيها شرك بالرقى التي خلت من الشرك، وقد قال بعض الصحابة للنبي -عليه الصلاة والسلام- يسأله عن الرقى: فقال: اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك .

قال العلماء: الرقية تجوز بثلاثة شروط أجمع عليها:

الأول : أن تكون بالقرآن أو بأسماء الله أو بصفاته.

الثاني: أن تكون بالكلام العربي بلسان عربي معلوم يعلم معناه.

والثالث: ألا يعتقد أنها تنفع بنفسها بل الله -جل وعلا- هو الذي ينفع بالرقى.

قال بعض العلماء: يدخل في الأول السنة أيضا بما ثبت في السنة يعني يكون الشرط الأول أن تكون من القرآن أو السنة وبأسماء الله وبصفاته هذه شروط ثلاثة لكون الرقى جائزة بالإجماع إذا لم تكن من الأول أو الثاني يعني إذا تخلف الأول أو تخلف الثاني ففيها اختلاف بين أهل العلم، والثالث لا بد منه شرط متفق عليه من أن الرقى لا بد لمن تعاطاها ألا يعتقد فيها وأما من جهة كونها بأسماء الله، الله وصفاته أو بالكتاب والسنة أو أن تكون بلسان عربي مفهوم، فإن هذا مختلف فيه.

وقال بعضهم: يسوغ أن تكون الرقية بما يعلم معناه ويصح المعنى بلغة أخرى لا يشترط أن تكون بالعربية ولا يشترط أن تكون من القرآن أو السنة وهذه مسائل فيها خلاف وبحث ومن جهة تأثير أيضا غير القرآن على الراقي على المرقي وفي هذا مسائل نرجئ تفصيل ذلك إلى موضع آخر إن شاء الله المقصود أن الرقى الجائزة هي بالإجماع هي ما اجتمعت فيه ثلاثة شروط.

وأما الرقى الشركية فهي التي فيها استعاذة أو استغاثة بغير الله، أو كان فيها شيء من أسماء الشياطين، أو اعتقد المرقي فيها بأنها تؤثر بنفسها، فهذا تكون الرقية غير جائزة ومن الرقى الشركية قد قال -عليه الصلاة والسلام- إن الرقى والتمائم والتولة شرك كما سيأتي إذن الحاصل من ذلك أن الرقى منها ما هو جائز مشروع ومنها ما هو شركي، علمنا ضابط الجائز المشروع، وعلمت ضابط ما هو من جهة الشرك.

والتمائم جمع تميمة وقد ذكر تفسيرها مختصرا من قبل وهي تجمع أنواعا كثيرة، فالتمائم تجمع كل ما يعلق أو يتخذ مما يراد منه تتميم أمر الخير للعبد أو دفع الضرر عنه، ويعتقد فيه أنه سبب ولم يجعل الله ذلك الشيء سببا لا شرعا ولا قدرا، فالتميمة شيء يعلق إما جلد مثلا يكون من جلد خاص يعلق على الصدر أو يكون فيه أذكار أو أدعية وتعوذات تجعل أيضا معلقة على الصدر أو في العضد أو خرزات وحبال ونحو ذلك تجعل على الصدر تعلق أو شيء يجعل على باب البيت أو يجعل في السيارة أو يجعل في مكان ما، يجمع التمائم أنها شيء يراد منه تتميم أمر الخير وتتميم أمر دفع الضر ونحو ذلك الشيء لم يؤذن به شرعا ولم يؤذن به أيضا قدرا.

فإذن التميمة ليست خاصة بصورة معينة بل تشمل أحوالا كثيرة تشمل أصنافا عديدة منها مما هو في زمننا الحاضر ما تراه على الكثيرين من شيء يعلقونه في صدورهم يعلق شيء ثم تكون جلدة صغيرة في الصدر أو على العضد أو يربط في البطن تميمة لدفع مثلا أمراض البطن أو الإسهال أو التقيؤ ونحو ذلك أو شيء يتخذ في السيارة كما ترى بعض السيارات فيها رأس دب مثلا أو أرنب، أو يضع بعض الأشكال كحدوة فرس، أو يضع خرز على المرآة الأمامية أو يضع مسبحة على شكل معين من خشب ونحو ذلك، هذه وأصنافها من أنواع التمائم، ولها أشكال كثيرة تختلف مع اختلاف الأزمان ويحدث الناس منها شيئا كثيرا، أو يلبس سلسلة وعليها شكل عين صغيرة أو يعلق على مدخل الباب رأس ذئب أو رأس غزال أو يضع على مطرق الباب حذوة فرس هذه من التمائم التي يريد منها أصحابها أن تدفع عنهم العين أو أن تجلب لهم نفعا.

بعض الناس يقول: أعلق ولا أستحضر هذه المعاني أعلق هذا في السيارة للزينة أعلقه في البيت للجمال، ونحو ذلك من قول طائفة قليلة من الناس ونقول: إن علق التمائم للدفع أو الرفع فإنه شرك أصغر إن اعتقد أنها سبب، وإن علقها للزينة فهو محرم؛ لأجل مشابهته من يشرك الشرك الأصغر، فإذن دار الأمر على أن التمائم كلها منهي عنها سواء اعتقد فيها أو لم يعتقد؛ لأن حاله إن اعتقد فهو في شرك أصغر، وإن لم يعتقد فإنه شابه أولئك المشركين وقد قال -عليه الصلاة والسلام- من تشبه بقوم فهو منهم قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري -رضي الله عنه- أنه كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره فأرسل رسولا ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت هذا الحديث وجه الاستدلال منه على أن تعليق القلادة من الوتر على البعير مأمور بقطعه، والأمر بقطعه؛ لأجل أن العرب تعتقد أنها تدفع العين عن الأبعرة، تدفع العين عن النعم فيعلقون الأوتار على شكل قلائد وربما ناطوا بالأوتار أشياء إما خرز وإما شعر أو نحو ذلك ليدفعه، فهذا نوع من أنواع التمائم، فمناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة وهي أن قوله: لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت ظاهر في النهي عن التمائم وأن هذا النوع يجب قطعه لم يجب قطعه ؟؛ لأن في تعليقه اعتقاد أنه يدفع أو أنه يجلب النفع وهذا الاعتقاد اعتقاد شركي.

قال: وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك .

هذا الحديث فيه التأكيد قال: إن الرقى والتمائم والتولة شرك ومعلوم أن دخول "إن" على الجملة الخبرية يفيد تأكيد ما تضمنته، والرقى هنا لما دخلت عليها الألف واللام عمت، فهذا الحديث أفاد أن كل الرقى من الشرك وأن كل التمائم من الشرك وأن كل التولة من الشرك قال: إن الرقى شرك فكل الرقى شرك وقال: إن التمائم شرك فإذن كل التمائم شرك وقال: إن التولة شرك فإذن كل أنواع التولة شرك وهذا العموم خص في الرقى بالنص وحدها، خصت الرقى بقوله لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك وبأن النبي -عليه الصلاة والسلام- رقى ورقي -عليه الصلاة والسلام-.

فإذن الرقى دل الدليل على أن العموم هاهنا مخصوص وليس كل أنواع الرقية شرك بل بعض أنواع الرقية وهي التي اشتملت على شرك، فإذا العموم هنا مخصوص بأنه خرج من ذلك ما لم يكن فيه شرك لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا وفي لفظ آخر قال: لا بأس بالرقى ما لم يكن شرك .

أما التمائم فلم يأت دليل يخص نوعا من نوع بل يبقى هذا اللفظ على عمومه إن الرقى والتمائم والتولة شرك فما جاء ما يخص نوعا من التمائم دون نوع من الشرك فتكون إذن التمائم بأنواعها شرك؛ لأن ما لم يرد فيه تخصيص من الشارع فإن العموم يجب أن يبقى؛ لأن التخصيص شرع، وهذا الشرع لا بد أن يأتي من الشارع فنبقي العموم على عمومه.

قال: والتولة شرك والتولة كما فسرها الشيخ -رحمه الله- شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى زوجه نوع من السحر وهو يسمى عند العامة العطف، الصرف والعطف، نوع من السحر يصنع فيجلب شيئا ويدفع شيئا في حسب اعتقادهم، وهي في الحقيقة نوع من أنواع التمائم بأنها تصنع ويكون الساحر هو الذي يرقى فيها الرقية الشركية فيجعل المرأة تحب زوجها أو يجعل الرجل يحب زوجته، وهذا نوع من أنواع السحر والسحر شرك بالله -جل وعلا- وكفر.

وهذا أيضا عموم وكل أنواعه شرك قال وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا من تعلق شيئا وكل إليه من تعلق شيئا، شيئا هنا نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الأشياء، فكل من علق شيئا وكل إليه فمن أخرج صورة من صور التعليق كانت الحجة عليه؛ لأن هذا الدليل عام،

فهذا الدليل فيه أن من تعلق أي شيء من الأشياء فإنه يوكل إليه والعبد إذا وكل إلى غير الله -جل وعلا- فإن الخسارة أحاطت به من جنبات والعبد إنما يكون عزه ويكون فلاحه وحسن وحسن عمله أن يكون متعلقا بالله وحده، يتعلق بالله وحده في أعماله في أقواله في مستقبله في دفع المضار عنه قلبه يكون أنسه بالله يكون قلبه أنسه بالله وسروره بالله وتعلقه بالله وتفويض أمره إلى الله وتوكله على الله --جل وعلا.

فمن كان كذلك وتوكل على الله وطرد الخلق من قلبه فإنه لو كادته السماوات والأرض لجعل الله --جل وعلا- له من بينها مخرجا؛ لأنه توكل وفوض أمره على العظيم جل جلاله- وتقدست أسماؤه فقال هنا من تعلق شيءا شيئا وكل إليه فإذا تعلق العبد تميمة وكل إليها وما ظنك بمن وكل إلى خرقة أو إلى خرز أو إلى حدوة حصان أو إلى شكل حيوان ونحو ذلك لا شك أن خسارته أعظم الخسارة قال هنا: من تعلق شيئا، وجه الاستدلال كما ذكرت لك من أنه ذكر نتيجة التعلق وهو أنه يوكل إلى ذلك الشيء فمن تعلق شيئا وكل إليه، وإذا وكل إليه فمعنى ذلك أنه خسر بذلك.



الشيخ -رحمه الله- كما ذكرت لك ما صدر الباب بحكم فيكون الاستدلال بهذه على ما دلت عليه الأحاديث قال: التمائم شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين شيء يشمل أي شيء يعلق دون صفة معينة بعض العلماء قال: التمائم خرز، وبعضهم قال: جلدة ونحو ذلك وهذا ليس بجيد بل التمائم اسم يعم كل ما يعلق لدفع العين لاتقاء الضرر أو لجلب خير نفسي قال: لكن إذا كان المعلق من القرآن ترخص فيه بعض السلف إذا كان المعلق من القرآن بمعنى أنه جعل في منزله مصحفا ليدفع العين أو علق على صدره شيئا سورة الإخلاص أو آية الكرسي؛ ليدفع العين، أو ليدفع الضرر عنه هذا من حيث التعليق تميمة فهل هذه التميمة جائزة؟ أم غير جائزة؟

قال الشيخ -رحمه الله- إن التمائم إذا كانت من القرآن فقد اختلف فيها السلف، فقال بعضهم بجوازها رخص فيها بعض السلف ويعني ببعض السلف بعض كبار الصحابة، ومال إليه بعض أهل العلم الكبار وبعضهم لم يرخص فيها كابن مسعود -رضي الله عنه- وكأصحاب ابن مسعود الكبار إبراهيم وعلقمة وعبيدة والربيع بن خثيم والأسود وأصحاب ابن مسعود جميعا فالسلف اختلفوا في ذلك.

ومن المعلوم أن القاعدة أن السلف من الصحابة فمن بعدهم إذا اختلفوا في مسألة وجب الرجوع فيها إلى الدليل والدليل دل على أن كل أنواع التمائم منهي عنها من تعلق شيئا وكل إليه إن التمائم شرك إن الرقى والتمائم والتولة شرك فمن تعلق القرآن من علقه كان داخلا في المنهي عنه لكن لما كان معلقا للقرآن فإنه لم يشرك؛ لأنه علق شيئا من صفات الله --جل وعلا- وهو كلام الله -جل وعلا- فما أشرك مخلوقا؛ لأن الشرك معناه أن تشرك مخلوقا مع الله -جل وعلا-، والقرآن ليس بمخلوق بل هو كلام الباري -جل وعلا- منه بدأ وإليه يعود.

فإذن صار تعليق التميمة من القرآن خرجت؛ لأجل كون القرآن ليس بمخلوق من العموم وهو قوله: إن التمائم شرك فبقي هل هي منهي عنها أم غير منهي عنها؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: من تعلق شيئا وكل إليه ونهى عن التمائم بأنواعها فدل ذلك على أن تخصيص القرآن بالإذن من بين التمائم ومن بين ما يعلق يحتاج إلى دليل فيه؛ لأن إبقاء العموم على عمومه هذا إبقاء لدلالة ما أراد الشارع الدلالة عليه من الألفاظ اللغوية، والتخصيص نوع من أنواع التشريع لا بد فيه من دليل واضح؛ لهذا صارت الحجة مع من يجعل التمائم التي من القرآن مما لا يرخص فيه كابن مسعود وكغيره من الصحابة -رضوان الله عليهم- وكذلك هو قول عامة أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها المحققون من أصحابه، وعليها المذهب عند المتأخرين.

بقي أن نقول: إن في إجازة اتخاذ التمائم من القرآن إن في تجويزها مفاسد، وفي تجويز اتخاذ التمائم من القرآن أنواع من المنكر.

الأول: أنه إذا اتخذت التميمة من القرآن، فإننا إذا رأينا من عليه التميمة فيشتبه علينا الأمر هل هذه تميمة شركية أو من القرآن؟ وإذا ورد الاحتمال، فإن المنكر على الشركيات يضعف يقول: احتمال أنها من القرآن، فإجازة تعليق التمائم من القرآن فيه إبقاء التمائم الشركية؛ لأن حقيقة التميمة التي تعلق أنها تكون مخفية غالبا في جلد أو في نوع من القماش ونحو ذلك، فإذا رأينا صورة التعليق.

وقلنا: هذا يحتمل أن يكون كذا ويحتمل أن يكون كذا فإذا استفصلت منه وقلت له هل هذه تميمة شركية أو من القرآن معلوم أن صاحب المنكر دائما سيختار أن تكون من القرآن حتى ينجو من الإنكار؛ لأنه يعتقد في هذه يريد أن يسلم له تعليقها، فهذا من المفاسد العظيمة أن في إبقائها إبقاء للتمائم الشركية، وفي النهي عنها سد لذريعة الإشراك بالتمائم الشركية ولو لم يكن إلا هذا لكان كافيا.

الثاني: أن الجهلة من الناس إذا علقوا التمائم من القرآن فإنهم يتعلقون بها يتعلق قلبهم بها، ولا تكون عندهم مجرد أسباب، وإنما يكون عندهم فيها خاصية من الخصائص التي تقوم بنفسها يأتي بالشيء أو تدفع الشيء وهذا لا شك فتح لباب اعتقادات فاسدة على الناس يجب أيضا وصده ومن المعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع.

أيضا من المفاسد المتحققة عامة في ذلك أنه إذا علق شيئا من القرآن فإنه يمتهنه ينام عليه أو يدخل به مواضع قذرة أو يكون معه في حالات لا يكون من الحسن أن يكون معه قرآن فيها أو آيات، وهذا مما ينبغي اجتنابه وتركه، إذن فتحصل أن تعليق التمائم جميعا بالدليل وبالتعليل لا يجوز فما كان منها من القرآن فنقول: يحرم على الصحيح ولا يجوز ويجب إنكاره، وما كان منها من غير القرآن وتعلق تمائم عامة فهذا نقول: إنه من الشرك بالله لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الرقى والتمائم والتولة شرك والتخصيص نوع من العلم يجب أن يكون فيه دليل نقف عند هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


هذا أيضا يسأل ما حكم من يضع آية الكرسي في السيارة أو يضع مجسما فيه أدعية أدعية ركوب السيارة وأدعية السفر وغيرها من الأدعية نقول: هذا فيه تفصيل فإن كان وضع هذه الأشياء ليتحفظها ويتذكر قراءتها فهذا جائز كمن يضع المصحف أمام السيارة أو يضعه معه؛ لأجل أنه إذا صارت عنده فرصة هو أو من معه أن يقرأ فيه فهذا جائز لا بأس به لكن إن وضعها تعلقا لأجل أن تدفع عنه فهذا هو الكلام في مسألة تعليق التمائم من القرآن فلا يجوز ذلك على الصحيح ويحرم نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


بسم الله الرحمن الرحيم - الحمد لله رب العالمين - وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

س: السؤال الأول فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى: من يوصي أحدا يبحث له عن راق يرقي له دون أن يطلب الرقية من الراقي بنفسه هل هذا يدخل من الذين يسترقون ؟

ج ) بسم الله الرحمن الرحيم - الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد فإن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب قال: هم الذين لا يسترقون يعني لا يطلبون الرقية وفهم جواب السؤال يتبع فهم التعليل ذلك أن أولئك كانوا لا يسترقون يعني لا يطلبون الرقية؛ لأجل ما قام في قلوبهم من الاستغناء بالله وعدم الحاجة إلى الخلق، ولم تتعلق قلوبهم في الخلق في هذا الأمر الذي سيرفع ما بهم، وكما ذكرت لك أن مدار العلة على تعلق القلب بالراقي في رفع أو بالرقية في رفع ما بالمرقي من أذى أو في دفع ما قد يتوقع من السوء، وعليه فيكون الحالان سواء يعني إن كان طلب بنفسه أو طلب بغيره فإنه طالب والقلب متعلق بمن طلب منه الرقية إما بالأصالة أو بواسطة.

س ) هذا يقول: يقول: أهلي يذبح الذبحة يوزعها على المساكين لدفع البلاء فهل تجوز تلك النية ؟

ج ) هذا فيه تفصيل ذلك أن ذبح الذبائح إذا كان من جهة الصدقة ولم يكن لدفع شيء متوقع أو لرفع شيء حاصل ولكن من جهة الصدقة وإطعام الفقراء، فهذا لا بأس به داخل في عموم الأدلة التي فيها الحض على الإطعام وفضيلة إطعام المساكين، وأما إن كان الذبح؛ لأن بالبيت مريضا فيذبح لأجل أن يرتفع ما بالمريض من أذى، فهذا لا يجوز ويحرم قال العلماء: سدا للذريعة ذلك؛ لأن كثيرين يذبحون حين يكون بهم مرض لظنهم أن المرض كان بسبب الجن أو كان بسبب مؤذ من المؤذين إذا ذبح الذبيحة وأراق الدم فإنه يندفع شره أو يرتفع ما أحدث، وهذا لا شك أنه اعتقاد محرم ولا يجوز، والذبيحة لرفع المرض والصدقة بها عن المريض.

قال العلماء: هي حرام ولا تجوز سدا للذريعة، وللشيخ العلامة سعد بن حمد بن عتيق رسالة خاصة في الذبح للمريض، كذلك إذا كان الذبح لدفع أذى متوقع مثلا كان بالبلد داء معين فذبح لدفع هذا الداء أو كان في الجهات التي حول البيت ثَمَّ شيء يؤذي فيذبح ليندفع ذلك المؤذي، إما لص مثلا يتسلط على البيوت أو أذى يأتي للبيوت فيذبح ويتصدق بها لأجل أن يندفع ذلك الأذى، هذا أيضا غير جائز ومنهي عنه سدا للذريعة؛ لأن من الناس من يذبح لدفع أذى الجن وهو شرك بالله -جل وعلا.

فإذن تحصل من ذلك أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- داووا مرضاكم بالصدقة فيما رواه أبو داود وغيره وقد حسنه بعض أهل العلم وضعفه آخرون أن معنى داووا مرضاكم بالصدقة يعني بغير إراقة الدم فيكون إراقة الدم مخصوص من ذلك من المداواة بالصدقة؛ لأجل ما فيه من وسيلة إلى الاعتقادات الباطلة، ومعلوم أن الشريعة جاءت لسد الذرائع جميعا إلا يعني الذرائع الموصلة إلى الشرك، وجاءت أيضا بفتح الذرائع الموصلة إلى الخير، فما كان من ذريعة يوصل إلى الشرك والاعتقاد الباطل فإنه يُنهى عنه.

س ) وهذا يقول ما رأي فضيلتكم ببعض الأواني التي يكتب عليها بعض الآيات والتي تباع في بعض المحلات التجارية ؟

ج ) هذه الأواني يختلف حالها إن كان يستخدمها؛ لأجل أن يتبرك بما كتب فيها من الآيات فيجعل فيها ماء ويشربه؛ لأجل أن الماء يلامس هذه الآيات، فهذا من الرقية غير المشروعة؛ لأن الرقية المشروعة ما كانت الآيات في الماء، وهذه الآيات لم تنحل في الماء؛ لأنها من معدن أو من نحاس والتصاق الماء بتلك الكتابات آيات أو أدعية لا يجعل الماء بذلك مباركا أو مقروءا فيه، فإذا اتخذت لذلك فهذا من الرقية غير المشروعة، وأما إذا أخذها للزينة أو لجعلها في البيت أو لتعليقها فهذا كرهه كثير من أهل العلم؛ لأن القرآن ما نزل لتزين به الأواني أو تزين به الحيطان، وإنما نزل للهداية إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .

س ) وهذا يقول بعض الناس يضع المصحف في درج السيارة وذلك بقصد أن للمصحف أثر في رد العين أو البلاء نرجو منكم التوضيح ؟

ج ) إذا كان يقصد من وضع المصحف في درج السيارة أو على طبلون السيارة الأمامي أو خلف السيارة أن يدفع عنه وجود المصحف العين فهذا من اتخاذ المصحف تميمة، وقد مر معكم بالأمس حكم التمائم من القرآن، وأن الصحيح أنه لا يجوز أن يجعل القرآن تميمة ولا أن يجعل القرآن بوجوده يعني المصحف دافعا للعين لكن الذي يدفع العين قراءة القرآن والأدعية المشروعة والاستعاذة بالله -جل وعلا- ونحو ذلك مما جاء في الرقية، فتحصل أن وضع القرآن لهذه الغاية داخل في المنهي عنه وهو من اتخاذ التمائم من القرآن لما كان القرآن غير مخلوق وهو كلام الله -جل وعلا- لم تصر هذه التميمة شركية.

وإنما ينهى عنها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل هذا، ولم يجعل في عنق أحد من الصحابة لا الصغار ولا الكبار ولا أذن ولا وجه بأن يجعل القرآن في شيء من صدورهم أو في عضد أحدهم وفي بطنه، ومعلوم أن مثل هذا لو كان دواء مشروعا أو رقية سائغة أو تميمة مأذون بها لرخص فيها سيما مع شدة حاجة الصحابة إلى ذلك، فتعليق القرآن أيسر من البحث عن راق يرقي ويطلب منه وربما يكافأ على رقيته، فلما كان هذا أيسر والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرشدهم إلى الأيسر، وقد بعث ميسرا علم مع ضميمة الأدلة التي ذكرت لكم بالأمس أن هذا من جنس غير المشروع والله أعلم.

س ) وهذا يقول قوله: وعامرهن غيري قد يستدل به أهل البدع على أن الله في كل مكان نرجو التوضيح؟ بارك الله فيك.

ج ) في قوله -جل وعلا- في الحديث القدسي يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري السماوات السبع معروفة طباق بعضها فوق بعض، وعامرهن هي من العمارة المعنوية يعني من عمرها بالتسبيح والتهليل وذكر الله وعبادته، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع ففيها عمار كثيرون عمروها بعبادة الله -جل وعلا- قد قال -جل وعلا- في أول سورة الأنعام وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ .

فالله -جل وعلا- هو المعبود سبحانه في السماوات وهو المعبود سبحانه في الأرض فقوله هنا: لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري يعني من يعمر السماوات والله -جل وعلا- في هذا الاستثناء في قوله: غيري يعني إلا أنا هذا يحتمل أن يكون الاستثناء راجع إلى الذات وراجع إلى الصفات، ومعلوم أن الأدلة دلت على أن الله -جل وعلا- على عرشه مستو عليه بائن من خلقه -جل وعلا- والسماوات من خلقه -سبحانه وتعالى- فعلم من ذلك أن قوله: وعامرهن غيري راجع إلى عمارة السماء بصفات الله -جل وعلا- وبما يستحقه سبحانه من التأله والعبودية، وما فيها من علم الله ورحمته وقدرته وتصريفه للأمر وتدبيره ونحو ذلك من المعاني.

س ) وهذا يقول رجل عنده ولد مريض مرض لم يجد له علاج فقال: أذهب إلى مكة وأضع ولدي عند البيت أدعو له بالشفاء، ثم وقت الظهر سوف أعزم مائة شخص من فقراء الحرم على الغداء وأقول: ادعوا الله أن يشفي ولدي. فما رأيكم في هذا العمل ؟

ج ) هذا العمل فيه تصدق ودعوة الفقراء إلى الطعام، وفيه طلب الدعاء منهم لولده، والتصدق بالطعام هذا من جنس المشروع كما ذكرت لكم، فإن كان فيه من الذبائح فعلى التفصيل الذي مر من قبل سواء أكانت دجاجا أو كان ضأنا أو غير ذلك مما يذبح يعني مما فيه إراقة دم، وإن كان أطعمهم طعاما لإشباعهم والتصدق عليهم، هذا هو القصد وطلب منهم الدعاء، وهي المسألة الثانية فهذا راجع إلى هل يشرع طلب الدعاء من الغير بهذه الصفة؟ والظاهر أن هذا من جنس ما هو غير مشروع، وإذا قلنا: غير مشروع يعني مما ليس بمستحب ولا واجب وهل يجوز ذلك أم لا؟ طلب الدعاء من الآخرين قال العلماء فيه: الأصل فيه الكراهة.

والذي يتأمل ما روي عن الصحابة وعن التابعين فيمن طلب منهم الدعاء أنهم قهروه ونهوه وقالوا: أنحن أنبياء كما قال حذيفة، وكما قال معاذ وكما قال غيرهما، ومالك بن أنس -رضي الله عنه- ورحمه إمام دار الهجر، كان ربما طلب منه الدعاء فنهى من طلب منه الدعاء لم؛ لأنه إذا عرف عند الناس أن فلانا يطلب منه الدعاء بخصوصه، فإن القلوب تتعلق بذلك وإنما يتعلق في طلب الدعاء بالأنبياء أما من دونهم فلا يتعلق بهم في هذا الأمر.

لهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن طلب الدعاء من المسلم الحي يكون مشروعا إذا قصد به نفع الداعي ونفع المدعو له، إذا قصد الطالب أن ينفع الجهتين ينفع الداعي وينفع المدعو له فهذا محسن وطالب لنفسه فهذا من المشروع، وهذا هو الذي يحمل عليه ما جاء في السنة فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر لما أراد أن يعتمر قال له: لا تنسنا يا أخي من دعائك وهذا الحديث إسناده ضعيف وقد احتج به بعض أهل العلم.

وظاهر أن معناه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن ينفع عمر بهذه الدعوة، فالطالب للدعاء محتاج إلى غيره، المقصود من هذا أن فعل هذا السائل لأجل ولده الأولى تركه لأجل ألا يتعلق قلبه بأولئك في دعائهم، ومن العلاج المناسب أن يلتزم بين الركن والمقام يعني بين الحج الأسود وبين حاسر حد باب الكعبة وهو الملتزم يلتزم ويلصق بطنه وصدره وخده ببيت الله -جل وعلا- ويقف بالباب مخبتا منيبا سائلا الله -جل وعلا- منقطعا عن الخلق عالما أنه لا يشفي من الداء في الحقيقة إلا الله -جل جلاله- وأنه -جل وعلا- هو الذي يشفي وهو الذي يعافي كما قال: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فهذا أعظم أثرا -إن شاء الله- من فعله الذي يريد أن يفعله من دعوة أولئك، فالتضرع لله في أوقات الإجابة وفي الأماكن الفاضلة وفي الأزمنة الفاضلة نرجو أن يكون مع إجابة الدعاء وشفاء المرض، هذا ونكتفي بهذا القدر ونبدأ بكتاب التوحيد.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب التوحيد شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 7:19 am

باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين قال المصنف -رحمه الله تعالى-: باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما وقول الله -تعالى- أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى وعن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لتركبن سنن من كان قبلكم رواه الترمذي وصححه.


--------------------------------------------------------------------------------


قال بعد ذلك -رحمه الله-: باب من تبرك بشجر وحجر ونحوهما وقول الله -تعالى- أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى الآيات باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما يعني ما حكمه؟ باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما ما حكمه؟، الجواب هو شرك يعني باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما فهو مشرك، وقوله: من تبرك التبرك تفعل من البركة وهو طلب البركة، والبركة مأخوذة من حيث الاشتقاق من مادة بروك أو من كلمة بركة، أما البروك فبروك البعير يدل على ملازمته وثبوته في ذلك المكان، والبركة وهي مجتمع الماء تدل على كثرة الماء في هذا الموضع وعلى لزومه له وعلى ثباته في هذا الموضع، فيكون إذن معنى البركة كثرة الشيء الذي فيه الخير وثباته ولزومه، فالتبرك هو طلب الخير الكثير وطلب ثباته وطلب لزومه تبرك يعني طلب البركة.

والنصوص في القرآن والسنة دلت على أن البركة من الله -جل وعلا- وأن الله -جل وعلا- هو الذي يبارك، وأن الخلق لا أحد يبارك أحدا وإنما هو -جل وعلا- الذي يبارك قال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ يعني عظم خير من نزل الفرقان على عبده وكثر ودام وثبت تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وقال سبحانه: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وقال: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا .

فالذي يبارك هو الله -جل وعلا- لا يجوز للمخلوق أن يقول باركت على الشيء أو أبارك فعلكم؛ لأن لفظ البركة ومعنى البركة إنما هي من الله؛ لأن الخير كثرته ولزومه وثباته إنما هو من الذي بيده الأمر، والنصوص في الكتاب والسنة دلت على أن البركة التي أعطاها الله -جل وعلا- للأشياء إما أن تكون الأشياء هذه أمكنة أو أزمنة، وإما أن تكون تلك الأشياء من بني آدم يعني مخلوقات آدمية، أما الأمكنة والأزمنة فظاهر أن الله -جل وعلا- حين بارك بعض الأماكن كبيت الله الحرام، وكما بارك حول بيت المقدس الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ والأرض المباركة، ونحو ذلك أن معنى أنها مباركة أن يكون فيها الخير الكثير اللازم الدائم لها ليكون ذلك أشجع بأن يلازمها أهلها الذين دعوا إليها، وهذا لا يعني أن يتمسح بأرضها أو أن يتمسح بحيطانها، فهذه بركة لازمة لا تنتقل في الذات.

فبركة الأماكن أو بركة الأرض ونحو ذلك هي بركة لا تنتقل بالذات يعني إذا لامست الأرض أو دفنت فيها أو تبركت بها فإن البركة لا تنتقل بالذات، وإنما الأرض المباركة من جهة المعنى كذلك بيت الله الحرام هو مبارك لا من جهة ذاته يعني أن يتمسح به فتنتقل البركة وإنما هو مبارك من جهة ذاته من جهة المعنى، يعني اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في هذه البنية من جهة تعلق القلوب بها وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها وأتاها وطاف بها وتعبد عندها حتى الحجر الأسود هو حجر مبارك، ولكن بركته لأجل العبادة يعني أنه من استلمه تعبدا مطيعا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في استلامه له وفي تقبيله فإنه يناله به بركة الاتباع، وقد قال عمر -رضي الله عنه- لما قبل الحجر: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر .

قوله: لا تنفع ولا تضر يعني لا ينقل لأحد شيئا من النفع ولا يدفع عن أحد شيئا من الضر، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك هذا من جهة الأمكنة وأما الأزمنة فمعنى كون الزمان مباركا مثل شهر رمضان أو بعض أيام الله الفاضلة، يعني أن من تعبد فيها ورام الخير فيها فإنه يناله من كثرة الثواب ما لا يناله في غير ذلك الزمان.

والقسم الثاني: البركة المنوطة ببني آدم والبركة التي جعلها الله -جل وعلا- في الناس إنما هي بركة فيمن آمن؛ لأن البركة من الله -جل وعلا- وجعل بركته للمؤمنين به وسادة المؤمنين هم الأنبياء والرسل، والأنبياء والرسل بركتهم بركة ذاتية يعني أن أجسامهم مباركة فالله -جل وعلا- جعل جسد آدم مباركا وجعل جسد إبراهيم -عليه السلام- مباركا، وجعل جسد نوح مباركا، وهكذا جسد عيسى وموسى -عليهم جميعا الصلاة والسلام- جعل أجسادهم مباركة بمعنى أنه لو تبرك أحد من أقوامهم بأجسادهم، إما بالتمسح بها أو بأخذ عرقها أو بالتبرك ببعض الشعر فهذا جائز؛ لأن الله جعل أجسادهم مباركة.

وهكذا النبي -صلى الله عليه وسلم- محمد بن عبد الله جسده أيضا جسد مبارك، ولهذا جاء في الأدلة في السنة أن الصحابة كانوا يتبركون بعرقه، يتبركون بشعره، وإذا توضأ اقتتلوا على وضوءه وهكذا في أشياء شتى ذلك؛ لأن أجساد الأنبياء فيها بركة ذاتية يمكن معها نقل أثر هذه البركة أو نقل البركة والفضل والخير من أجسادهم إلى غيرهم، وهذا مخصوص بالأنبياء والرسل، أما غيرهم فلم يرد دليل على أن ثم من أصحاب الأنبياء من بركتهم بركة ذاتية حتى أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر فقد جاء بالتواتر القطعي أن الصحابة والتابعين والمخضرمين لم يكونوا يتبركون بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بجنس تبركهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بالتبرك بالشعر أو بالوضوء أو بالنخامة أو بالعرق أو بالملابس ونحو ذلك.

فعلمنا بهذا التواتر القطعي أن بركة أبي بكر وعمر إنما هي بركة عمل ليست بركة ذات تنتقل كما هي بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم فدل هذا على أن في كل مسلم بركة وأيضا فيه يعني في البخاري قال: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر هذه البركة التي أضيفت لكل مسلم وأضيفت لآل أبي بكر بركة عمل، هذه البركة راجعة إلى الإيمان وإلى العلم والدعوة والعمل.

فنقول: كل مسلم فيه بركة هذه البركة ليست بركة ذات وإنما هي بركة عمل بركة ما معه من الإسلام والإيمان وما في قلبه من الإيقان والتعظيم لله -جل وعلا- والإجلال له والاتباع لرسوله -صلى الله عليه وسلم- هذه البركة بركة العلم أو بركة العمل بركة الصلاح لا تنتقل، وبالتالي يكون التبرك بأهل الصلاح هو الاقتداء بهم في صلاحهم التبرك بأهل العلم هو الأخذ من علمهم والاستفادة من علومهم، وهكذا ولا يجوز أن يتبرك بهم بمعنى يتمسح بهم أو يتبرك بريحهم؛ لأن أفضل الخلق من هذه الأمة لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهذا أمر مقطوع به.

تبرك المشركين أنهم كانوا يرجون كثرة الخير ودوام الخير ولزوم الخير وثبات الخير بالتوجه إلى الآلهة، وهذه الآلهة يكون منها الصنم الذي من الحجارة، ويكون منها القبر من التراب ويكون منها الوثن، ويكون منها الشجر، ويكون منها البقاع المختلفة غار أوعين ماء أو نحو ذلك هذه تبركات مختلفة جميعها تبركات شركية، ولهذا الشيخ -رحمه الله- قال: باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما الشجر جمع شجرة والشجر معروف والحجر معروف ذلك أن المشركين كانوا يتبركون بالأشجار والأحجار حتى في أول الدعوة في هذه البلاد كانت الأشجار كثيرة التي يتبرك بها والأحجار كثيرة.

قال: ونحوهما نحوهما يعني نحو الحجر والشجر مثل البقاع المختلفة أو غار معين أو قبر أو عين ماء أو نحو ذلك من الأشياء التي يعتقد فيها أهل الجهالة ما حكمه؟ الجواب أنه مشرك كما صرح به الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه فتح المجيد باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما فهو مشرك، الشراح في هذا الموضع لم يفصحوا هل شرك المتبرك بالشجر والحجر شرك أكبر أو شرك أصغر؟ وإنما أدار المعنى الشيخ سليمان -رحمه الله- تيسير بعد أن ساق تفسير آية النجم أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى قال في آخره: مناسبة الآية للترجمة أنه إن كان ذلك في الشرك، إن كان التبرك شركا أكبر فظاهر، وإن كان شركا أصغر، فالسلف يستدلون بالآيات التي نزلت في الأكبر على الأصغر.

وتحقيق هذا المقام أن التبرك بالشجر أو بالحجر أو بالقبر أو ببقاع مختلفة قد يكون شركا أكبر، وقد يكون شركا أصغر يكون شركا أكبر إذا طلب بركتها معتقدا أن هذا الشجر أو الحجر أو القبر إذا تمسح به أو تمرغ عليه أو التصق به يتوسط له عند الله، فإذا اعتقد فيه أنه وسيلة إلى الله فهذا اتخاذ إله مع الله -جل وعلا- وشرك أكبر، وهذا هو الذي كان يزعمه أهل الجاهلية بالأشجار والأحجار التي يعبدونها وبالقبور التي يتبركون بها يعتقدون أنهم إذا عكفوا عندها وتمسحوا بها أو نثروا التراب عليها.

فإن هذه البقعة أو صاحب هذه البقعة أو الروحانية الروح التي تخدم هذه البقعة أنه يتوسط له عند الله -جل وعلا- فهذا راجع إلى اتخاذ أنداد مع الله -جل وعلا- قد قال سبحانه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ويكون التبرك شركا أصغر إذا كان هذا التبرك بنثر التراب عليه أو إلصاق الجسم بذلك أو التبرك بعين ونحوها، إذا كان من جهة أنه جعله سببا لحصول البركة بدون اعتقاد أنه يوصل إلى الله يعني جعله سببا مثل ما يجعل لابس التميمة أو لابس الحلقة أو لابس الخيط جعل تلك الأشياء سببا.

فإذا أخذ تراب القبر ونثره عليه لاعتقاده أن هذا التراب مبارك وإذا لامس جسمه فإن جسمه يتبارك من جهة السببية فهذا شرك أصغر؛ لأنه ما صرف عبادة لغير الله جل علا ولكن اعتقد ما ليس سببا مأذونا به شرعا سببا، وأما إذا تمسح بها كما هي الحال الأولى تمسح بها وتمرغ والتصق بها لتوصله إلى الله -جل وعلا- فهذا شرك أكبر مخرج من الملة.

ولهذا قال الشيخ سليمان كما ذكرت لك: إن كان التبرك شركا أكبر فظاهر في الاستدلال بالآية وإن كان التبرك شركا أصغر فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على ما يريدون من الاستدلال في مسائل الشرك الأصغر قال: وقول الله -تعالى-: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى هذه الثلاث ذكرت لكم من قبل أن الهمزة - همزة الاستفهام - إذا أتى بعدها فاء فإنه يكون بينها وبين الفاء جملة دل عليها السياق فمن أول سورة النجم إلى هذا الموضع يدل على المحذوف قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى اللات هذه صخرة بيضاء عند أهل الطائف، وما هدمت إلا بعد أن أسلمت ثقيف أرسل لها النبي -صلى الله عليه وسلم- المغيرة بن شعبة فهدمها وكسرها وكان عليها ولها سدنة ولها قدم، المقصود أن اللات صخرة وصفت بأنها بيضاء.

وفي قراءة ابن عباس وغيره من السلف قرءوها "اللاتّ" أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ واللاتّ هذا رجل كان يلت السويق وكان يعطيهم السويق في رواية على صخرة فعظموا تلك الصخرة، وفي رواية أخرى يعني عن السلف أنه كان يلتّ لهم السويق فلما مات عكفوا على قبره، فتحصل من هذا أن اللاتَ صخرة، وإذا قرئت اللاتّ فيكون قبرا أو صخرة كان يتعبد عندها ويتصدق ذاك الذي كان يلتّ السويق.

والعزى شجرة كانت بين مكة والطائف، وكانت في الأصل شجرة ثم بنى بناء على ثلاث سمرات، وكانت هناك له سدنة وكانت امرأة كاهنة هي التي تخدم ذلك الشرك، ولما فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة أرسل إليها خالد بن الوليد فقطع الأشجار الثلاث السمرات الثلاث، وقتل من قتل فلما رجع وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع فرآه السدنة ففروا إلى الجبل ثم رأى امرأة ناشرة شعرها عريانة هي الكاهنة التي كانت تخدم ذلك الشرك وتحضر الجن لإضلال الناس في ذلك الموضع فرآها فعلاها بالسيف حتى قتلها فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: تلك العزى .

المقصود أن العزى اسم لشجرة كانت في ذلك الموضع، وفي الحقيقة تعلق الناس كان بتلك الشجرة وبالمرأة التي كانت تخدم ذلك الشرك فلو قطعت الأشجار وبقيت المرأة فإن المرأة ستغري الناس مرة أخرى بما تذكره لهم أو ما تحكيه لهم أو ما تجيب به مطالبهم عن طريق الجن فيكون الشرك ما انقطع، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: تلك العزى يعني في الحقيقة هي المرأة التي تغري الناس بذلك وإلا فهي شجرة كذلك مناة قال: وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى الأخرى يعني الوضيعة الحقيرة، مناة هذه أيضا هي صخرة سميت مناة لكثرة ما يمنى عليها من الدماء تعظيما لها وجه مناسبة الآية للترجمة أن اللات صخرة ومناة صخرة والعزى شجرة، وما كان يفعله المشركون عند هذه الثلاث هو عين ما يفعله المشركون في الأزمنة المتأخرة عند الأشجار والأحجار والثيران والقبور، ومن قرأ شيئا مما يصنعه المشركون علم غربة الإسلام في هذه البلاد قبل هذه الدعوة وأن الناس كانوا على شرك عظيم.

وإذا تأملت أحوال ما حولك من البلاد التي ينتشر فيها الشرك وجدت من اتخاذ الأشجار والأحجار آلهة ويتبرك بها الشيء الكثير أعظم من ذلك اتخاذ القبور آلهة يتوجه إليها ويتعبد عندها ثم ساق حديث أبي واقد الليثي قال عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لتركبن سنن من كان قبلكم رواه الترمذي وصححه هذا الحديث حديث صحيح عظيم.

والمشركون كانت لهم سدرة شجرة لهم معها اعتقاد أو لهم فيها اعتقاد، واعتقادهم فيها يشمل ثلاثة أشياء:

الأول: أنهم كانوا يعظمونها.

الثاني: أنهم كانوا يعكفون عندها.

الثالث: أنهم كانوا ينوطون بها الأسلحة رجاء نقل البركة من الشجرة إلى السلاح حتى يكون أمضى وحتى يكون خيره لحامله أكثر.

وفعلهم هذا شرك أكبر؛ لأنهم عظموها وعكفوا عندها والعكوف عبادة وهو ملازمة الشيء على وجه التعظيم والقربة، والثالث أنهم طلبوا منها البركة فصار شركهم الأكبر؛ لأجل هذه الثلاث مجتمعة الصحابة -رضوان الله عليهم- قالوا: يعني من كانوا حديثي عهد بكفر قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ظنوا أن هذا لا يدخل في الشرك وأن كلمة التوحيد لا تهدم بهذا الفعل.

ثم ساق حديث أبي واقد الليثي قال: عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، و للمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لتركبن سنن من كان قبلكم رواه الترمذي وصحَّحه، هذا الحديث حديث صحيح عظيم.

والمشركون كانت لهم سدرة شجرة لهم معها اعتقاد، أو لهم فيها اعتقاد، اعتقادهم فيها يشمل ثلاثة أشياء:

الأول: أنهم كانوا يعظمونها.

الثاني: أنهم كانوا يعكفون عندها.

الثالث: أنهم كانوا ينوطون بها الأسلحة رجاء نقل البركة من الشجرة إلى السلاح حتى يكون أمضى، وحتى يكون خيره لحامله أكثر.

وفعلهم هذا شرك أكبر؛ لأنهم عظموها وعكفوا عندها، والعكوف عبادة، وهو ملازمة الشيء على وجه التعظيم والقربة، والثالث: أنهم طلبوا منها البركة، فصار شركهم الأكبر لأجل هذه الثلاث مجتمعة.

الصحابة -رضوان الله عليهم- قالوا يعني: من كانوا حديثي عهد بكفر، قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ظنوا أن هذا لا يدخل في الشرك، وأن كلمة التوحيد لا تهدم هذا الفعل؛ لهذا قال العلماء: قد يغيب عن بعض الفضلاء بعض مسائل الشرك؛ لأن الصحابة، وهم أعرف الناس باللغة، هؤلاء الذين كان إسلامهم بعد الفتح خفيت عليهم بعض أفراد توحيد العبادة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الله أكبر! إنها السنن، قلتم - والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ .

شبه -عليه الصلاة والسلام-، وانتبه لهذا، شبَّه المقالة بالمقالة، معلوم أن أولئك عبدوا غير الله، عبدوا ذات الأنواط، وأما أولئك فإنما طلبوا بالقول، والنبي -عليه الصلاة والسلام- شبه القول بقول قوم موسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ولم يفعلوا ما طلبوا، ولما نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- انتهوا، ولو فعلوا ما طلبوا لكان شركا أكبر، لكن لما قالوا وطلبوا دون فعل صار قولهم شركا أصغر؛ لأنه كان فيه نوع تعلق بغير الله -جل وعلا-؛ لهذا نقول: إن أولئك الصحابة الذين طلبوا هذا الطلب لما نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- انتهوا، فهم لا يعلمون أن هذا الذي طلبوه غير جائز، وإلا فلا يظن بهم أنهم يخالفون أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويرغبون في معصيته، فإذن صار الشرك في مقالهم، وأما الفعل فلم يفعلوا شيئا من الشرك.

وهذا الذي قالوه قال العلماء: هو شرك أصغر، وليس بشرك أكبر؛ ولهذا لم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بتجديد إسلامهم دل على ذلك قوله: قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى فشبَّه المقالة بالمقالة، وقد قال الشيخ -رحمه الله- في المسائل إنهم لم يكفروا، وأن الشرك منه أكبر، ومنه أصغر؛ لأنه لم يأمرهم -عليه الصلاة والسلام- بتجديد الإسلام.

ظاهر من هذا أن الشرك الأكبر الذي كان فيه المشركون لم يكن راجعا إلى التبرك بذات الأنواط فقط، وإنما كان بالتعظيم، والعكوف، والتبرك بالتعليق، وقد قلت لك: إن التبرك بالشجر والحجر، ونحو ذلك إذا كان فيه اعتقاد أن هذا الشيء يقرب إلى الله، وأنه يرفع الحاجة إلى الله، أو أن تكون حاجاتهم أرجى إجابة، وأمورهم أحسن إذا تبركوا بهذا الموضع، فهذا شرك أكبر، وهذا الذي كان يصنعه أهل الجاهلية؛ لهذا قلت لك: إن فعلهم يشمل ثلاثة أشياء:

التعظيم، والتعظيم عبادة، وهذا لا يجوز إلا لله، تعظيم أن هذا يتوسل ويتوسط لهم عند الله -جل وعلا-، وهذا لا يجوز، وهو من أنواع العبادة، واعتقاد شركي.

والثاني: أنهم عكفوا عندها ولازموا، والعكوف والملازمة نوع عبادة فإذا عكف ولازم تقربا، ورجاء، ورغبة، ورهبة، ومحبة، فهذا نوع من العبادة.

والثالث: التبرك، فإذن يكون الشرك الأكبر ما ضم هذه الثلاث، وإذا تأملت ما يصنعه عباد القبور، والخرافيون في الأزمنة المتأخرة، وفي زماننا هذا، وجدت أنهم يصنعون كما كان المشركون الأولون يصنعون عند اللات، وعند العزى، وعند مناة، وعند ذات أنواط، فإنهم يعتقدون في القبر، بل يعتقدون في الحديد الذي يسيج به القبر، فالمَشَاهد المختلفة في البلاد التي يفشو فيها الشرك، أو يظهر فيها الشرك تجد أن الناس يعتقدون في الحائط الذي على القبر، أو في الشباك الحديدي الذي يحيط بالقبر، فإذا تمسَّحوا به كأنهم تمسحوا بالمقبور، واتصلت روحهم بأنه سيتوسط لهم؛ لأنهم عظموه هذا شرك أكبر بالله -جل وعلا-؛ لأنه رجع إلى تعلق القلب بجلب النفع، وفي دفع الضر بغير الله -جل وعلا-، وجعله وسيلة إلى الله -جل وعلا-، كفعل الأولين الذين قال الله فيهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى .

وأما الحالة الأخرى التي نبهتك في أول المقام عليها من أنه يجعل بعض التمسحات أسبابا، مثل ما ترى بعض الناس الجهلة يأتي في الحرم، ويتمسح بأبواب الحرم الخارجية، أو ببعض الجدران، أو ببعض الأعمدة، فهذا إن ظن أن ثَمَّ روحا في هذا العمود، أو هناك أحد مدفون بالقرب منه، أو ثم من يسكن هذا العمود من الأرواح الطيبة -كما يقولون- فتمسح لأجل أن يصل إلى الله -جل وعلا- فهذا شرك أكبر.

وأما إذا تمسح باعتقاد أن هذا المكان مبارك، وأن هذا سبب قد يشفيه … - دائما يكثر يا إخوان، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا ضرر، ولا ضرار والأذية لا تجوز حرام، يأتي يطلب علما مستحبا أو واجبا، وثم مفسدة على غيره من المسلمين، ربما يكون ثم مريض أراد أن ينقل إلى المستشفى، أو حاجة ضرورية تفوت، فهو يفوت على إخوانه المصلحة لأجل مصلحته هو، هذا لا شك أنه لا يجوز، فحاذروا من ذلك، لو أوقفتم السيارات بعيدا، وجئتم تمشون، فهذا أبرأ لذممكم، وأبعد من التأثم-.

إذا كان يتمسح بجعله سببا هذا يكون شركا شرك أصغر، وإذا كان تعلق قلبا بهذا المتمسح به، أو المتبرك به، وعظمه ولازمه، واعتقد أن ثمة روحا هنا، أو أنه يتوسل به إلى الله، فإن هذا شركا أكبر.

قال بعد ذلك: باب: ما جاء في الذبح لغير الله -يعني: من الوعيد- وأنه شرك، باب: ما جاء في الذبح لغير الله من الوعيد، وأنه شرك بالله -جل وعلا-، وقول الشيخ -رحمه الله-: باب: ما جاء في الذبح لغير الله، الذبح معروف، وهو إراقة الدم، ولغير الله: اللام هذه يعني: متقربا به إلى غير الله، ذبح لأجل غير الله، والذبح فيه شيئان مهمان، وهما نكتة هذا الباب وعقدته، الأول: الذبح بسم الله، أو الذبح بالإهلال باسم ما، والثاني: أن يذبح متقربا لما يريد أن يتقرب إليه؛ فإذن ثَمَّ تسمية، وثم القصد.

أما التسمية فظاهر أن ما ذكر عيه اسم الله فإنه جائز فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وأما ما لم يذكر اسم الله عليه فهذا الذي أُهِلَّ لغير الله، يعني: ذكر غير اسم الله عليه، هذا أهل لغير الله به، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ التسمية على الذبيحة من جهة المعنى استعانة، فإذا سمَّى الله فإنه استعان في هذا الذبح بالله -جل وعلا-؛ لأن الباء في قولك: بسم الله يعني: أذبح متبركا ومستعينا بكل اسم لله -جل وعلا-، أو بالله -جل وعلا- الذي له الأسماء الحسنى.

فإذن جهة التسمية جهة استعانة، وأما القصد فهذه جهة عبودية، ومقام فذبح باسم الله لله كانت الاستعانة بالله، والقصد من الذبح أنه لوجه الله، تقرب لله -جل وعلا- فصارت الأحوال عندنا أربعة:

الأولى: أن يذبح باسم الله، لله، وهذا هو التوحيد.

والثانية: أن يذبح باسم الله لغير الله، وهذا شرك في العبادة.

والثالثة: أن يذبح باسم غير الله لغير الله، وهذا شرك في الاستعانة، وشرك في العبادة -أيضا-.

والرابع: أن يذبح بغير اسم الله، ويجعل الذبيحة لله، وهذا شرك في الربوبية.

فإذن الأحوال عندنا أربعة، إما أن يكون تسمية مع القصد لله -جل وعلا- وحده، وهذا هو التوحيد، وهو العبادة، فالواجب أن يذبح لله قصدا تقربا، وأن يسمي الله -جل وعلا- على الذبيحة، فإن لم يسم الله -جل وعلا-، وترك التسمية عمدا، فإن الذبيحة لا تحل، وإن لم يقصد بالذبيحة التقرب إلى الله -جل وعلا-، ولا التقرب لغيره، وإنما ذبحها لأجل أضياف عنه، أو لأجل أن يأكلها، يعني: ذبحها لقصد اللحم، لم يقصد بها التقرب، فهذا جائز، وهو من المأذون فيه؛ لأن الذبح لا يشترط فيه أن ينوي الذابح التقرب بالذبيحة إلى الله -جل وعلا-.

فإذا صار عندك المسألة الأولى، أو الحالة الأولى مهمة أن تعلم أن ذكر اسم الله على الذبيحة واجب، وأن يكون قصدك بالتقرب بهذه الذبيحة -إن نويت بها تقربا- أن يكون لله لا لغيره، وهذا مثل ما يذبح من الأضاحي، أو يذبح من الهدي، أو نحو ذلك مما يذبحه المرء تعظيما لله -جل وعلا-، عقيقة، ونحو ذلك مما أمر به شرعا، فهذا تذبحه لله، يعني: تقصد التقرب لله بهذه الذبيحة، فهذا من العبادات العظيمة التي يحبها الله -جل وعلا-، وهي عبادة النحر والذبح.

قد يذبح باسم الله، ولكن يقول: أريدها للأضياف، أريدها للحم، آكل لحما، ولم أتقرب بها لغير الله، أيضا لم أتقرب بها لله، فنقول: هذه الحالة جائزة؛ لأنه سمى باسم الله، ولم يذبح لغير الله، فليس داخلا في الوعيد، ولا في النهي، بل ذلك من المأذون فيه.

الحالة الثانية: أن يذبح باسم الله، ويقصد بالتقرب أن هذه الذبيحة لغير الله، فيقول -مثلا-: باسم الله، وينحر الدم، وهو ينوي بإزهاق النفس، وبإراقة الدم ينوي التقرب لهذا العظيم المذكور، لهذا النبي، أو لهذا الصالح فهو ولو ذبح باسم الله، فإن الشرك حاصل من جهة أنه أراق الدم تعظيما للمذكور، تعظيما لغير الله، كذلك يدخل فيه أن يذكر اسم الله على الذبيحة، أو على المنحور، ويكون قصده بالذبح أن يتقرب به للسلطان، أو للملوك، أو لأمير ما، وهذا يحدث عند بعض البادية.

وكذلك بعض الحضر إذا أرادوا أن يعظموا ملكا قادما، أو أميرا قادما، أو أن يعظموا سلطانا، أو شيخ قبيلة، فإنهم يستقبلونه بالجمال، يستقبلونه بالبقر، يستقبلونه بالشياه يعني: بالضأن والخرفان، ويذبحونها في وجهه؛ فيسيل الدم عند إقباله هذا ذبح، ولو سمى الله عليه، ولكن تكون الذبيحة قصد بها غير الله -جل وعلا-، وهذه أفتى العلماء بتحريمها؛ لأن فيها إراقة دم لغير الله -جل وعلا- فلا يجوز أكلها، ومن باب أولى قبل ذلك لا يجوز تعظيم أولئك بمثل هذا التعظيم؛ لأن إراقة الدم إنما يعظم به الله -جل وعلا- وحده؛ لأنه هو الذي -سبحانه- يستحق العبادة، التعظيم بهذه الأشياء، وهو الذي أجرى الدماء في العروق -سبحانه وتعالى-.

الحالة الثالثة: أن يذكر غير اسم الله، وأن يقصد بالذبيحة غير الله -جل وعلا- فيقول -مثلا-: باسم المسيح، ويحرك يده، ويقصد بها التقرب للمسيح، فهذا الشرك جمع شركا في الاستعانة، وشركا في العبادة، أو أن يذبح باسم البدوي، أو باسم الحسين، أو باسم السيدة زينب، أو باسم العيدروس، أو باسم الميرغناني، أو نحو ذلك من الناس الذين توجه إليهم بعض الخلق بالعبادة، فيذبح باسمها، ويقصد بها هذا المخلوق، يعني: ينوي حين ذبح أن يريق الدم تقربا لهذا المخلوق، فهذا الشرك جاء من جهتين:

الجهة الأولى: جهة الاستعانة.

والجهة الثانية: جهة العبودية والتعظيم وإراقة الدم لغير الله -جل وعلا-.

والرابع: أن يذبح باسم غير الله، ويجعل ذلك لله -جل وعلا-، وهذا نادر، وربما حصل من أنه يذبح للمعظم يذبح للبدوي، أو يذبح للعيدروس، أو يذبح للشيخ عبد القادر أو مثل ذلك، ثم ينوي بهذا أن يتقرب إلى الله -جل وعلا-، وهذا في الحقيقة راجع إلى الشرك في الاستعانة، والشرك في العبادة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في معرض كلام له في هذه المسائل قال: "ومعلوم أن الشرك في العبودية أعظم من الاستعانة بغير الله، فهذه المراتب أعظمها كلها شرك بالله -جل وعلا-".

والحالة الثانية صورة منها أنه يذبح لسلطان، ونحوه بعض العلماء ما أطلق أنها شرك، وإنما قال: تحرم لأجل أنه لا يقصد بذلك تعظيم ذاك كتعظيم الله -جل وعلا-.

المقصود أن الشرك بقصد الذبح لغير الله شرك في العبودية، والشرك بذكر غير اسم الله على الذبيحة شرك في الاستعانة؛ ولهذا قال -جل وعلا-: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يعني: إن أطعتموهم في الشرك، فإنكم مشركون كما أنهم مشركون.

نكمل -إن شاء الله- بقية الباب غدا بإذن الله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأنبه على مسألة ألا وهي أن الكلام في مسائل التوحيد تقريرا أو استدلالا وبيان وجه الاستدلال من الأمور الدقيقة، والتعبير عنها يحتاج إلى دقة من جهة المعبِّر، وأيضا من جهة المتلقي.

أقول هذا لأن بعض الأخوة استشكلوا بالأمس وقبله واليوم -أيضا- بعض العبارات، ومدار الاستشكال أنهم ما دققوا فيما قيل، إما أن يحذفوا قيدا، أو يحذفوا كلمة، أو يأخذ المعنى الذي دل عليه الكلام، ويعبر عنه بطريقته، وهذا غير مناسب؛ لهذا ينبغي أن يكون المتلقي لهذا العلم دقيقا فيما يسمع؛ لأن كل مسألة لها ضوابطها، ولها قيودها، وأيضا بعض المسائل يكون الكلام عليها تارة مجملا، وفي بعض ما سمعه المتلقي يكون سمع أحد الأحوال، وهي فيها تفصيل، ويكون الكلام عليها من حيث الإجمال غير الكلام عليها من حيث التفصيل.

س: هذا سائل يقول: فضيلة الشيخ مما يقع فيه كثير من الناس أنه إذا حصل له أمر، ونجا منه، فإنه يجب عليه أن يتصدق.

ج: الصدقة في مثل هذا ليس لها حكم الوجوب، والشكر لله -جل وعلا- على نعمه، إذا نجي العبد من بلاء، أو حصلت له مسرة يكون تارة بالسجود، وتارة بالصلاة، أو بالصدقة شكرا لله -جل وعلا- على نعمه، وهذا كله من المستحب، وليس من الواجب إلا إذا كان ثم نذر، نذر أنه إن نجي من كذا وكذا، فإنه سيتصدق، فهنا يكون ألزم نفسه بعبادة ألا وهي الصدقة إذا حصل له كذا وكذا؛ فتكون واجبة بالنذر.

أما أصل الصدقة فهو مستحب، وإذا كانت في مقابلة نعمة، أو اندفاع نقمة، فهي -أيضا- مستحبة، وليست بواجبة لا تجب إلا إذا نذر، وتحقق المشروط، تحقق الشرط. نعم.

س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ إذا كان الذبح لا يجوز لدفع المرض فكيف نجمع بينه وبين الحديث: داووا مرضاكم بالصدقة ؟

ج: هذا أجبت عنه بالأمس.

س: وهذا يقول: عندنا عادة، وهي أنه من حصل بينه وبين شخص عداوة أو بغضاء بتعدٍ من أحدهما على الآخر، فيطلبون من أحدهما أن يذبح، ويسمون ذلك ذبح صلح، فيذبح ويحضرون من حصلت معه العداوة، فما حكم ذلك؟

ج: ذبح الصلح الذي تستعمله بعض القبائل في صورته المشتهرة المعروفة لا يجوز؛ لأنهم يجعلون الذبح أمام من يريدون إرضاءه، ويريقون الدم تعظيما له أو إجلالا لإرضائه، وهذا يكون محرما؛ لأنه لم يرق الدم لله -جل وعلا-، وإنما أراقه لأجل إرضاء فلان، وهذا الذبح محرم، والذبيحة -أيضا- لا يجوز أكلها؛ لأنها لم تهل، أو لم تذبح لله -جل وعلا-، وإنما ذبحت لغير الله، فإن كان الذبح الذي هذا صفته من جهة التقرب والتعظيم صار شركا أكبر، وإن لم يكن من جهة التقرب، والتعظيم صار محرما؛ لأنه لم يخلص من أن يكون لغير الله، فصار عندنا في مثل هذه الحالة، وكذلك في الذبح للسلطان، ونحوه في المسألة التي مرت علينا بالأمس أن يكون الذبح في مقدمه، وأن يراق الدم لقدومه وبحضرته، هذا قد يكون على جهة التقرب والتعظيم؛ فيكون الذبح حينئذ شركا أكبر بالله -جل وعلا-؛ لأنه ذبح وأراق الدم تعظيما للمخلوق، وتقربا إليه.

وإن لم يذبح تقربا ولا تعظيما، وإنما ذبح لغاية أخرى، مثل الإرضاء ولكنه شابه أهل الشرك فيما يذبحونه تقربا وتعظيما، فنقول: الذبيحة لا تجوز ولا تحل، والأكل منها حرام.

ويمكن للإخوة الذين يشيع عندهم في بلادهم، أو في قبائلهم مثل هذا المسمى ذبح الصلح، ونحوه أن يبدلوه بخير منه، وهو أن تكون وليمة للصلح، فيذبحون للضيافة يعني: يذبحون لا بحضرة من يريدون إرضاءه ويدعونهم ويكرمونهم، وهذا من الأمر المرغب فيه؛ فيكون الذبح كما يذبح المسلم عادة لضيافة أضيافه، ونحو ذلك.

س: وهذا يقول: هناك رجل في منطقتنا يأتي إليه الناس عند فقد أموالهم، فيعطيهم خيطا معقدا، ويقرأ عليه، ويطلب منهم أن يضعوه في المكان الذي فقده، فما حكم ذلك؟ وما حكم الصلاة خلفه؟

ج: هذا من الكهانة؛ لأن هذا الذي يعمل هذه الأشياء عراف، أو كاهن، وقد يكون ساحرا -أيضا-، فلا يجوز عمل مثل هذا العمل، ولا يحل لأحد أن يعين أحدا يدعي معرفة شيء من علم الغيب، والصلاة خلفه لا تجوز؛ لأن هذا إما أن يكون عرافا، أو كاهنا، أو ساحرا، وهؤلاء لا تجوز الصلاة خلفهم. نعم.

س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ما معنى قولهم: الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وكيف يكون كذلك، والشرك الأكبر يعتبر من الكبائر إذ هو أكبر الكبائر، فنرجو إزالة الإشكال؟

ج: هذا -أيضا- أوضحته بالأمس، وهو أن الكبائر قسمان: قسم منها راجع إلى جهة الاعتقاد، والعمل الذي يصحبه اعتقاد، وقسم منها راجع إلى جهة العمل الذي لا يصحبه اعتقاد، مثال الأول الذي يصحبه الاعتقاد أنواع الشرك بالله من الاستغاثة بغيره، ومن الذبح لغير الله، ومن النذر لغير الله، ونحو ذلك فهذه أعمال ظاهرة، ولكن هي كبائر يصحبها اعتقاد جعلها شركا أكبر، فهي في ظاهرها صرف عبادة لغير الله -جل وعلا-، وقام بقلب صاحبها الشرك بالله بتعظيم هذا المخلوق، وجعله يستحق هذا النوع من العبادة، إما على جهة الاستقلال، أو لأجل أن يتوسط.

والقسم الثاني: الكبائر العملية التي تُعْمَل لا على وجه اعتقاد مثل: الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، ونحو ذلك من الكبائر والموبقات، فهذه تعمل دون اعتقاد، وبهذا صارت الكبائر على قسمين، نقول: الشرك الأصغر، ومن باب أولى الشرك الأكبر هذا جنسه أكبر من الكبائر يعني: العملية، فأنواع الشرك الأصغر، ولو كان لفظيا مثل: قول ما شاء الله وشئت، ومثل الحلف بغير الله، أو نسبة النعم إلى غير الله، أو نسبة اندفاع النقم لغير الله -جل وعلا-، أو تعليق التمائم، ونحو ذلك، هذه من حيث الجنس أعظم من الكبائر، ومن حيث الجنس أعظم من كبائر العمل التي لا يصاحبه اعتقاد؛ وذاك لأن الأعمال تلك كالزنا، والسرقة، ونحوها من الكبائر العملية، هذه ليس فيها سوء ظن بالله -جل وعلا-، وليس فيها صرف عبادة لغير الله، أو نسبة شيء لغير الله جل، وإنما هي من جهة الشهوات، والأخرى هي من جهة الاعتقاد بغير الله، وجعل غير الله -جل وعلا- ندا لله -سبحانه وتعالى-، وأعظم الذنب أن يجعل المرء لله ندا، وهو خلقه -جل وعلا-.

س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ لماذا لم يبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- الشرك للصحابة قبل أن يقعوا فيه في حديث ذات أنواط ؟

ج: من المعلوم أن الشريعة جاءت بالإثبات المفصل، والنفي المجمل، والنفي إذا كان مجملا، فإنه يندرج تحته صور كثيرة، يدخلها من فهم النفي في الدلالة، فلا يحتاج مع النفي أن ينبه على كل فرد فرد؛ ولهذا نقول: من فهم لا إله إلا الله لم يحتج إلى أن يفصل له كل مسألة من المسائل.

فمثلا: النذر لغير الله ليس فيه الحديث النذر لغير الله شرك، والذبح لغير الله ليس فيه حديث الذبح لغير الله شرك، ونحو ذلك من الألفاظ الصريحة، وهكذا في العكوف عند القبور، أو العكوف والتبرك عند الأشجار والأحجار لم يأت فيها شيء صريح، ولكن نفي إلهية غير الله -جل وعلا- يدخل فيها عند من فهم معنى العبادة كل الصور الشركية؛ ولهذا الصحابة -رضي الله عنهم- فهموا ما دخل تحت هذا النفي، ولم يطلب ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط إلا من كان حديث عهد بكفر يعني: لم يسلم إلا قريبا، وهم قلة ممن كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسيره إلى حنين.

والإثبات يكون مفصلا، وتفصيل الإثبات تارة يكون بالتنصيص، وتارة يكون بالدلالة العامة من وجوب إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة -مثلا-: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ونحو ذلك من الآيات، والأدلة الخاصة بالعبادة كقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وكقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وكقوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ فهذه أدلة إثبات تثبت أن تلك المسائل من العبادات، وإذا كانت من العبادات فقول: لا إله إلا الله يقتضي بالمطابقة أنه لا تصرف العبادة إلا لله -جل وعلا-.

إذن فيكون ما طلبه أولئك من القول الذي لم يعملوا راجع إلى عدم فهمهم أن تلك الصورة داخلة فيما نفي لهم مجملا بقول: لا إله إلا الله.

س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ما حكم التبرك بالصالحين، وبماء زمزم، والتعلق بأستار الكعبة؟

ج: التبرك بالصالحين قسمان: تبرك بذواتهم بعرقهم بسؤرهم يعني: بقية الشراب بلعابهم الذي اختلط بالنوى -مثلا-، أو ببعض الطعام، أو التبرك بشعرهم، أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز، وهو من البدع المحدثة، وقد ذكرت لكم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعملون مع أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وهم سادة أولياء هذه الأمة شيئا من ذلك، وإنما فعله الخلوف الذين يفعلون ما لا يؤمرون، ويتركون ما أمروا به.

القسم الثاني: بركة عمل، وهي الاقتداء بالصالحين في صلاحهم، والاستفادة من أهل العلم، والتأثر بأهل الصلاح، وهذا أمر مطلوب، والتبرك بالصالحين بهذا المعنى مطلوب شرعا، أما التبرك بالذات -كما كان يفعل مع النبي صلى الله عليه وسلم- فهذا ليس لأحد إلا للنبي -عليه الصلاة والسلام-، أما التبرك بماء زمزم، فإن شرب ماء زمزم بما جاء به الدليل، ولما جاء به الدليل لا بأس به، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال في ماء زمزم: إنها طعام طعم، وشفاء سقم فمن شربها طعاما، أو شفاء سقم شرب بما دل عليه الدليل، كذلك شربها لغرض من الأغراض التي يريد أن يحققها لنفسه فهذا -أيضا- جائز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ماء زمزم لما شرب له .

فإذن أن يجعل ماء زمزم لأشياء يريدها، فهذا راجع إلى أنه سبب أذن به شرعا، ولو شرب ماء آخر -مثلا- ماء صحة، وأراد بشرب هذا الماء أن يحفظ القرآن، فيكون هذا اعتقادا خاطئا؛ لأن ما جاء فيه الدليل هو الذي يجعل ذلك السبب مؤثرا أو جائزا ليعتقد أنه مؤثر.

أما التعلق بأستار الكعبة رجاء البركة، فهذا من وسائل الشرك، ومن الشرك الأصغر -كما ذكرت لكم بالأمس- إذا اعتقد أن ذلك التبرك سبب، أما إذا اعتقد أن الكعبة ترفع أمره إلى الله، أو أنه إذا فعل ذلك عظم قدره عند الله، وأن الكعبة يكون لها شفاعة عند الله، أو نحو تلك الاعتقادات التي فيها اتخاذ الوسائل إلى الله -جل وعلا- فهذا يكون التبرك على ذاك النحو شرك أكبر؛ ولهذا يقول كثير من أهل العلم: إن أنواع هذا التبرك بحيطان المسجد الحرام، وبالكعبة، أو نحو ذلك، أو بمقام إبراهيم، التمسح بذلك رجاء البركة من وسائل الشرك، بل هو من الشرك، من وسائل الشرك الأكبر، بل هو من الشرك الأصغر كما قرر ذلك الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-.

س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ يوجد بعض الساعات مكتوب عليها لفظ الجلالة، فهل يجوز الدخول بها إلى الخلاء؟ وجزاكم الله خيرا.

ج: العلماء يقولون: ويكره دخوله الخلاء بشيء فيه ذكر الله، في آداب دخول الخلاء بالفقه، فاصطحاب شيء مما فيه ذكر الله إلى الخلاء مكروه. نكتفي.

نواصل الحديث على باب ما جاء بالذبح لغير الله، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: "وقول الله -تعالى-: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ هذه الآية فيها أن عبادة الصلاة، وعبادة النسك، وهو الذبح لله -جل وعلا-" وقال هنا: "قل إن" وإن من المؤكدات، ومجيء التأكيد في الجمل الخيرية معناه أن من خوطب بذلك منكر لهذا الأمر، أو منزل منزلة المنكر له؛ ولهذا يكون الاستدلال بهذه الآية على أنه خوطب بها من ينكر أن الصلاة لله وحده استحقاقا، وأن الذبح لله وحده استحقاقا، وهم المشركون، فدل على أن هذه الآية في التوحيد يعني: في توحيد الذبح لأجل الله -جل وعلا-، وأن الذبح لغيره مخالف لما يستحقه الرب -جل وعلا-.

قال هنا: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي والنسك هو الذبح، أو النحر يعني: التقرب بالدم، والتقرب بالدم لله -جل وعلا- عبادة عظيمة؛ لأن الذبائح أو المنحورات، الإبل، البقر، الغنم من الضأن، والماعز هذه مما تعظم في نفوس أهلها، ونحرها تقربا إلى الله -جل وعلا-، والصدقة بها عبادة عظيمة فيها إراقة الدم لله، وفيها تعلق القلب بحسن الثواب من الله -جل وعلا-، وفيها حسن الظن بالله -تبارك وتعالى-، وفيها التخلص من الشح، والرغب فيما عند الله -سبحانه- بإزهاق نفس ما هو عزيز عند أهله، وبهذا كان النحر والذبح عبادة من العبادات العظيمة التي يحبها الله -جل وعلا-.

وهذه الآية دلت على أن النحر والصلاة عبادتان؛ لأنه جعل النسيكة لله، والله -جل وعلا- له من أعمال خلقه العبادات؛ فلهذا صار وجه الدلالة أن قوله: "ونسكي" فيه دلالة على أن النسك عبادة من العبادات، وأنه مستحق لله -جل علا-.

قوله: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللام هنا المتعلقة بقوله: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي لام الاستحقاق؛ لأن اللام في اللغة، وفي ما جاء من الاستعمال في القرآن الكريم تأتي لام الملك: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يعني: يملكونها، أو تكون لام الاختصاص، وهو شبه الملك، أو تكون لام الاستحقاق مثل: الحمد لله، يعني: جميع أنواع المحامد مستحقة لله، كذلك اللام هنا قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي لله يعني: مستحقة لله -جل وعلا-، قال سبحانه: وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ وهنا وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ تكون اللام هذه مع أنها واحدة، لكن يكون معناها على الأول رجوعها للأول غير معناها برجوعها للمحيا والممات، فإن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية من آخر سورة الأنعام: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ والمحيا والممات يعني: الإحياء والإماتة، وهذه بيد الله -جل وعلا-، ولله ملكا فهو الذي يملكها -سبحانه وتعالى-؛ لأنها من أفراد ربوبيته -جل وعلا- على خلقه.

فهذه الآية بما اشتملت عليه من هذه الألفاظ الأربع دلت على توحيد الإلهية، وعلي توحيد الربوبية قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي هذا توحيد العبادة، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي هذا توحيد الربوبية، "لله" اللام إذا أرجعتها للأوليين الصلاة والنسك صار معناها الاستحقاق، وإذا أرجعتها للأخير صار معناها الملك؛ ولهذا يقول أهل التفسير هنا: قل إن صلاتي ونسكي لله استحقاقا، ومحياي ومماتي لله ملكا وتدبيرا وتصرفا.

قال: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وهذا وجه استدلاله الثالث، حيث قال: لَا شَرِيكَ لَهُ يعني: فيما مر، لا شريك له في الصلاة والنسك، فلا يتوجه بالصلاة والنسك إلى أحد مع الله -جل وعلا-، أو من دونه، وكذلك لا شريك له في ملكه في المحيا والممات، بل هو المتفرد -سبحانه- بأنواع الجلال وأنواع الكمال، وهو المستحق للعبادة، وهو ذو الملكوت الأعظم.

قال: وقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال جل وعلا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال:

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ فأمر بالصلاة، وأمر بالنحر، وإذا أمر به فهو داخل في حد العبادة؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة، والصلاة أمر بها الله -جل وعلا-، وهي محبوبة لديه إذن، والنحر أمر الله -جل وعلا- به، وهو محبوب ومرضي له؛ إذن فيكون النحر عبادة لله -جل وعلا-.

وفي التعريف الآخر أن العبادة هي كل ما يتقرب به العبد إلى الله -جل وعلا- ممتثلا به الأمر والنهي صادق على هذا؛ لأن النحر يعمل تقربا إلى الله -جل وعلا- بامتثال الأمر والنهي.

قال سبحانه: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ والكوثر هو الخير العظيم الذي منه النهر الذي في الجنة، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ الفاء هذه سببية يعني: بسبب ذلك اشكر الله -جل وعلا- بتوحيده بأن صل لربك الذي أعطاك ذلك الخير الكثير، وتقرب إليه بالنحر، وبنسك النسائك له سبحانه؛ لأن الخير إنما أسداه -جل وعلا- وحده.

إذن وجه الدلالة من هذه الآية على الباب أن النحر عبادة، وقد قال -جل وعلا-: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ يعني: وانحر لربك، فصار النحر لغير الله، والذبح لغير الله خارجا عما أمر الله به، فهو -إذن- صرف للعبادة لغير الله -جل وعلا-.

قال -رحمه الله-: وعن علي -رضي الله عنه- قال: حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض رواه مسلم، الشاهد من هذا قوله: لعن الله من ذبح لغير الله وهذا وعيد يدل على أن الذابح لغير الله ملعون، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله -جل وعلا-، فإذا كان الله هو الذي لعن؛ فيكون قد طرد وأبعد من رحمة الله الخاصة، يكون -جل وعلا- قد طرد وأبعد هذا الملعون من رحمته -جل وعلا- الخاصة.

أما الرحمة العامة فهي تشمل المسلم والكافر، وجميع أصناف الخلق، وإن كان دعاؤنا باللعن عليه لعن الله من ذبح لغير الله كأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال داعيا على من ذبح لغير الله -جل وعلا- باللعن، وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله -جل وعلا-، هذا يدل على أن الذبح لغير الله من الكبائر، ومن المع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 7:27 am

باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير
بسم الله الرحمن الرحيم

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله، وقول الله -تعالى-: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ وعن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- قال: نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. قال: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.


--------------------------------------------------------------------------------


قال الإمام -رحمه الله-: باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله، وقوله هنا: "لا يذبح لله" هذا على جهة النفي المشتمل على النهي؛ لأن من أساليب اللغة العربية أنه يترك صراحة النهي إلى صريح النفي؛ ليدل بدلالة أبلغ على أن النفي والنهي جميعا مقصودان، فكأنه لا يصح أن يقع أصلا؛ ولهذا أتى بصيغة النفي باب: "لا يذبح لله…" وقال بعض أهل العلم: يحتمل أن تكون على وجه النهي باب: "لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله" وقوله: لله، لا يذبح لله، يعني: أن تكون النسيكة، أو أن تكون الذبيحة مراد بها وجه الله -جل وعلا- بمكان يذبح فيه لغير الله.

قال الإمام: بمكان، والباء هنا لها معنى زائد على كلمة في، وهذا المعنى الزائد أنها أفهمت معنى الطريقة، ومعنى المجاورة جميعا؛ لأن الباء تكون للمجاورة -أيضا- كما تقول: مررت بزيد يعني: بمكان قريب من مكان زيد، أو بمكان مجاور لمكان زيد، والظرفية في "في" تفيد أنه في نفس المكان، واستعمال حرف الباء يفيد أنه مجاور لذلك المكان، وهذان المعنيان جميعا مقصودان، وهو أنه لا يذبح لله بمجاورة المكان الذي يذبح فيه لغير الله، ولا في نفس المكان الذي يذبح فيه لغير الله؛ لأن الجميع فيها اشتراك مع الذين يذبحون لغير الله -جل وعلا.

قال هنا: باب: "لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله" صورة المسألة أن مكانا ما يذبح فيه لغير الله -مثلا- عند قبر، أو عند مشهد، أو عند مكان معظم المشركين، أو الترابيين اعتادوا أن يكون هذا المكان مما يتقربون فيه بالذبح لهذا الصنم، أو الوثن، أو القبر، أو البقعة إلخ، فإذا كانوا يتقربون لهذا المكان للقبر، أو نحوه، ويذبحون لصاحب هذا القبر يعني: من أجله، فإنه لا يحل أن يذبح المسلم الموحد في هذا المكان، ولو كانت ذبيحته مخلصا بها لله -جل وعلا-؛ لأنه يكون قد شابه أولئك المشركين في تعظيم الأمكنة التي يتعبدون فيها بأنواع العبادات، ويصرفونها لغير الله -جلا وعلا-.

فالذبح لله وحده دون ما سواه بإخلاص في المكان الذي يتقرب فيه لغير الله لا يحل، ولا يجوز بل هو من وسائل الشرك، ومما يغري بتعظيم ذلك المكان، وحكمه أنه محرم، ووسيلة من وسائل الشرك.

قال الشيخ -رحمه الله، ورفع درجاته في الجنة-: وقول الله -تعالى-: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا هذا النهي عن القيام في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ مسجد الضرار أقيم إرصادا ومحادة لله ولرسوله، وتفريقا بين المؤمنين، فهو مكان أقيم على الخيانة، وعلى مضادة الإسلام وأهله؛ فلهذا لما كانت هذه هي غاية من أقامه، فإن مشاركتهم فيه بالصلاة لا تجوز؛ لأنه إقرار لهم، أو تكثير لسوادهم، وإغراء للناس بالصلاة فيه؛ فنهى الله -جل وعلا- نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ونهى المؤمنين عن أن يصلوا في مسجد الضرار.

مناسبة الآية للباب ظاهرة، وهو أن الله -جل وعلا- نهى عن أن يصلي النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجد الضرار، ومعلوم أن صلاته -عليه الصلاة والسلام-، وصلاة المؤمنين معه هي خالصة لله -جل وعلا- دون من سواه، ونهوا مع أنهم مخلصون، ليس عندهم نية الإغراء، ولا التفريق، ولا الإرصاد، لكن نهوا لأجل هذه المشاركة، والمشابهة التي تغري بإتيان ذلك المكان، وهذه هي الصورة الموجودة في من ذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله، فإنه وإن كان مخلصا لكن دعا إلى تعظيم ذلك المكان بفعله.

هنا إشكال أو إيراد، وهو أنه جاء الإذن عن الصحابة بالصلاة بالكنيسة، وقد صلى عمر -رضى الله عنه- في كنيسة بيت المقدس، والصحابة -رضوان الله عليهم- منهم من صلى في بعض كنائس البلاد، فصلاتهم في الكنائس لله -جل وعلا- أليست مشابهة للصلاة في مسجد الضرار؟ أو للذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله ؟.

الجواب: أن هذا الإيراد ليس بوجيه، ذلك أن النهي عن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجد الضرار، وعن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله هذا لأجل أن صورة العبادة واحدة، فصورة الذبح من الموحد، ومن المشرك واحدة، وهي إمرار السكين آلة الذبح على الموضع، وإزهاق الدم في ذلك المكان، وهذا يحصل من الموحد، ومن المشرك غير الموحد، فالصورة واحدة؛ ولهذا لا يميز بين هذا وهذا، كذلك صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- لو صلى، والصحابة في مسجد الضرار، صلاتهم مشابهة من حيث الصورة لصلاة المنافقين، فرجع الاختلاف إلى اختلاف ما في القلب، والنيات ومقاصد القلوب لا تشرح للناس بهذا تقع المفسدة، ولا تحصل المصلحة.

وأما الصلاة في الكنيسة فإن صورة الفعل مختلفة؛ لأن صلاة النصارى ليست على هيئة وصورة صلاة المسلمين، فيعلم من رأى المسلم يصلي أنه لا يصلي صلاة النصارى، وليس فيه إغراء بصلاة النصارى، ومشاركتهم فيها، فهذا الفرق بين المسألتين.

قال: وعن ثابت بن الضحاك -رضى الله عنه- قال: نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.

هذا الحديث فيه أن رجلا نذر أن ينحر إبلا ببوانة، بوانة: اسم موضع نذر أن ينحر في هذا الموضع، والنبي -عليه الصلاة والسلام- استفصله؛ لأن المقام يقتضي الاستفصال، يتبادر إلى الذهن لِمَ خص هذا الرجل بوانة بأن ينحر فيها الإبل؟ لِمَ؟ قد يكون لأن فيها عيدا من أعيادهم؛ أو لأن فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد، أو كان في ذلك الموضع؛ لأن التخصيص في الغالب يكون لغرض العبادة، بهذا استفصله النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا هذا السؤال يدل على أنه لو تخلف هذا الوصف لم يجز، لو وجد هذا الوصف، وهو أنه كان ثم وثن من أوثان الجاهلية يعبد لم يجز النحر في ذلك الموضع، وهو المراد من إيراد هذا الحديث في الباب هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا نستفيد من ذلك أنه لو كان فيها وثن لمنع ذلك الرجل من النحر، وهو دلالة الترجمة.

قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم العيد هو المكان، أو الزمان الذي يعود، أو يعاد إليه، فالعيد يكون مكانيا؛ لأنه اسم للمكان الذي يعتاد المجيء إليه، ويرجع في وقت معتاد؛ ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في المكان: لا تجعلوا قبري عيدا يعني: هذا المكان لا تجعلوه مكانا تعتادون المجيء إليه، وكذلك الأزمنة تكون أعيادا؛ لأنها تعود في وقت معين، فقوله: هل كان فيها عيد من أعيادهم يعني: عيد مكاني؛ لأنه قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم فيحتمل -أيضا- أن يكون عيدا زمانيا، وأعياد المشركين من جهة الأمكنة، أو الأزمنة معلوم أنها راجعة إلى أديانهم، ودينهم شركي.

فإذن يكون المعنى أنهم يتعبدون في تلك الأعياد بعباداتهم الشركية، ومن تلك الأعياد، أو مما يفعل في أعياد المشركين، وأعظم ما يفعل التقرب بالذبح وإراقة الدماء؛ فدل على أن مشاركة المشركين في مكان يتقربون فيه لغير الله بصورة مشابهة لفعلهم ظاهرا أن هذا لا يجوز؛ لأنه مشاركة لهم في الفعل الظاهر، ولو كان مخلصا لا يذبح إلا لله، أو لا يصلي إلا لله -جل وعلا-.

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله قال العلماء: قوله: هنا فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ترتيب ما بعد الفاء على ما قبلها بالفاء، يدل على أن سبب الإذن بالوفاء بالنذر أن ما قبله ليس بمعصية، والاستفصال يدل على أن الذبح لله في مكان فيه وثن يعبد، أو في عيد من أعياد المشركين يدل ذلك على أنه معصية لله -جل وعلا-، وبهذا يستقيم ما أراده الشيخ -رحمه الله- من الاستدلال والاستشهاد بهذا الحديث تحت ذلك الباب.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب من الشرك النذر لغير الله   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 7:33 am

باب من الشرك النذر لغير الله
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- باب: "من الشرك النذر لغير الله -تعالى-، وقول الله -تعالى-: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وقوله: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه .


--------------------------------------------------------------------------------


قال: باب: "من الشرك النذر لغير الله" "من الشرك" "من" هاهنا تبعيضية، من الشرك النذر، النذر مبتدأ مؤخر، النذر لغير الله كائن من الشرك، والشرك هنا المقصود به الشرك الأكبر، النذر لغير الله شرك أكبر بالله -جل وعلا-، ووجه كون النذر شركا بالله -جل وعلا- أن النذر المطلق والمقيد إيجاب عبادة على المكلف؛ لأن النذر هو إلزام المكلف نفسه بعبادة لله -جل وعلا-، هذه حقيقة النذر، فالنذر إلزام بالعبادة، فهو عبادة، ويلزم المرء نفسه بعبادة إما مطلقا، أو بقيد.

ويدل -أيضا- على أن النذر عبادة أن الله -جل وعلا- مدح الذين يوفون بالنذر، فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا فهذا يدل على أن الوفاء بالنذر أمر مشروع واجب، أو مستحب، وهو محبوب لله -جل وعلا-، يعني: من حيث الدلالة، وإلا فإن الوفاء بالنذر واجب؛ لأنه إلزام بطاعة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: من نذر أن يطيع الله فليطعه .

فإذن الوفاء بالنذر مدح الله أهله، وإذا كان كذلك فيكون عبادة؛ لأنه محبوب لله -جل وعلا-، وكذلك قوله: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ هذا يدل على محبة الله -جل وعلا- لذلك الذي حصل منهم تعظيما لله -جل وعلا- بالنذر، وإذا كان كذلك فإنه عبادة من العبادات، وإذا صرف النذر لغير الله -جل وعلا- كان شركا بالله -جل وعلا-.

وهاهنا سؤال معروف في هذا المقام، وهو أن النذر مكروه، قد كره النبي -صلى الله عليه وسلم- النذر، وسئل عنه فكرهه، وقال: إنه لا يأتي بخير فكيف -إذن- يكون عبادة، وقد كرهه -عليه الصلاة والسلام -؟.

والجواب: أن النذر قسمان: نذر مطلق، ونذر مقيد، والنذر المطلق هو أن يلزم العبد نفسه بعبادة لله -جل وعلا- هكذا بلا قيد، يعني: يقول -مثلا-: لله علي نذر أن أصلي ركعتين، ليس في مقابلة شيء يحدث له في المستقبل، أو شيء حدث له، فيلزم نفسه بعبادة صلاة، أو عبادة صيام، أو نحو ذلك، فهذا النذر المطلق، وهو إلزام العبد نفسه بطاعة لله -جل وعلا- أو بعبادة، ليس هو الذي كرهه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الذي كرهه وصفه بقوله: إنما يستخرج به من البخيل وهذا هو النذر المقيد الذي يجعل إلزام نفسه بطاعة لله -جل وعلا- مقابلا بشيء يحدثه الله -جل وعلا- له، ويقدره ويقضيه له.

يقول -مثلا-: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر أن أتصدق بكذا وكذا، إن نجحت فأصلي ليلة، إن عُينت في هذه الوظيفة، فسأصوم أسبوعا، ونحو ذلك، فهذا كأنه يشترط به على الله -جل وعلا- فيقول: يا رب إن أعطيتني كذا وكذا صمت لك، إن أنجحتني صليت أو تصدقت، إن شفيت مريضي فعلت كذا وكذا، وهذا بالمقابلة، وهذا هو الذي وصفه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: إنما يستخرج به من البخيل ؛ لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يقاضى عليها، فصار ما أعطاه الله من النعمة، أو دفع عنه من النقمة كأنه في حس ذلك الناذر قد أعطي الأجر، وأعطي ثمن تلك العبادة.

وهذا يستحضره كثير من العوام، والذين يستعملون النذور، فإنهم يظنون أن حاجاتهم لا تحصل إلا بالنذر، وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله-، وغيره من أهل العلم: إن من ظن أنه لا تحصل حاجة من حاجاته إلا بالنذر فإنه في اعتقاد محرم؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل، وهذا سوء ظن بالله -جل وعلا-، وسوء اعتقاد فيه -سبحانه وتعالى-، بل هو المتفضل المنعم على خلقه.

فإذن إذا تبين ذلك فالنذر المطلق لا يدخل في الكراهة، وإذا قلنا النذر عبادة، فننظر فيه إلى جهة المطلق، وإلى جهة عدم التقييد فيما إذا قيد، ووفَّى بالنذر، فإنه يكون قد تعبَّد الله بتلك العبادة، وألزم نفسه بها؛ فيكون النذر على ذلك نذرا يظهر أنه عبادة لله -جل وعلا-.

والكراهة إنما جاءت لصفة الاعتقاد لا لصفة أصل العبادة، فإنه في النذر المقيد إذا قال: إن كان كذا وكذا فلله علي نذر كذا، وكذا الكراهة راجعة إلى ذلك التقييد لا إلى أصل النذر، دل على ذلك التعليل حيث قال: فإنما يستخرج به من البخيل .

إذن فلا إشكال إذن، والنذر عبادة من العبادات العظيمة، وهنا قاعدة في أنواع الاستدلال على أن عملا من الأعمال صرفه لغير الله -جل وعلا- شرك أكبر، وذلك أن الاستدلال له نوعان، فكل دليل من الكتاب أو السنة فيه إفراد الله بالعبادة، يكون دليلا على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله، هذا نوع من الأدلة، كل دليل فيه إفراد لله -جل وعلا- بالعبادة يصلح أن تستدل به على أن عبادة ما لا يجوز صرفها لغير الله -جل وعلا-، بأن تقدم، بأن تقول: دل الدليل على وجوب صرف العبادة لله وحده، وعلى أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله -جل وعلا-، وأن من صرفها لغير الله -جل وعلا- فقد أشرك، وتلك العبادة الخاصة -مثلا- عندنا هنا النذر تقول: هذه عبادة من العبادات فهي داخلة في ذلك النوع من الأدلة.

والنوع الثاني من الاستدلال أن تستدل على المسائل بأدلة خاصة، وردت فيها، تستدل على الذبح بأدلة خاصة وردت في الذبح، تستدل على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه على أدلة خاصة بالاستغاثة، وعلى أدلة خاصة بالاستعانة، ونحو ذلك.

فإذن الأدلة على وجوب إفراد الله بجميع أنواع العبادة تفصيلا وإجمالا، وعلى أن صرفها لغير الله شرك أكبر يستقيم بهذين النوعين من الاستدلال، استدلال عام بكل آية، أو حديث فيها الأمر بإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك، فتدخل هذه الصورة فيها؛ لأنها عبادة بجامع تعريف العبادة.

والثاني أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة، بهذا قال الشيخ -رحمه الله- هنا: باب: "من الشرك النذر لغير الله" واستدل عليها بخصوص أدلة وردت في النذر، والآيات التي قدمها في أول الكتاب كقوله -جل وعلا-: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وكقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وكقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وكقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

هذه أدلة تصلح بأن تستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك، فتقول: النذر لغير الله عبادة، والله -جل وعلا- نهى أن تصرف العبادة لغيره، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك، وتقول: النذر عبادة؛ لأنه كذا وكذا؛ لأنه داخل في حد العبادة حيث إنه يرضاه الله -جل وعلا-، ومدح الموفين به.

الدليل الخاص أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر؛ ولهذا الشيخ هنا أتى بالدليل التفصيلي، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف، وفقه الأدلة الشرعية، من أن المستدل على مسائل التوحيد ينبغي له أن يدرك التنويع؛ لأن في تنويع الاستدلال، وإيراد الأدلة من جهة، ومن جهة أخرى، وثالثة، ورابعة ما يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله، وللشرك به -جل وعلا-، وإذا أتيت مرة بدليل عام، ومرة بدليل خاص، ونوَّعت فإنه يضيق، أما إذا كان ليس ثَمَّ إلا دليل واحد فربما أوَّله لك، أو ناقشك فيه؛ فيحصل ضعف عند المستدل، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم، وحفظ الأدلة، فإنه يقوى على الخصوم، والله -جل وعلا- وعد عباده بالنصر إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ .

وقد قال الشيخ -رحمه الله- في "كشف الشبهات": "والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين" وهذا صحيح فإن عند العوام الذين علموا مسائل التوحيد، وأخذوها عن أهلها عندهم من الحجج، ووضوح البينات

في ذلك ما ليس عند بعض المتعلمين.

قال: وقول الله -تعالى-: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وجه الاستدلال ظاهر، وهو أن الله -جل وعلا- مدح الموفين للنذر، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن هذه العبادة محبوبة له -جل وعلا-، وأنها مشروعة، وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات، فيكون صرفه لغير الله -جل وعلا- شرك أكبر.

كذلك قوله: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ دال على أن النذر عظَّمه الله -جل وعلا- بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وعظَّم أهله، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله -جل وعلا-.

قال: وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها-: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه .

قال: وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها-: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوجب الوفاء بالنذر، فقال: من نذر أن يطيع الله فليطعه وذلك إيجاب الوفاء بالنذر الذي يكون على طاعة، كأن يقول: لله عليَّ أن أصلي كذا أو كذا، وهذا يجب عليه أن يوفي بهذا النذر.

أو يكون نذرا مقيدا فيقول: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أتصدق بمائة ريال، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره لله جل وعلا.

وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة؛ لأن الواجب من أنواع العبادات، وأنَّ ما كان وسيلة إليه بأنه أيضا عبادة؛ لأن الوسيلة للوفاء بالنذر هو النذر؛ فلولا النذر لم يأت الوفاء، ومتى أوجب الوفاء لأجل أن المكلف هو الذي ألزم نفسه بهذه العبادة قال: ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه لأن إيجاب المكلف على نفسه معصية الله -جل وعلا- هذه معارِضة لنهي الله - جل وعلا- عن العصيان.

وإذا نذر العبد العصيان، فإن النذر كما هو معلوم في الفقه قد انعقد، ويجب عليه أن لا يفي بفعل تلك المعصية، لكن يجب عليه أن يكفر عن ذلك كفارة يمين، ومحل ذلك باب النذر في كتب الفقه.

المقصود من هنا أن استدلال الشيخ -رحمه الله- بالشق الأول، وهو قوله: من نذر أن يطيع الله فليطعه وهذا ظاهر، وذلك قوله من نذر أن يعصي الله فلا يعصه فأوجب عليه كفارة يمين، فهذا يدل على أن أصله منعقد، فإنه عُقِدَ لكونه عبادة، وإذا كانت عبادة فصرفُها لغير الله شرك أكبر به جل وعلا.

النذر لله -جل وعلا- عبادة عظيمة كما ذكرنا، والنذر لغير الله -جل وعلا- أيضا عبادة، فإذا توجه الناذر لغير الله بالنذر فقد عبده، وإذا توجه الناذر لله -جل وعلا- بالنذر فقد عبد الله -جل وعلا- فالنذر إذا كان لله أو كان لغير الله فهو عبادة، فإذا كان لله فهو عبادة لله -جل وعلا- وإذا كان لغير الله فهو عبادة لذلك الغير.

ونكتفي بهذا القدر، وأسأل الله -جل وعلا- لي ولكم الانتفاع، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب من الشرك أن يستغيث بغير الله، أو يدعو غيره   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 7:43 am

باب من الشرك أن يستغيث بغير الله، أو يدعو غيره
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: باب من الشرك أن يستغيث بغير الله، أو يدعو غيره وقول الله -تعالى-: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .

وقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقول الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ .

وقول الله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنه لا يُسْتَغَاث بي إنما يستغاث بالله .


--------------------------------------------------------------------------------


قوله: باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره. من الشرك -كما ذكرنا فيما سبق- يعني: الشرك الأكبر أن يستغيث يعني الاستغاثة؛ لأن "أنْ" مع الفعل تؤول بمصدر، باب من الشرك الاستغاثة بغير الله أو استغاثة بغير الله ودعاء أو دعوة غيره أو دعاء غيره.

وهذا ظاهر في أن الاستغاثة كما ذكرنا طلب، والطلب نوع من أنواع الدعاء؛ ولهذا قال العلماء: إن في قوله: أو يدعو غيره بعد أن يستغيث بغير الله فيه عطفا للعام على الخاص؛ ومن المعلوم أن الخاص قد يعطف على العام، وأن العام قد يعطف على الخاص.

وقوله: أن يستغيث بغير الله، هذا أحد أفراد الدعاء، كما ذكرنا بأن الاستغاثة طلب والطلب دعاء. أو يدعو غيره، هذا عام الذي يشمل الاستغاثة ويشمل الاستعاذة ويشمل أصناف، يشمل أصنافا كثيرة من أنواع الدعاء.

أن يستغيث، الاستغاثة هي طلب الغوث والغوث يحصل لمن وقع في شدة وكرب يخشى معه المضرة الشديدة، أو الهلاك فيقال: أغاثه إذا فزع إليه وأعانه على ما به وخلَّصه منه، كما قال جل وعلا في قصة موسى فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ يعني: من كان من شيعة موسى طلب الغوث من موسى على من كان عدوا لهما جميعا؛ فأغاثه موسى عليه السلام.

فإذن الاستغاثة طلب الغوث، وطلب الغوث لا يصلح إلا لله؛ إلا من الله فيما لا يقدر عليه إلا الله -جل جلاله- لأن الاستغاثة يمكن أن تطلب من المخلوق؛ لأنه يقدر عليها.

بعض العلماء يقول: نضبط ذلك بقولنا: الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ذلك المخلوق، وقال آخرون: الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهاتان مختلفتان والأصح منهما الأخيرة؛ لأن المرء إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، والمخلوق يعلم أن هذا لا يقدر عليه إلا الله، فإنه شرك أكبر بالله -جل وعلا- أو في حقيقة الأمر أنه لا يقدر عليه إلا الله.

أما قول من قال من أهل العلم: إن الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق في ما لا يقدر عليه، فإن هذا يرد عليه أن ثمة أشياء قد يكون في الظاهر يقدر عليها المخلوق، ولكن في الحقيقة لا يقدر عليها؛ فإذن يكون هذا الظاهر غير منضبط، لأن -مثلا- مَن وقع في شدة، وهو في غرق مثلا.

وتوجه لرجل يراه بأنه يغثيه فقال: أستغيث بك، أستغيث بك، أستغيث بك، وذاك لا يُحْسِن السباحة، ولا يُحْسِن الإنجاء من الغرق، فهذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق، فهل يكون شركا أكبر؟ لا، لِمَ؟ لأن الإغاثة عادة من الغرق ونحوه يصلح أن يكون المخلوق قادرا عليها، فيكون الضابط الثاني هو الصحيح، وهو أن يقال: الاستغاثة شرك بغير الله شرك أكبر إذا كان استغاث فيما لا يقدر عليه إلا الله.

أما إذا استغاث فيما يقدر عليه غير الله من المخلوقين، لكن هذا المخلوق المعين لم يقدر على هذا الشيء، فإنه لا يكون شركا؛ لأنه ما اعتقد في المخلوق شيئا لا يصلح إلا لله -جل جلاله- فإذن نقول: الاستغاثة بغير الله إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهي شرك أكبر، وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق، فهي جائزة كما حصل من صاحب موسى إذ استغاث بموسى عليه السلام.

قال: أو يدعو غيره. الدعاء -كما ذكرت لك- هو العبادة، والدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة. نعني بدعاء المسألة ما كان فيه طلب وفيه سؤال يرفع يديه لله -جل وعلا- ويدعو، هذا يسمى دعاء مسألة، وهو الذي يغلب عند عامة المسلمين في تسمية الذي إذا قيل: دعا فلان يعني سأل ربه جل وعلا.

والنوع الثاني: دعاء العبادة كما قال -جل وعلا-: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا يعني: لا تعبدوا مع الله أحدا، أو لا تسألوا مع الله أحدا، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الدعاء هو العبادة .

دعاء المسألة غير دعاء العبادة، دعاء العبادة كحال من صلى كحال من زكى، كل صنف من أصناف العبادة يقال له: دعاء، ولكنه دعاء عباده، قال العلماء: دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة. يعني أن من سأل الله جل وعلا شيئا فهو داعٍ دعاء مسألة وهذا متضمن أنه يعبد الله؛ لأن الدعاء دعاء المسألة أحد أنواع العبادة. فدعاء المسألة متضمن للعبادة؛ لأن الله جل وعلا يحب من عباده أن يسألوه.

دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة يعني: أن من صلى فيلزم من أنه أنشأ الصلاة أنه يسأل الله القبول، يسأل الله الثواب، فيكون دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، إذا تقرر ذلك فهذا التفصيل أو هذا التقسيم مهم جدا في الحجة في القرآن، وفي فهم الحجج التي يوردها أهل العلم؛ لأنه قد حصل من الخرافيين والداعين إلى الشرك أنهم يؤولون الآية التي في الدعاء بالمسألة، أو الآية التي في المسألة بالدعاء.

وإذا تبين لك ذلك يعني: ما ذكرنا فإنه لا انفكاك في الحقيقة بين دعاء المسألة ودعاء العبادة، فهذا هو ذاك إما بالتضمن أو باللزوم، ومعلوم أن دلالات التضمن واللزوم دلالات لغوية واضحة، جاءت في القرآن وجاءت في السنة.

ثم ساق الشيخ -رحمه الله- بعض الأدلة على أن الدعاء إنما يتوجه به إلى الله، وأن الاستغاثة إنما يتوجه بها إلى الله -جل وعلا- فيما لا يقدر عليه إلا الله.

قال: وقول الله تعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .

قال في أولها: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ وَلَا تَدْعُ هذا نهي، والنهي توجه إلى الفعل "تدع" وإذا كان كذلك فإنه يعم أنواع الدعاء، وقد ذكرت لك أن الدعاء منه دعاء مسألة، ومنه دعاء عبادة؛ لأن النكرة إذا جاءت في سياق النهي، أو في سياق النفي، أو في سياق الشرط فإنها تعم، و"تدع" نكرة لأنها فعل مشتمل على مصدر، والمصدر حدث نكر. فإذن هذا يعم نوعيْ الدعاء، وهذا مراد الشيخ، أو أحد مراداته من الاستدلال بهذه الآية.

ولا تدع من دون الله يعني: نهى الله -جل وعلا- أن تتوجه لغير الله بدعاء المسألة أو بدعاء العبادة يعني: بالطلب أو بأي نوع من أنواع العبادات، فلا طلب يصلح فيما لا يقدر عليه إلا الله إلا منه جل وعلا، يدخل في ذلك الاستعاذة، يدخل في ذلك الاستغاثة التي هي طلب الغوث، كذلك دعاء العبادة بأنواعه من الصلاة والزكاة والتسبيح، والتهليل، والسجود، وتلاوة القرآن لا تصلح إلا لله، كذلك الذبح، النذر.

وأعمال القلوب: التوكل، محبة العبادة، رجاء العبادة، خوف السر، أي كل أنواع العبادات هي من أنواع دعاء العبادة، فهذه الآية دلت على النهي أن يتوجه أحد إلى من هو دون الله -جل وعلا- بدعاء مسألة أو بدعاء عبادة، وكان أعظم هذا النهي أنه وُجِّهَ إلى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي هو إمام المتقين وإمام الموحدين.

قال: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذكرت لك من قبل أن قوله: مِنْ دُونِ اللَّهِ تشمل مع الله أو من دون الله في استقلاله. قال: مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ يعني: الذي لا ينفعك ولا يضرك، و"ما" تشمل العقلاء وغير العقلاء يعني: تشمل أن يدعى بها أن يعني بها الملائكة الأنبياء والرسل، ويعني بها الصالحون، أو يعني بها ما لا يعقل كالأصنام والأحجار والأشجار هذا من جهة دلالة اللغة.

قال الله -جل وعلا- لنبيه فَإِنْ فَعَلْتَ يعني: إن دعوت من دون الله أحدا وذلك الأحد موثوق بأنه لا ينفعك ولا يضرك فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وهذا إذا كان في حق النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي كمَّل الله له التوحيد، إذا حصل منه الشرك فإنه يصبح ظالما، ويصبح مشركا، وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك، فهذا تخويف لمن هو دونه ممن لم يُعْصَم ولم يُعْطَ العصمة من ذلك.

قال: فَإِنْ فَعَلْتَ يعني إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فَإِنَّكَ إِذًا يعني بسبب تلك الدعوة مِنَ الظَّالِمِينَ والظالمون جمع تصحيح للظالم، والظالم اسم فاعل الظلم، والظلم المراد به هنا الشرك كما قال -جل وعلا- إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ .

ثم قال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ الغرض من أن يسأل أحدٌ غيرَ الله فيه إنجاء ما به طلب كشف الضر، الغرض من أن تستغيث بغير الله طلب كشف الضر، الغرض من أن يستغيث بغير الله طلب كشف الضر؛ ولهذا ذكر الله -جل وعلا- القاعدة العامة في ذلك التي تقطع عروق الشرك من القلب حيث قال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ إذا مَسَّكَ الله بضر فمن يكشف الضر؟ يكشفه من قدره ومَن قضاه عليك.

فهذا يقطع التوجه لغير الله -جل وعلا- ولكن ما دام أنه علم فيما يقدر عليه البشر فيما يقدر عليه المخلوق أن يتوجه إليه بطلب الغوث، أو بطلب الاستسقاء، أو طلب السقيا أو نحو ذلك؛ فإنه يكون مما رخص فيه، والحمد لله.

قال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ "بضر" هنا أيضا نكرة جاءت في سياق الشرط فيعم جميع أنواع الضر، سواء كان ضرا في الدين، أو كان ضرا في الدنيا، سواء كان ضرا في الدنيا من جهة الأبدان، أو من جهة الأموال، أو من جهة الأولاد، أو من جهة الأعراض، أو من أيّ شيء فإن يمسسك الله بضر بأيّ نوع من أنواع الضر فلا كاشف له إلا هو.

في الحقيقة الذي يكشف الضر هو الله -جل وعلا- لا يكشف البلوى إلا الله -سبحانه وتعالى- وإذا كان المخلوق يقدر على ذلك الكشف فإنه من جهة أنه سبب جعله الله سببا يقدر على أن يكشف بإذن الله -جل وعلا- وإلا فالكاشف حقيقة هو الله -جل وعلا- والمخلوق، وإن كان يقدر، فإنما قدر بإقدار الله له؛ إذ هو سبب من الأسباب، فإذن لا يكشف على الحقيقة إلا الله -جل وعلا- وإذا تبين ذلك ظهر لك وجه استدلال المصنف بهذه الآية، ومناسبة الآية للترجمة من عدة جهات كما ذكرت.

قال: وقوله تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ الاستغاثة أو الدعاء من أعظم ما يتعلق به الخلق؛ إذا كان من جهة طلب الرزق؛ لأن طلب الرزق أعظم أسباب الحياة، فإذا لم يكن عنده رزق؛ فإنه يوشك على الهلاك؛ ولهذا ذكر الإمام هذه الآية التي فيها توحيد طلب الرزق، لم؟ لأن معظم حال المستغيثين إنما هي لطلب الرزق.

والرزق اسم عام يشمل كل ما يصلح أن يُرْزَق يعني أن يُمْنَح ويُعْطَى فيدخل في ذلك الصحة والعافية، يدخل في ذلك المال، يدخل في ذلك الطعام، يدخل في ذلك البيت، يدخل في ذلك الدواب، ويدخل في ذلك أنواع ما يحتاجه المرء.

قال: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أصل تركيب الكلام: فابتغوا الرزق عند الله؛ و "ابتغوا" فعل أمر، والرزق مفعول و"عند الله" الأصل أن يتأخر على المفعول فابتغوا الرزق عند الله، قال علماء المعاني من علوم البلاغة: إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الاختصاص فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ واجعلوا ذلك الابتغاء مختصا بالله -جل وعلا-.

هكذا يفهم العربي هذه الآية فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ يعني: فليكن ابتغاؤكم الرزق من عند الله وحده فلا تستغيثوا بغيره في طلب رزق، ولا تستنجدوا بغيره في طلب رزق، وإنما ذلك لله -جل وعلا- ثم قال: "واعبدوه" ليجمع أصناف السؤال بما يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.

ثم قال: وقوله: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ دلالة الآية ظاهرة في الدعاء؛ لأن الله قد قال: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ فهذا ظاهر بأن ثَمَّ داعٍ، وثَمَّ مَدْعُو، وذاك المدعو غير الله -جل وعلا- وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ .

وجه الدلالة من الآية أنه استعمل كلمة "يدعو" فجاء الوصف بأبشع الضلال على من دعا من دون الله أمواتا غير أحياء؛ والدليل على أنه أراد الأموات؛ ولم يرد الأصنام والأحجار والأشجار أنه قال: مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فجعل غاية الاستجابة إلى يوم القيامة المنع من الإجابة إلى يوم القيامة.

وهذه في الأموات؛ لأن الميت إذا كان يوم القيامة نشر وصار يسمع، وربما أجاب طلب من طلبه؛ إذ هو حي يكون في ذلك المقام حيا، وربما كان قادرا؛ وأما الميت مَن هو في البرزخ فهو الذي يصدق عليه وصف الله -جل وعلا- بقوله: مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

ولفظ "مَن" في اللغة الأصل فيها أنها للعقلاء؛ هكذا يقول النحاة، وتقول: إن الأصلح الأصح أن يقال: "من" الأصل فيها في اللغة لمَن يُعْرَف، يعني: عند علماء النحو يقولون: مَن للعقلاء، و"ما" لغير العقلاء، والأحسن أن نقول: مَن لمن يُعْلَم؛ لأنها يدخل فيها الله -جل وعلا- في بعض الآيات، فإذن مَن لمَن يصح أن يعلمه، وهؤلاء هم، مَن كانوا بشرا يخاطِبون ويخاطَبون ويَعلمون ويُعلم منهم.

قال: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وهذا الوصف ليس في الأصنام، وإنما هو في الأموات، ثم قال: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ولذلك قال -جل وعلا- في سورة النحل أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ .

قال: وقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ هذه الآية من سورة النمل فيها أن إجابة المضطر في الدعاء إنما هي لله -جل وعلا- قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ فهذا في دعاء المسألة. قال: وَيَكْشِفُ السُّوءَ وكشف السوء يكون تارة بالاستغاثة، وتارة بغير ذلك.

ولهذا يكون هذا القدر من الآية يصلح لما ترجم به المؤلف -رحمه الله- من اللفظين لفظ الاستغاثة، ولفظ الدعاء في قوله: وَيَكْشِفُ السُّوءَ هذا في الاستغاثة وفي قوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ هذا في دعوة غير الله معا، قال بعدها: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ وهذا الاستفهام إنكاري أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ينكر عليهم أن يتخذوا إله مع الله بأي شيء بأن يدعوا غير الله، أو يتوجهوا في كشف السوء لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ .

قال: وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم -بعضهم هنا هو أبو بكر الصديق كما جاء في بعض الروايات-: قوموا بنا نستغيث برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يُسْتَغَاث بي، وإنما يُسْتَغَاث بالله .

مَن طلب مِن الصحابة الاستغاثةَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- هذا طلب جائز؛ لأنهم طلبوا الإغاثة من النبي -عليه الصلاة والسلام- فيما يقدر عليه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام في هذا المقام يقدر أن يغيث بالأمر بقتل المنافق، أو الأمر بسجنه أو بتأديبه أو بأخذ عقوبة عليه؛ لأنه كان يؤذي المؤمنين بتعزير أو بغيره، فإذن استغاثتهم إنما هي في قولهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله .

استغاثة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يقدر عليه، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- علمهم الأدب في ذلك، وعلمهم الأكمل في ذلك حيث قال: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله .

وحقيقة الاستغاثة على وجه الكمال إنما هي بالله -جل وعلا- لا بنبيه -صلى الله عليه وسلم- فكأنه حصل منهم نوع التفات للنبي -عليه الصلاة والسلام- فيما يقدر عليه، فبين لهم أن الواجب عليهم أن يستغيثوا بالله -جل وعلا- أولا، فقال: إنه لا يستغاث بي و لا يستغاث بي هذا نفي فيه معنى النهي، يعني: لا تستغيثوا بي إنما استغيثوا بالله في هذا الأمر، وإذا أغاثهم الله -جل وعلا- كف شر ذلك المنافق عنهم.

هذا الحديث بعض العلماء قال: إن في إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف، وإيراد الأئمة، أئمة الحديث للأحاديث التي قد يكون في إسنادها بعض المقال، هذا هو الصواب إذا كان ما في الحديث من المعنى قد عرضته الأدلة من القرآن، أو من السنة، وما في هذا الحديث من قوله -عليه الصلاة والسلام-: أنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله قد دلت عليه آيات سلفت.

وهذا صنيع أهل الحديث، صنيع الراسخون في العلم من أهل الحديث، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له في الفتاوى قال: "أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول، بل إما في تأييده يعني في تأييد ذلك الأصل أو في فرع من الفروع". وهذا هو صنيع الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب.

فإنهم يستدلون بأحاديث هي من جهة المعنى الذي اشتملت عليه صحيحة، وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث مستدلا به في رده على البكري المعروف بالاستغاثة كتاب "الاستغاثة الكبرى" أو "الرد على البكري" وقال: إن هذا الحديث هو في معنى ما جاء في النصوص فقوله عليه الصلاة والسلام: إنه لا يستغاث بي يعني: لا تستغيثوا بي، وإنما استغيثوا بالله؛ لأن لا يستغاث نفي ومنفي، وهنا يراد منه النهي.

هذا الباب ظاهر في المناسبة لما قبله، ولما بعده أيضا في أن الاستغاثة بغير الله نوع من أنواع الدعاء، وأن الدعاء عبادة، وأن الاستغاثة عبادة، وصرف العبادة لغير الله -جل وعلا- كفر وشرك.

يدل على أن الدعاء عبادة قول الله -جل وعلا-: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي وقوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ الإجابة إجابة الدعوة يكون في السؤال يعني إذا سأله أجابه، ويكون أيضا بالعطاء والإثابة فيما إذا عُبِدَ فيجيب الدعوة؛ لإعطاء السائل سؤله، ويجيب أيضا الدعاء بإثابة الداعي العابد على عبادته.

ولهذا يفسر الآية التي فيها إجابة الدعاء، ونحو ذلك بأن فيها إعطاء سؤل السائل، وإثابة العابد بأن الصحابة والسلف يعلمون أن الدعاء يشمل هذا وهذا، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فهنا "دعان" يعني: سألني أو عبدني مع أنها في السؤال ظاهرة وفي الدعاء بينة.

والآيات في مثل ذلك كثيرة كقوله -جل وعلا- في سورة إبراهيم قال إبراهيم -عليه السلام-: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا قال الله -جل وعلا- بعدها فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إبراهيم -عليه السلام- قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ قال الله: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ فدل على أن الدعاء هو العبادة، والعبادة هي الدعاء.

والدعاء فُسِّرَ تارة بدعاء مسألة، ودعاء العبادة، وهذا حاصل من أولئك أصنامهم وأوثانهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ....   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 7:54 am

باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ....
باب قول الله -تعالى-: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وقول الله -تعالى-: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ .

وفي الصحيح عند أنس -رضي الله عنه- قال: شُجَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم فنزلت لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ .

وفيه عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا بعدما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، أنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ .

وفيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أُنْزِلَ عليه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فقال: يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا .


--------------------------------------------------------------------------------


هذا الباب باب قول الله -تعالى- أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا هذا الباب إيراده بعد الأبواب المتقدمة من أحسن الإيراد ومن أعظمه فقها ورسوخا في العلم؛ ذلك أن برهان وجوب توحيد الله -جل وعلا- في إلاهيته هو مركوز في الفِطَر من أنه جل وعلا واحد في ربوبيته.

والربوبية -وأن الله واحد في ربوبيته- هذه يقر بها المشركون، ويقر بها كل أحد فهي البرهان على أن المستحِق للعبادة هو من تَوَحَّد في الربوبية، فهذا الباب والباب الذي بعده أيضا برهان لاستحقاق الله العبادة وحده دون ما سواه بدليل فطري، ودليل واقعي، ودليل عقلي.

ومن المعلوم أن الأدلة العقلية عندنا أهل السنة والجماعة نأخذها من الكتاب والسنة؛ لأن في الكتاب والسنة من الأدلة العقلية ما يغني عن تكلف أدلة عقلية أخرى لمن تأمل ذلك في نصوص الوحيين، فهذا الباب فيه بيان أن الذي يخلق هو الله وحده، والذي يرزق هو الله وحده، والذي يملك هو الله وحده، وأن غير الله -جل وعلا- ليس له نصيب من الخلق، وليس له نصيب من الرزق، وليس له نصيب من الإحياء، وليس له نصيب من الإماتة، وليس له نصيب من الأمر، وليس له ملك حقيقي في أمر من الأمور.

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ حتى أعلى الخلق مقاما، وهو النبي -عليه الصلاة والسلام- قال له الله -جل وعلا-: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ يعني: لست مالكا لشيء من الأمر، ليس من الأمر شيء تملكه، اللام هنا لام الملك، فمن الذي يملك إذن هو الله جل وعلا.

فإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يُنْفَى عنه ذلك، فإن نفيه عمن هو دونه من باب أولى، والذين توجهوا إلى أصحاب القبور أو إلى الصالحين والأولياء والأنبياء في داخلهم زعم بأنهم يملكون أشياء، إما أن يملكوا شيئا من الرزق، أو أن يملكوا شيئا من التوسط والشفاعة بدون إذن الله -جل وعلا- ومشيئته.

فإذن هذا الباب أحد الأبواب التي فيها البرهان على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه؛ والقرآن فيه كثير من البراهين على أن المستحق للعبادة هو الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه، فمن تلك الأدلة والبراهين ما في القرآن من أدلة فيها إقرار المشركين بتوحيد الربوبية، كل ذلك النوع من الأدلة فيه دليل على أن المستحق للعبادة هو من أقررتم له بالربوبية.

ومن الأدلة والبراهين على ذلك ما في القرآن من أن الله -جل جلاله- نصر رسله وأولياؤه على أعدائهم، وأن كل طائفة من طوائف الشرك ذلت وخضعت وغلبت أمام طوائف أهل الإيمان أمام جند الله -جل وعلا- من الرسل ومن أتباع الرسل والأنبياء.

وهذا نوع آخر من الأدلة: أنه ما من طائفة موحدة بعث الله -جل وعلا- إمامها ورسولها بقتال المشركين إلا وظهرت عليهم، وإلا وغلبتهم حتى صارت العاقبة لهم؛ وهذا أمر في القرآن كثير، وأدلته كثيرة؛ قصص الأنبياء وقصص القرى، وكل قرية خالفت رسولها عوقبت، وهكذا كل القرى، هذا دليل على أن التوحيد هو الحق، وأن الشرك باطل.

من الأدلة نوع آخر من القرآن، من البراهين نوع آخر في القرآن؛ من أن المخلوق ضعيف، أن العابد الذي يسمع هذا القرآن؛ كل مخلوق، كل مكلف يعلم من نفسه الضعف، وأنه جاء إلى الحياة بغير اختياره؛ بل الله -جل وعلا- الذي أتى به إلى هذه الحياة، وأنه سيخرج من هذه الحياة بغير اختياره أيضا، فهو إذن مقهور، ويعلم قطعا أن الذي قهره وأذله وجعله على هذه الحالة ليس هو تلك الآلهة، وإنما هو الله -جل وعلا- وحده هو الذي يحيي ويميت، وهذا إقرار عام يعلمه كل أحد من فطرته.

من الأدلة والبراهين أيضا أن الله -جل وعلا- له الأسماء الحسنى، وله الصفات العلا، وأنه ذو النعوت الكاملة، وذو النعوت الجليلة، ونعوت الجلال، ونعوت الجمال، ونعوت الكمال، وهو سبحانه له الكمال المطلق في كل اسم له، وفي كل نعت ووصف، له الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص في وجه من الوجوه.

هذا الباب ذكر فيه الشيخ -رحمه الله- أحد أنواع أدلة الربوبية، أو براهين التوحيد، وأنه -جل وعلا- هو الواحد في ربوبيته، والباب الذي يليه باب قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فيه دليل على عظمة الله -جل وعلا- في صفاته.

وفي هذا الكتاب تنويع أيضا كما سيأتي، براهين التوحيد، توحيد العبادة، بأدلة من القرآن متنوعة، ونكمل إن شاء الله في الدرس القادم شرح هذا الباب، والذي يليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

س: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد فهذا أخ يقول: فضيلة الشيخ هل يعتبر نذر مطلق أم مقيد إذا حصل للعبد منفعة مثل نجح أو حصل على وظيفة، ونذر أن يصوم ثلاثة أيام لله -سبحانه وتعالى- مع العلم أنه لم ينذر قبل نجاحه أو حصوله على الوظيفة ؟

ج: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد، فالنذر المطلق هو الذي لم يعلق بشيء فيجعل في المستقبل، والنذر المقيد هو المعلق الذي علق الوفاء به بحصول شيء من الله -جل وعلا- للعبد. وهذا يكون في المستقبل إن شفى الله مريضي فسأصوم ثلاث أيام، إن نجحت فسأصوم، هذا هو النذر المعلق المقيد.

أما المطلق فهو أن ينذر نذرا لله -جل وعلا- تبررا منه إما بسبب حادثة حدثت، أو نعمة تجددت، أو نقمة اندفعت، أو بدون سبب، فهذا كله يدخل في المطلق، أما المقيد فهو المعلق بشرط في المستقبل، نعم.

س: سؤال يقول: ما حكم عمل احتفال بسيط في مناسبة انتهاء عقد أحد العاملين بالشركة، سواء كان مسلما أو غير مسلم، وحجة بعضهم في عمل الاحتفال لغير المسلم أنه من باب دعوته إلى الإسلام، مع العلم أنه خلال وجوده في العمل لم يقدم له كتاب أو شريط لدعوته الإسلام ممن يحتجون لهذا القول، وجزاكم الله خيرا ؟

ج: تلك الاحتفالات المقصود فيها إكرام من أقيمت له، فإذا كان مسلما فإكرام المسلم من حقوقه المستحبة، وإذا كان غير مسلم فله حالتان: الحالة الأولى أن يكون ممن لم يظهر للإسلام عداوة، بل وأظهر في الإسلام رغبة وهو مسالم لأهل الإسلام ومحب لأهل الخير، محب لأهل الدين والصلاح، كما يظهر من بعضهم، فهذا الغالب على قلبه أنه يصلح أن يدعى للإسلام؛ لأنه قريب سلم من البغضاء والعداوة التي تحجزه عن قبول الحق لو عرض عليه.

فهذا النوع إذا كان قصد من عمل الاحتفال أن يكون بداية لدعوته وأن يكون في الاحتفال شيء من الدعوة إلى الإسلام لبيان محاسنه وبيان بطلان الأديان الأخرى ونحو ذلك، فهذا بحسب قصد فاعله، وأصل الإكرام لغير المسلم لا يجوز.

وأما إن كان معاديا أو لم يظهر قبولا للإسلام، أو عرف من سيرته حين بقي أنه يعني حين بقي تلك المدة في المؤسسة أو الشركة أنه لا يحب الخير، بل ربما أظهر صدودا عن أهل الخير، وأظهر عدم قبوله لبعض أوامر الشرع التي يحكم بها، فهذا لا يجوز إكرامه؛ لأن إكرامه من موالاته؛ وموالاته: موالاة الكافر محرمة؛ لأنه يكرم مع بقائه على عداوته وعلى بغضه.

والأصل في هذا قول الله -جل وعلا -: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .

فهذه الآيات فيها بيان حال الصنفين؛ لهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ربما أجاب دعوة يهودي أو يهودية، وربما أتى بعض أهل الكتاب، وربما أهدى إليهم، وأوصى على الهدية للجار، وهذا لأجل الترغيب في الخير، والترغيب في الإسلام، المقصود أن الإكرام بتلك الحفلات لا يجوز، إلا إذا كان ثَمَّ مصلحة شرعية راجحة يقدرها أهل العلم إذا وصف الحال لهم، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز إقامة الحفلات لهم؛ لأنها نوع موالاة للكفار، نعم.

س: وهذا يقول: هل يدخل في باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ما يحصل وخاصة في أوروبا وأمريكا من شراء كثير من المسلمين لكنائس قديمة، ثم تعديلها لتكون مساجد، أو هدم كنيسة، وبناء مسجد مكانها نرجو التوجيه وجزاكم الله خيرا ؟

ج: لا يدخل في ذلك؛ لأن مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي الصلاة فيه مضاعفة أقيم على مكان فيه قبور المشركين، بعد أن نُبشت تلك القبور وأزيل الرفات أقيم المسجد في ذلك المكان، والكنيسة التي عبد فيها غير الله -جل وعلا- إذا حُوِّلت إلى مسجد، هذا من أعظم الطاعات، ومن أحب الأعمال إلى الله -جل وعلا- وذكرت لكم أن الفرق بين هذه وبين لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله أن الذبح صورته مشتركة، الصورة الظاهرية واحدة، وإنما الاختلاف في النيات، ولهذا منع من ذلك.

أما عبادة المسلمين وصلاتهم، وهيئة مساجدهم وجلوسهم إلى آخر تلك الهيئات مخالف لما عليه النصارى فإبدال الكنيسة في مسجد هذا أمر مطلوب، إذا تمكن المسلمون منه، كالذي فعله المسلمون في الأندلس، بل وفي بعض البلاد الأخرى كالشام ومصر، نعم.

س: ويقول: نرى عبارة مكتوبة على بعض السيارات "يا رضا الله ورضا الوالدين"؟

ج: قوله: يا رضا الله ورضا الوالدين فيها غلط من جهتين: الجهة الأولى أنه نادى رضا الله، ومناداة صفات الله -جل وعلا- بـ يا النداء لا تجوز؛ لأن الصفة في هذا المقام غير الذات في مقام النداء؛ ولهذا إنما ينادى الله -جل وعلا- المتصف بالصفات، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري، وغيرُهُ من أهل العلم على أن مناداة الصفة محرم بالإجماع، فإذا كانت الصفة هي الكلمة كلمة الله -جل وعلا- كان كفرا بالإجماع؛ لأن من نادي الكلمة يعني بها عيسي -عليه السلام- فيكون تأليها لغير الله -جل وعلا - ورضا الله -جل وعلا- صفة من صفاته، فلا يجوز نداء الصفة.

والملاحظة الثانية في تلك الكلمة أنه جعل رضا الوالدين مقرونا برضا الله -جل وعلا- بالواو، والأنسب هنا أن يكون العطف بثم، يقول: مثلا أسأل الله رضاه ثم رضا الوالدين، وإن كان استعمال الواو في مثل هذا السياق لا بأس به؛ لأن الله -جل وعلا- قال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وقال جل وعلا: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ؛ ولأن الواو هنا تقتضي تشريكا في أصل الرضا، وهذا الرضا يمكن أن يكون من الوالدين، أيضا فيكون التشريك بأصل المعنى لا المرتبة، نعم.

س: يقول: هل يجوز الذهاب للعلاج عند من يزعم أنه يعالج بمساعدة جن مسلمين، وهل هذه المساعدة إلى الجن للقارئ من الاستعانة جائزة أو محرمة؟

ج: الاستعانة بالجن سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين وسيلة من وسائل الشرك، والاستعانة معناها طلب الإعانة؛ ولهذا من المتقرر عند أهل العلم أنهم لا يطلبون الإعانة من مسلم الجن؛ فلم يطلب منهم الإعانة الصحابة -رضوان الله عليهم- وهم أولى أن تخدمهم الجن، وأن تعينهم.

وأصل الاستعانة بالجن من أسباب إغراء الإنس بالتوسل إلى الجن وبرفعة مقامه، وبالاستنفاع به، وقد قال جل وعلا: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ فحصل الاستمتاع -كما قال المفسرون- من الجن بالإنس بأن الإنسي يتقرب إليه ويخضع له ويذل، ويكون في حاجته، ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن الجني يخدمه، قد يكون مع هذا الاستمتاع ذبح من الإنسي للجني، وتقرب بأنواع العبادات، أو العياذ بالله بالكفر بالله -جل وعلا- بإهانة المصحف، أو بامتهانه أو نحو ذلك.

ولهذا نقول: إن تلك الاستعانة بجميع أنواعها لا تجوز، منها ما هو شرك وهي استعانة بشياطين الجن، ومنها يعني الكفار، ومنها ما هو وسيلة إلى الشرك، وهو الاستعانة بمسلمي الجن.

بعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية قال: إن الجن قد تخدم الإنسي، وهذا المقال فيه نظر وتفصيل، ذلك أنه ذكر في آخر كتاب النبوات أن أولياء الله لا يستخدمون الجن إلا بما فعله معهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن أمرهم ونهاهم، أما طلب خدمتهم وطلب إعانتهم، فإنه ليس من سجايا أولياء الله، وليس من أفعال أولياء الله.

قال: مع أنه قد تنفع الجنُّ الإنسَ، وقد تقدم له بعض الخدمة، ونحو ذلك، وهذا صحيح. فحصل أن المقام فيه تفصيل، فإذا كان الاستخدام في طلب الخدمة فهذا وسيلة إلى الشرك إذا توجه إلى جني مسلم، ولا يجوز أن يؤتى لأحد يقرأ، يعرف منه أنه يستخدم الجن المسلمين.

وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه، فإن هذا قد يحصل، لكن لم يكن من خلق أولياء الله، ولم يكن مما سخره الله -جل وعلا- لخاصة عباده، فلا بد أن يكون عند هذا نوع خلل حتى كانت الجن تكثر من خدمته وإخباره بالأمور، ونحو ذلك.

فإذا كان ذلك بطلب منه فهذا لا يجوز، وهو نوع من أنواع المحرمات؛ لأنه نوع استمتاع، وإذا كان بغير طلب منه فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين. ويستعيذ بالله من شر مردة الجن؛ لأنه قد يكون بعد ذلك فيه يعني فيما فعل في قبوله ذلك الخبر واعتماده عليه.

قال: مع أنه قد تنفع الجن الإنس، وقد تقدم له بعض الخدمة، ونحو ذلك، وهذا صحيح، فحصل أن المقام فيه تفصيل، فإذا كان الاستخدام بطلب الخدمة، فهذا وسيلة إلى الشرك إذا توجه إلى جني مسلم، ولا يجوز أن يؤتى لأحد يقرأ يعرف منه أنه يستخدم الجن المسلمين، وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه، فإن هذا قد يحصل، لكن لم يكن من خلق أولياء الله، ولم يكن مما سخره الله -جل وعلا- لخاصة عباده فلا بد أن يكون عند هذا نوع خلل، حتى كانت الجن تكثر من خدمته وإخباره بالأمور، ونحو ذلك، فإذا كان ذلك بطلب منه فهذا لا يجوز، وهو نوع من أنواع المحرمات؛ لأنه نوع استمتاع.

وإذا كان بغير طلب منه فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين فيستعيذ بالله من شر مردة الجن؛ لأنه قد يكون بعد ذلك فيما فعل في قبوله هذا الخبر واعتماده عليه وأنسه به بما كان تعلمه الجن، يكون فيه فتح لأبواب على قلبه بأن يتوسل بالجن أو أن يستخدمهم.

إذا تبين ذلك فإن خبر الجن عند أهل العلم ضعيف، لا يجوز الاحتجاج به عند أهل الحديث، وذكر ذلك أيضا الفقهاء، وهذا صحيح؛ لأن البناء على الخبر وتصديق الخبر هو فرع عن تعديل المخبر، والجني غائب، وعدالته غير معروفة، وغير معلومة عند السامع، فإذا بنى الخبر عمن جاء به له من الجن، وهو لم يرهم، ولم يتحقق عدالتهم إلا بما سمع وهي لا تكفي فإنه يكون قد قبل خبر فاسق، ولهذا قال الله -جل وعلا-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ والذين يقبلون إخبار الجن وإعلام الجن لهم ببعض الحوادث حصل منهم مفاسد متنوعة كثيرة، حيث إنهم جزموا بصحة ما أخبرتهم به الجن، فربما حصل منهم قيل وقال، يعني: من الناس في ذلك الذين أخبروا بذلك.

ويحصل بعد ذلك من جرائها مفاسد، وقد تفرقت بعض البيوت من جراء خبر قارئ جاهل بأن هذا الذي فعل كذا هو فلان، باعتبار الخبر الذي جاء، ويكون الخبر الذي جاءه من الجني خبر كذب، ويكون هو اعتمد على نبأ هذا الذي لا يعلم عدالته، وبنى عليه، وأخبر به، وصار من جرائه فرقة واختلاف، وتفرق وشتات في البيوت.

ونعلم أنه قد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم -رحمه الله- إن إبليس ينصب عرشه على الماء ويبعث سراياه فيكون أحب جنوده إليه من يقول له: فرقت بين المرأة وزوجها .

وهذا في جملة التفريق، والتفريق بين المرأة وزوجها؛ لأنه هو الغالب، وأحب ما يكون إلى عدو الله أن يفرق بين المؤمنين، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أيضا مسلم وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم .

فهذه المسألة يجب عليكم -كطلبة علم- أن تسعوا في إنكارها، وأن تبذلوا الجهد في إقامة الحجة على من يستخدم الجن، ويتذرع أن بعض العلماء أباح ذلك.

وهذا وسيلة من وسائل الشرك بالله -جل وعلا-واقرءوا أولا كتاب تاريخ نجد لابن بشر حيث قال: إن سبب دخول الشرك إلى قرى نجد أنه كان بعض البادية إذا أتى وقت الحصاد، أو أتى وقت خرف النخيل، فإنهم يقطنون بجانب تلك القرى ومعهم بعض الأدوية، ومعهم بعض الأعشاب، فإذا كانوا كذلك، ربما سألهم بعض جهلة تلك القرى حتى حببوا إليهم بعض الأفعال من جراء سؤالهم، حببوا إليهم بعض الشركيات أو بعض البدع، ثم شيئا فشيئا حتى فشا ذلك.

وعليه يكون من أسباب انتشار الشرك في هذه الديار يعني: في نجد وما حولها بحسب ما ذكر ابن غنام من جهة المتطببين الجهلة، أو من جهة القراء المشعوذين، أو القراء الجهلة.

وقد حصل أيضا في هذا -ولو أطلنا بعض الشيء- أن بعض من يستخدم الجن كَثُر عنده الناس، ولما كثُر عنده الناس سار يعالج علاجا نافعا، وبعد ذلك تسخرت له فئات من الجن أكثر حتى ضعف تأثيره، فلما ضعف تأثيره، وعرف أن ما عنده من الحالات التي تأتيه للقراءة أو للعلاج أنه لم يستطع معها شيئا صار تعلقه بالجن أكثر.

ولا زال ينحدر ما في قلبه من قوة اليقين، وعدم الاعتماد بقلبه على الجن حتى اعتمد عليهم شيئا فشيئا ثم حرَّفُوه -والعياذ بالله- عن السنة، وعما يجب أن يكون في القلب من توحيد الله وإعظامه، وعدم استخدام الجن في الأغراض الشركية، فجعلوه يستخدم الجن في أغراض شركية وأغراض لا تجوز بالاتفاق.

إذن فهذا مما يجب رفضه، ووسائل الشرك يجب علينا أن ننكرها وسائل الغواية يجب علينا أن ننكرها، ووجود من يستخدم الجن ويعلن ذلك ويطلب خدمتهم في الإخبار هذا مبني على جهل في الحقيقة بالشرع، وعلى جهل بوسائل الشرك، وما يصلح المجتمعات، وما يفسدها والله المستعان. نعم، قرأتَ الباب؟.

باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وقوله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ .

ذكرنا لكم بالأمس أن هذا الباب مع الباب الذي يليه مناسبته لكتاب التوحيد أن هذين البابين هما برهان للتوحيد، برهان لاستحقاق الله -جل وعلا- العبادة وحده، وعلى بطلان عبادة ما سواه، وهذا البرهان هو بتقرير أن الله -جل وعلا- واحد في ربوبيته، ودليل ذلك الفطرة، ودليل ذلك العقل، ودليل ذلك أيضا النص من الكتاب والسنة.

فلا أحد ينكر أن الله -جل وعلا- هو مالك الملك، وهو الذي بيده تصريف الأمر كيف يشاء، إلا شرذمة قليلة من الناس -كما قال الشهرستاني وغيره- لا يصح أن تنسب لهم مقالة؛ فالناس مفطورون على الإقرار بالرب، وعلى الإقرار بأنهم مخلوقون.

وإذا كان كذلك فإن الحجة عليهم في وجوب توحيد الألوهية أن الله جعل في فطرهم الإقرار بأن الله واحد في ربوبيته، ولهذا المشركون لا ينكرون أن الله -جل جلاله- واحد في خلقه، واحد في رزقه يعني: أنه هو الخلاق وحده، وأنه هو الرزاق وحده، وأنه جل وعلا هو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو الذي ينبت النبات، وهو الذي ينزل الماء إلى آخر أفراد تدبيره جل وعلا للأمر، وأفراد توحيد الربوبية.

فالبرهان على أن الله هو المستحق للعبادة وحده أنه جل وعلا هو مالك الملك وحده، وهو الذي يدبر هذا الملكوت وحده، وهو الذي خلق العباد، والعباد صائرون إليه، أما الآلهة التي توجه إليها العباد بالعبادة من الأنبياء والأولياء، أو الملائكة فإنما هم مخلوقون مربوبون لا يخلقون شيئا، وهم يخلقون، وأيضا لا يستطيعون نصرا لمن سألهم، وإنما ذلك لله جل وعلا.

فإذا كان أولئك ليس لهم من الأمر شيء، وليس لهم من الملك شيء، وليس لهم من الخلق شيء، وليس لهم من تدبير الأمر شيء، وإنما تدبير أمر السماوات، وتدبير أمر الأرض بيد الله وحده دون ما سواه، فإن الذي يستحق العبادة وحده هو الذي يفعل تلك الأفعال، وهو الذي يتصف بتلك الصفات هو الذي وَحَّدَهُ العباد في ربوبيته.

فإذا كان كذلك فيجب أن يكون إذن واحدا في أفعالهم بأن لا يتوجهوا بالعبادة إلا إليه وحده، وهذا كثير في القرآن جدا، فإنك تجد في القرآن أن أعظم الأدلة والبراهين على المشركين في إبطال عبادتهم لغير الله، وفي إحقاق عبادة الله وحده دون ما سواه أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، فالإقرار بتوحيد الربوبية برهان توحيد الإلهية، فالله -جل وعلا- احتج في القرآن على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية على ما أنكروه من توحيد الإلهية.

ولهذا قال جل وعلا: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ يعني أتقرون بذلك فلا تتقون الشرك؛ لأني ذكرت لكم أن الفائدة إذا أتت بعد الهمزة فهي تعطف ما بعدها على جملة محذوفة دل عليها السياق.

أَفَلَا تَتَّقُونَ يعني: أتقرون بأن الله واحد في ربوبيته، فلا تتقون الشرك به، فذلكم الله ربكم الحق باعترافكم وبإيقانكم، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وهذا نوع احتجاج بما أقروا به، وهو توحيد الربوبية على ما أنكروه، وهو توحيد الإلهية.

كذلك الآيات العظيمة في سورة النمل قال جل وعلا: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ هنا إنكار عليهم، أنكر لماذا؟

لأن ما سبق يقرون به أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ يقرون بأن الذي خلقها هو الله؛ فإذن كيف يتخذون إلها مع الله؟ كان هذا إنكارا، من الذي أنزل لهم من السماء ماء فأنبت لهم به حدائق ذات بهجة؟ هو الله، فإذن كيف يتخذون إلها معه ؟!

لهذا قال -جل وعلا-: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ هذا إنكار عليهم بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يعني: يعدلون بالله غيرَه، أو يعدلون غير الله -جل وعلا- به يعني: يساوون هذا بهذا، أو يعدلون يعني: يصرفون عن الحق، وينصرفون عنه إلى غيره، فكيف يعدلون عن الحق إلى غيره؟ أو كيف يعدلون بالله غيره من الآلهة؟

وهكذا الآية التي بعدها: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا جواب المشركين على هذا السؤال أم من؟ جوابهم هو الله، قال جل وعلا: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .

ثم قال جل وعلا: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ رجع من الآيات التي في الآفاق، وفيما حولهم إلى الشيء الذي يعلمونه علم اليقين: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ .

ثم قال جل وعلا: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .

وفي الحقيقة أنه لا برهان لهم، ولهذا قال في آية المؤمنون: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ لا برهان له به، فكل إله لا برهان له، لَا بُرْهَانَ لَهُ يعني: لا حجة قائمة على أنه إله، وإنما اتخذه البشر بالطغيان وبالظلم وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ .

فهذا الباب قائم على هذه الحجة، ولهذا من أعظم الحجة على المشركين، وعلى الذين توجهوا إلى الأموات، توجهوا إلى المقبورين بطلب تفريج الكربات، وطلب إغاثة اللهفات، وطلب إنجاح الحاجات، وسؤال ما يحتاجه الناس، أعظم الحجة عليهم أن تحتج عليهم بتوحيد الربوبية.

وهؤلاء المشركون في هذه الأزمنة زادوا كما قال الشيخ -رحمه الله- في القواعد الأربع، زادوا على مشركي الجاهلية بأنهم اعتقدوا أن لتلك الأموات أن لهم تصرفا في الكون أيضا، فنسبوا إليهم شيئا من الربوبية، ولم يجعلوا توحيد الربوبية أيضا خالصا.

وهذا البرهان برهان عظيم ينبغي لك أن تتوسع في دلائله، وأن تعلم الحجة في القرآن منه؛ لأن القرآن كثيرا ما يحتج بهذا البرهان، وهو توحيد الربوبية على ما ينكره المشركون، وهو توحيد الإلهية.

من ذلك ما ساقه الشيخ -رحمه الله- في هذا الباب قال: باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ هذا إنكار وتوبيخ لهم، كيف يشركون الذي لا يخلق شيئا وهم يخلقون، ومن الذي خلقهم، هو الله -جل وعلا- هو الذي خلق من عُبِدَ، وهو الذي خلق العابد أيضا، فالذي يستحق العبادة وحده دونما سواه، إنما هو الله ذو الجلال والإكرام.

قال: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا لأن النصر في الحقيقة إنما هو من عند الله -جل وعلا- لو أراد الله أن يمنع نصر الناصر لمنعه. قال وقوله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ الآيات.

قال: مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وهذا موطن الشاهد قوله: مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ حتى هذا القطمير، وهو غلاف النواة، أو الحبل الواصل من أعلى النواة أي: ظاهر الثمرة، هذا لا يملكونه، فغيره مما هو أعلى منه من باب أولى وأولى، فحتى هذا الشيء الحقير لا يملكونه مما لا يحتاجه الناس، ولا يطلبونه فكيف إذن يطلبون منهم أشياء لا يملكونها، قال جل وعلا هنا: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الذين هذا اسم موصول يعم كل ما دعي من دون الله: الملائكة أو الأنبياء والرسل، أو الصالحين من الأموات، أو الصالحين، أو الجن أو الأصنام والأشجار والأحجار كل مَن دُعِيَ وما دُعِيَ فإنه لا يملك ولو قطميرا، لا يملك هذا فإذن لِمَ يُسْأَل، فالواجب أن يتوجه بالسؤال لمن يملك ذلك.

ذكر الشيخ -رحمه الله- بعد ذلك عدة أحاديث في هذا الباب، وهذه الأحاديث مدارها على بيان قول الله -جل وعلا-: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث وإيراد هذه الآية أن هذا النفي توجه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو -عليه الصلاة والسلام- سيد ولد آدم، ليس لك يا محمد من الأمر شيء.

واللام في قوله: "لك" لام الاستحقاق، أو لام الملك يعني: لا تستحق شيئا، أو لا تملك شيئا، يعني: لا تستحقه بذاتك، وإنما بما أمر الله -جل وعلا- وبما أذن به، فتعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ومحبة النبي -عليه الصلاة والسلام- هي فرع عن محبة الله، وعن تعظيم الله -جل وعلا- فما هو أبعد أو أعظم مما أذن الله به، فليس له ذلك، أو كذلك الملك، ملك الأشياء، أو ملك شيء من الأمر، فإنه ليس له عليه الصلاة والسلام ذلك، قال الله -جل وعلا-: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ .

ولو كان له عليه الصلاة والسلام من الأمر شيء لنصر نفسه وأصحابه يوم أحد، ولكن في يوم أحد حصل ما حصل، فأنزل الله -جل وعلا- قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ كذلك الحديث الآخر لما لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قنوت الفجر فلانا وفلانا من الناس الذين آذوا المؤمنين نزل قول الله -جل وعلا-: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ .

يعني: لست تملك شيئا من الأمر، وهكذا في الحديث الذي بعده، وهذه الأحاديث دالة على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نفى عنه أن يملك شيئا من ملكوت الله، وإذا كان كذلك، فإنه عليه الصلاة والسلام قد بَلَّغَ ذلك وبَيَّنَه، ومَن هو دونه عليه الصلاة والسلام من باب أولى.

فالملائكة أولى أن ينفى عنهم ذلك، والأنبياء أولى أن ينفى عنهم ذلك، وكذلك الصالحون من أتباع الرسل، وأتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- كذلك أولى أن ينفى عنهم ذلك.

فإذا كان كذلك بطلت كل التوجهات إلى غير الله -جل وعلا- ووجب أن يتوجه بالعبادة، وبأنواع العبادة من الدعاء والاستغاثة والاستعاذة، والذبح، والنذر، وأنواع التوجهات إلى الحق -جل وعلا- وحده دونما سواه.

الحديث الأخير لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا .

وهذا ظاهر في أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يستطيع أن يفعل شيئا بما ينفع به الأقربين، إلا ما جعل الله له من الرسالة والبلاغ وأداء الأمانة. وأما أنه يغني عنهم من الله شيئا، يغني عنهم العذاب، يغني عنهم النكال، يغني عنهم العقوبة، فالله -جل وعلا- لم يجعل لأحد من خلقه من ملكوته شيئا، وإنما هو سبحانه المتفرد بالملكوت والجبروت والمتفرد بالجمال بالكمال والجمال والجلال، نعم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب قوله الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ..   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 8:00 am


باب قوله الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ..
بسم الله الرحمن الرحيم

قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: باب قوله الله -تعالى-: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وفي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فيسمع الكلمة مسترقو السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض -وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر، أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قال لنا كذا، واليوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء .

وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أراد الله -تعالى- أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة - أو قال رعدة شديدة - خوفا من الله -عز وجل- فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل -عليه السلام- فيكلمه الله من وحيه بما أراد.

ثم يمر جبريل بالملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل .


--------------------------------------------------------------------------------


هذا الباب كما ذكرنا بالأمس مناسبته لكتاب التوحيد أن فيه برهانا على أن المستحق للعبادة هو الله -جل جلاله- ذلك أنه هو المتصف بصفات الكمال والجلال، وهذا الباب فيه ذكر لصفة، أو لصفات الجلال لله -جل وعلا-.

والله -سبحانه- كل مَن في السماوات ومَن في الأرض خائف منه وَجِلٌ منه في الحقيقة؛ إذ هو الجليل -سبحانه- ولذلك كان الأعرف به في السماء الملائكة، فإن الملائكة يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وقال جل وعلا في وصفهم أيضا: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ .

فصفات الجلال لله -جل وعلا- صفات الكمال له -سبحانه-، وصفات الجمال له -سبحانه- هذه كلها دلائل على أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، فمَن المتصف بالعظمة على كمالها؟ مَن الذي يُهَاب منه ويُخَاف على الحقيقة؟ مَن الذي يكون كل ما في السماوات وما في الأرض على وفق أمره؟ هو الله -جل وعلا- إذن هو -جل وعلا- ذو الأسماء الحسنى، وذو الصفات العلا.

ولهذا قال جل وعلا في آية سبأ: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ "فزِّع" يعني أزيل الفزع عن قلوب الملائكة، فالملائكة مع أنهم مقربون؛ إلا أنهم شديدو المعرفة بالله -جل وعلا- شديدو العلم به، عظيم علمهم بالرب جل وعلا، ومما يعلمونه عن الله -جل وعلا- أنه هو الجبار، وأنه هو الجليل سبحانه، وأنه ذو الملكوت فلهذا يشتد فزعهم منه سبحانه؛ لأنه لا غنى بهم عنه جل وعلا طرفة عين.

والصفات التي فيها هذا البرهان هي صفات الجلال لله -جل وعلا- وصفات الجلال هي الصفات التي تورث الخوف في القلب؛ لأن الصفات تنقسم إلى أقسام متنوعة باعتبارات، ومن تقسيمات الصفات أنها تنقسم إلى صفات جلال، وصفات جمال.

فالصفات التي تحدث في القلب الخوف والهلع والرهبة من الرب -جل وعلا- هذه تسمى صفات الجلال، والذي يتصف بصفات الجلال على الحقيقة هو الله -جل وعلا- لأنه هو الكامل في صفاته سبحانه، فإذا كان كذلك كان الكامل في صفاته هو المستحق للعبادة.

وأما البشر أما المخلوقون فإنهم ناقصون في صفاتهم يعلمون أن حياتهم ليست حياة كاملة، وإنما هي حياة إذا عرض لها أيّ عارض صار المخلوق ميتا، وإذا عرض له أيّ عارض صار مريضا، إذا عرض له أيّ عارض صار ضعيفا، لا يستطيع أن يعمل شيئا، فهم ضِعَاف فقراء محتاجون ليست لهم صفات الكمال.

وهذا دليل نقصهم ودليل عجزهم، ودليل أنهم مقهورون مربوبون، فيجب أن يتوجه العباد إلى من له صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال وهو الله -جل وعلا- وحده سبحانه وتعالى، نعم هذا المراد من هذا الباب وهذا ظاهر بحمد الله، نعم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب التوحيد شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 8:06 am


باب الشفاعة
قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: باب الشفاعة، وقول الله -تعالى-: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وقوله: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى .

وقوله: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ .

وقال أبو العباس -رحمه الله تعالى-: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره ملك، أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى .

فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع .

وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله تعالى، ولا تكون لمن أشرك بالله.

وحقيقته أن الله -سبحانه- هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه، رحمه الله.


--------------------------------------------------------------------------------


هذا باب الشفاعة، وإيراد هذا الباب بعد البابين قبله مناسب جدا؛ ذلك أن الذين يسألون النبي -عليه الصلاة والسلام- ويستغيثون به ويطلبون منه، أو يسألون غيره من الأولياء، أو الأنبياء، إذا أقمت عليهم الحجة بما ذكر من توحيد الربوبية.

قالوا: نحن نعتقد ذلك، ولكن هؤلاء مقرَّبُون عند الله معظَّمُون، ورفعهم الله -جل وعلا- عنده، ولهم الجاه عند الرب جل وعلا، وإذا كانوا كذلك فهم يشفعون عند الله؛ لأن لهم جاها عنده؛ فمن توجه إليهم أرضوه بالشفاعة، وهم ممن رفعهم الله؛ ولهذا يقبل شفاعاتهم.

فكأن الشيخ -رحمه الله- رأى حال المشركين، وحال الخرافيين واستحضر حججهم، وهو كذلك؛ إذ هو أَخْبَرُ أهلِ هذه العصورِ المتأخرةِ بحجج المشركين، استحضر ذلك فقال: لم يبق إلا الشفاعة لهم، إذا حاججتهم.

فهذا باب الشفاعة، والشفاعة في الأصل مأخوذة من الشفع، والشفع هو الزوج؛ لأن الشافع طالب، فصار مع صاحب الطلب الأصلي شفعا، فواحد يريد شيئا فأتى الثاني يشفع له فصار شفعا له، فسميت شفاعة؛ لأنه بعد أن كان صاحب الطلب واحدا صار شفعا، بعد أن كان فردا، فسميت شفاعة لذلك.

والشفاعة هي الدعاء، وطلب الشفاعة هو طلب، فإذا قال قائل: استشفع برسول الله، كأنه قال: أطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لي عند الله، فالشفاعة طلب؛ ولهذا من استشفع فقد طلب الشفاعة، فالشفاعة دعاء؛ وهي طلب الدعاء أيضا.

فلهذا صار كل دليل تقدم لنا؛ وكل دليل في الكتاب؛ أو في السنة فيه إبطال أن يُدْعَى مع الله -جل وعلا- إله آخر يصلح أن يكون دليلا للشفاعة يعني: لإبطال الاستشفاع بالموتى، وبالذين غابوا عن دار التكليف؛ لأن حقيقة الشافع أنه طالب؛ ولأن حقيقة المستشفع أنه طالب، فالشافع في ظن المستشفع يدعو، والمستشفع يدعو من أراد منه الشفاعة.

يعني: إذا أتى آت إلى قبر النبي أو قبر ولي أو نحو ذلك فقال: أستشفع بك، أو أسألك الشفاعة، يعني: طلب منه ودعاه أن يدعو له، فلهذا صار صرفها، أو صار التوجه بها إلى غير الله -جل وعلا- شركا أكبر؛ لأنها في الحقيقة دعوة لغير الله؛ لأنها في الحقيقة سؤال من هذا الميت سؤال وتوجه بالطلب والدعاء من غير الله -جل وعلا- فيتوجه إلى غير الله في السؤال والطلب والدعاء.

إذن فالشفاعة عرفت معناها، وأن التوجه إلى غير الله بالشفاعة يعني بطلب الشفاعة شرك أكبر؛ إذا كان هذا المتوجه إليه من الأموات، أما إذا كان حيا فإنه في دار التكليف يطلب منه أن يشفع عند الله بمعنى أن يدعوه، وقد يجاب دعاؤه، وقد لا يجاب، أو كما يحصل أن يشفع بعض الناس لبعض بالشفاعة الحسنة أو بالشفاعة السيئة مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً .

فهذا يحصل؛ لأنهم في دار تكليف ويقدرون على الإجابة، وقد أذن الله في طلب الشفاعة منهم بأن يدعو؛ لهذا كان الصحابة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ربما أتى بعضهم النبي -عليه الصلاة والسلام- وطلب أن يشفع له يعني: أن يدعو له.

مسألة الشفاعة من المسائل التي تخفى على كثيرين؛ ولهذا وقع بعض أهل العلم في أغلاط من جهة طلب الشفاعة من النبي -عليه الصلاة والسلام- فأوردوا قصصا في كتبهم فيها استشفاع بالنبي -عليه الصلاة والسلام- دون إنكار، كما فعل النووي وكما فعل ابن قدامة في المغني ونحو ذلك، وهذا لا يعد خلافا في المسألة؛ لأن هذا الخلاف راجع إلى عدم فهم حقيقة هذا الأمر.

ومسألة الشفاعة مسألة فيها خفاء؛ ولهذا يقول أهل العلم من أئمة الدعوة -رحمهم الله-: إقامة الحجة في مسائل التوحيد تختلف بحسب قوة الشبهة، فأقل الشبهات ورودا، وأيسر الحجج قدوما على المخالف فيما يتعلق بأصل دعوة غير الله معه، وبالاستغاثة بغير الله، وفي الذبح لغير الله، ونحو ذلك.

ومن أكثرها اشتباها إلا على المحقق من أهل العلم مسألة الشفاعة ولهذا الشيخ -رحمه الله- أتى بهذا الباب، وقال: باب الشفاعة، وبيَّن لك بما ساق من الأدلة من الكتاب والسنة أن الشفاعة لا تصح إلا بشروط، الشفاعة التي تنفع فإنها لا تصح إلا بشروط، وكذلك هناك شفاعة منفية ليست كل شفاعة تقبل، وإنما هناك شفاعة تُقبل، وهناك شفاعة تُرد، تُقبل بشروط وتُرد أيضا بأوصاف.

فإذن صار عندنا أن الشفاعة قسمان في القرآن والسنة، شفاعة منفية وشفاعة مثبتة، أما الشفاعة المنفية فهي التي نفاها الله -جل وعلا- عن أهل الإشراك، كما ساق الشيخ -رحمه الله- أول دليل قال: وقول الله عز وجل: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ .

فهذه الشفاعة منفية، وهي منفية عن الجميع عن الذين يخافون، عن أهل التوحيد وعن غيرهم، أما عن أهل التوحيد فهي منفية إلا بشروط وهي: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه جل وعلا عن الشافع، وعن المشفوع له، فإذن قوله هنا: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ يعني: أن الشفيع في الحقيقة هو الله -جل جلاله- دونما سواه.

ولهذا أعقبها بالآية الأخرى قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا فالشفاعة جميعا ملك لله، وأهل الإيمان وغيرهم في الحقيقة ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، ليس أحد يشفع لهم من دون الله -جل وعلا- بل لا بد أن تكون الشفاعة بالله يعني: بإذنه وبرضاه.

فإذن، إذا تقرر ذلك فإنه إذا نُفِيَتْ الشفاعة عن أحد سوى الله -جل وعلا- وأن الذي يملك الشفاعة إنما هو الله -جل وعلا- وحده؛ فإذن بطل التعلق، تعلق قلوب أهل الشفاعة الذين يسألون الموتى الشفاعة، بطل تعلقهم بمسألة الشفاعة؛ لأن الشفاعة ملك لله، وهذا لا يملكها.

هل تنفع الشفاعة مطلقا أم لا بد أيضا من قيود؟ نعم، الشفاعة تنفع لكن لا بد من شروط؛ ولهذا أورد الآيتين بعدها قال -جل وعلا-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ قال: وقوله: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى .

ووجه الاستدلال من الآية الأولى أن فيها قيد الإذن؛ فليس أحد يشفع إلا بشرط أن يأذن الله له مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يعني: لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه؛ لا الملائكة ولا الأنبياء، ولا المقربون، وإنما الله -جل وعلا- هو الذي يملك الشفاعة.

إذا كان كذلك وأنه لا بد من إذنه -جل وعلا- فمن الذين يأذن الله -جل وعلا- لهم؟ لا أحد إذن يبتدئ في الشفاعة دون أن يُؤْذَن له، فإذا كان كذلك، فإذن رجع الأمر إلى أن الله هو الذي يوفق للشفاعة، وهو الذي يأذن بها، ولا أحد يبتدئ بالشفاعة. كذلك الآية الأخرى قال: إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ يعني من الشافعين ويرضى يرضى قول الشافع، ويرضى أيضا عن المشفوع لهم.

هذه الشروط فائدتها -وهي فائدة هذا الباب- أنه لا أحد يتعلق إذن بأن هذا الذي طلبت منه الشفاعة أن له مقاما عند الله يملك به أن يشفع كما يعتقد أهل الشرك في أن آلهتهم تشفع، ولا بد أن تشفع.

فاعتقاد المشركين الذين بعث إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء أكانوا من الأميين، أم من أهل الكتاب يعتقدون أن من توجهوا له بالشفاعة من الآلهة أنه يشفع جزما إذا توجه إليه، وتذلل له، وتقرب إليه بالعبادات وطلبت منه الشفاعة عند الله، فإنه يشفع جزما، وأن الله -جل وعلا- لا يرد شفاعته.

فهذه الآيات فيها إبطال لدعوى أولئك المشركين في أنه ثم أحد يملك الشفاعة بدون إذن الله وبدون رضاه عن المشفوع له، وإذا ثبت أنه لا أحد يملكها، وأن من يشفع إنما يشفع بإكرام الله له، وبإذنه -جل وعلا- له، فإذن كيف يتعلق المتعلق بهذا المخلوق؟ إنما يتعلق بالذي يملك الشفاعة.

ولهذا شفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- يوم القيامة حاصلة، لكن نطلبها ممن نطلبها؟ من الله، فنقول: اللهم شَفِّعْ فينا نبيك؛ لأنه هو الذي يفتح ويلهم النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يشفع في فلان، وفي فلان، فيمن سألوا الله أن يشفع لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- لهذا أعقبها الشيخ -رحمه الله- بآية سبأ.

قال: وقوله: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ .

هذه ثلاث حالات: الحالة الأولى أن يدعو الذين زعموهم من دون الله، وأن ينظروا هل يملكون مثقال ذرة في السماوات، أو في الأرض، قال جل وعلا: لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ فإذن الملك الاستقلالي لهم نُفِيَ، وهذه هي الحالة الأولى.

والثانية قال: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ أيضا نفى أن يكونوا شركاء لله في الملك في تدبير السماوات والأرض، في ملك شيء من السماوات والأرض، فنفى أولا أن يملكوا استقلالا، ونفى ثانيا أن يملكوا شركة قال جل وعلا بعدها: وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ .

الظهير هو المعاون والمؤازر والوزير، قال: ما له جل وعلا منهم يعني: من تلك الآلهة من وزير ولا معاون؛ لأنه قد يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن ثمة مَن يعين الله على أمره، مثل الملائكة أو مثل الأنبياء، فإذا توجه إلى أولئك بالدعاء وبالطلب، كان التوجه إلى مَن يعين الله، فيكون إذا طلب من الله، فإن الله لا يرده؛ لأنه يعينه.

بنوا ذلك على تشبيه الخالق -جل وعلا- بما يحصل من المخلوقين، فإن الملك في هذه الدنيا أو الحاكم أو الأمير إذا كان من يعينه ومن يظاهره وشفع لأحد فإنه لا يرد شفاعته؛ لأنه يحتاجه؛ فلأجل هذه الحاجة لا يرد الأمير أو الملك شفاعة مَن له ظهير، من كان له ظهيرا.

فيظن المشركون أن بعض تلك الآلهة معاونة لله -جل وعلا- فنفى الله -جل وعلا- هذا الاعتقاد الجاهلي، ونفى أخيرا اعتقادا آخر، وهو أن تلك الآلهة تملك الشفاعة، قال جل وعلا: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فنفى آخر ما نفى الشفاعةَ، وأثبتها بشرط قال: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ .

فالشفاعة تنفع بشرط أن يأذن الله، فإذن لا يبتدئ هذا الشافع فيشفع، فإذا كان كذلك توجه السؤال إذن الآن: مَن الذين يأذن الله لهم؟ إذا كان ليس له شريك، وليس له ظهير، وليس له أيضا شفيع عنده، ليس عنده شفيع إلا بإذنه، فمن ذا الذي إذن يشفع عنده بإذنه؟ من هم؟ ومن الذي يأذن له الله جل وعلا ؟

الجواب في ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، فيما ساقه الشيخ -رحمه الله- بعد ذلك إذن؛ فالآيات التي سبقت من أول الباب إلى هنا رتبها الإمام -رحمه الله- ترتيبا موضوعيا فالآيات، الأول وجه الاستدلال منها أن الشفاعة ملك لله. الآية الأولى والثانية، وأنه ليس لأحد شيء من الشفاعة يعني: ليس أحد يملك شيئا من الشفاعة، فإذا كان لا يملك إذن من يشفع؟ كيف يشفع؟

يشفع بأن يُعْطَى الشفاعة، يُؤْذَن له بالشفاعة، يُكْرَم بالشفاعة من يشفع؟ هل يشفع استقلالا؟ نفى شفاعة الاستقلال، وأثبت الشفاعة بشرطٍ وهو شرط الإذن والرضا، إذا كان كذلك فمن الذي يؤذن له؟ ومن الذي يرضى له أن يشفع؟ ومن الذي يرضى عنه أن يشفع فيه ؟

هذه ثلاثة أسئلة جوابها في كلام شيخ الإسلام حيث قال المصنف -رحمه الله-: قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك، أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى .

فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، منتفية يوم القيامة يعني: عن جميع الخلق إلا لمن أثبت الله -جل وعلا- له بالاستحقاق، أو أن يكون نائلا تلك الشفاعة. يعني: الأصل ألا شفاعة إلا لمن رضي الله قوله، أو أذن له جل وعلا.

قال كما نفاها القرآن، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، قول الشيخ -رحمه الله-: فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، يعني: منتفية بدون شروط؛ لأن المشركين يعتقدون أنها تحصل بدون إذن من الله، ولا رضاه؛ لأن الشافع عندهم يملك الشفاعة، ولكن هي تحصل بالشرط، كما أثبت ذلك الكتاب والسنة.

قال: يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه .

فالدليل الأول من السنة في أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد ولد آدم لا يشفع حتى يؤذن له. يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع هذا في دليل الإذن، من الذي يُؤْذَن له؟ يؤذن للنبي -عليه الصلاة والسلام- ويؤذن لغيره لا يَبْتَدِئُون، وإنما يستأذنون في الشفاعة فيؤذن لهم لِمَ؟ لأنهم لا يملكونها، وإنما الذي يملكها عند الله إنما هو الله، جل وعلا، سبحانه وتعالى.

من الذي يؤذن في الشفاعة فيه؟ من الذي يرضى عنه في الشفاعة؟ جاء بالحديث الآخر حيث قال أبو هريرة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه فهذا الذي يرضى عنه فيشفع فيه بعد إذن الله -جل وعلا- هو صاحب الإخلاص، هم أهل التوحيد.

فإذن تلك الشفاعة منتفية عن أهل الشرك؛ لهذا قال: فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، فإذا كان كذلك فيكون الذي توجه إلى الموتى، إلى الرسل، أو إلى الأنبياء، أو إلى الصالحين، أو إلى الطالحين، يطلب منهم الشفاعة، فإنه مشرك؛ لأنه توجه بالدعاء لغير الله، وأولئك لا يملكون الشفاعة، وإنما يشفعون بعد الإذن والرضا.

والرضا يكون عن أهل التوحيد، وأهل التوحيد هم الذين لا يسألون الشفاعة أحدا من الموتى، فإذن كل من سأل ميتا الشفاعة، فقد حرم نفسه الشفاعة؛ لأنه أشرك بالله -جل وعلا- والشفاعة المثبتة إنما هي لأهل الإخلاص، ليس لأهل الشرك فيها نصيب. ونقف عند هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فهذا أخ يقول: ما الفرق بين التوسل والشفاعة؟ نرجو التوضيح، وجزاكم الله خيرا.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد، التوسل هو اتخاذ الوسيلة، والوسيلة هي الحاجة نفسها، أو من يوصل إلى الحاجة، قد يكون ذلك التوسل باستشفاع يعني: بطلب شفاعة يعني: يصل إلى حاجته بحسب ظنه بالاستشفاع.

وقد يصل إلى حاجته بحسب ظنه بغير الاستشفاع، فيتوسل مثلا بالذوات يسأل الله بالذات، يسأل الله بالجاه، يسأل الله بحرمة فلان، مثل أن يقول: أسألك اللهم بنبيك محمد، بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- أو يقول: أسألك اللهم بأبي بكر، أو بعمر، أو بالإمام أحمد، أو بابن تيمية، أو إلى آخره، بالولي فلان، بأهل بدر، بأهل بيعة الرضوان، يسأله بهم، هذا هو الذي يسمونه توسلا.

وهذا التوسل معناه أنه جعل أولئك وسيلة، وأحيانا يقول: لفظ الحرمة: أسألك بحرمتهم أسألك بجاههم، ونحو ذلك. أما الاستشفاع فهو أن يسألهم الشفاعة، يطلب منهم أن يشفعوا له.

فَتَحَصَّلَ من ذلك أن التوسل يختلف عن الاستشفاع؛ فإن المستشفع طالب للشفاعة؛ والشفاعة إذا طلبها من العبد؛ فيكون قد سأل غير الله، وأما المتوسل بحسب العرف، عرف الاستعمال، المتوسل يسأل الله لكن يجعل ذلك بوسيلة أحد؛ فالاستشفاع سؤال لغير الله. وأما الوسيلة فهي سؤال الله بفلان، بحرمته، بجاهه.

والتوسل بالذوات وبالجاه وبالحرمة لا يجوز؛ لأنه اعتداء في الدعاء؛ ولأنه بدعة محدثة؛ وهو وسيلة إلى الإشراك؛ وأما الاستشفاع بالمخلوق الذي لا يملك الدعاء؛ وهو الميت أو الغائب أو نحو ذلك؛ فهذا طلب ودعاء لغير الله؛ وهو شرك أكبر؛ فالتوسل بحسب العرف هذا من البدع المحدثة؛ ومن وسائل الشرك، وأما طلب الشفاعة من غير الله فهو دعاء غير الله، وهو شرك أكبر.

الجاهليون والخرافيون والقبوريون يسمون عباداتهم جميعا: من طلب الشفاعة، ومن الذبح، والنذر، ومن الاستغاثة، ومن دعاء الموتى يسمونها توسلا، وهذا غلط على اللغة، وعلى الشرع، فالكلام في أصله ما يصح المعنى به لغة، وبين التوسل والشفاعة في أصله ما يصح لغة، أما إذا أخطأ الناس، وسموا العبادات المختلفة توسلا، فهذا غلط من عندهم، نعم.

وهذا يقول: ما حكم ما يوضع على السيارات، أو المنازل عبارات مثل ما شاء الله، وتبارك الله، أو هذا من فضل ربي؟

هذا له حكم تعليق بعض الآي أو الآي على الحيطان، أو في السيارات، أو نحو ذلك، فإن كان المقصود منها الإرشاد إلى عمل شرعي مسنون، فهذا مشروع أو مباح، وأما إن كان القصد منها الحفظ أن تحفظه وأن تحرسه من العين، أو من الأذى فهذا راجع إلى اتخاذ التمائم من القرآن ونحوه، نعم.

وهذا يقول: ما رأيكم في امرأة طلبت من قريب لها ذاهب إلى مكة أن يشتري لها كفنا من هناك، وأن يغسل الكفن بماء زمزم. يقول: وهذا الأمر منتشر، وجزاكم الله خيرا.

هذا تبرك بما يباع في مكة، واعتقاد فيه، وهذا باطل، ولا يجوز؛ لأن ما يباع في مكة ليس له خصوصية في البركة، وليس له خصوصية في النفع، بل هو وما يباع في غيره سواء، هو وما يباع في غير الحرم سواء.

وأما غسله بماء زمزم لرجاء أن يكون ذلك الكفن فيه من بركة ماء زمزم، فكذلك هذا غلط؛ لأن بركة ماء زمزم مقيدة بما ورد فيه الدليل، ليست بركة عامة، إنما هي بركة خاصة بما جاء فيه الدليل.

ولهذا الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يستعملون ماء زمزم إلا فيما جاءت به الأدلة، من مثل: ماء زمزم لما شرب له ومن مثل قوله عليه الصلاة والسلام في زمزم: إنها طعام طعم وشفاء سقم .

أما التبرك بها في غير ذلك؛ فهذا ليس له أصل شرعي.

وهذا يقول: ما حكم الاغتسال بماء زمزم، والماء المقروء فيه القرآن. في بيوت الخلاء ؟

لا بأس بذلك؛ لأنه ليس فيه قرآن مكتوب، وليس فيه المصحف مكتوبا، وإنما فيه الريح النفث بالهواء الذي خالطه المصحف، أو خالطته القراءة، ومن المعلوم أن أهل مكة في أزمنتهم الأولى كان يستعملون ماء زمزم، ولم يكن عندهم غير ماء زمزم، فالصواب أنه لا كراهة في ذلك وأنه جائز، والماء ليس فيه قرآن، إنما فيه نفث بالقرآن، وفرق بين المقامين، نعم.

وهذا يقول: ما الحكم إذا ذبح العبد ذبيحة من أجل أن الله قد شفى مريضه، وخرج من المستشفى؟

هذا يرجع إلى نيته في ذبح هذه الذبيحة، فإذا كانت بعد الانتهاء من المرض، وبعد أن ارتفع المرض، وعُوفِيَ وشُفِيَ ذلك المريض بفضل الله -جل وعلا- وبنعمته فهذا يختلف حاله: إذا قصد أنها شكر لله -جل وعلا- يتصدق بلحمها، فهذا حسن؛ لأن المرض قد انتهى وارتفع، فهو لا يقصد بها الاستشفاع، وإنما هي نوع شكر لله -جل وعلا- أو دعا عليها أحدا من أقربائه، أو ممن يحبون ذلك المريض، ونحو ذلك فهذا من باب الإكرام.

وأما إذا كانت مقاصده أو نياته في هذا الذبح أن يدفع رجوع هذا المرض مرة أخرى، أو أن يدفع شيئا من انتكاسات المرض، أن يدفع شيئا مما يخافه، فهذا داخل في عدم الجواز سدا لذريعة الاعتقادات الباطلة، نعم.

وهذا يقول: قرأت في كتاب لأحد المؤلفين ينقل فيه: إذا خفت على ولدك أو على نفسك من العين فضع نقطة سوداء على الجبهة؛ لتصرف عنك العين.

اعتقادات الناس في دفع العين لا حصر لها، والجامع لذلك أن كل شيء يفعله الناس مما يعتقدونه سببا، وليس هو بسبب شرعي ولا قَدَري، فإنه لا يجوز اتخاذه، وهذا يختلف عما جاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه رأى غلاما صغيرا حسن الصورة، وخاف عليه العين، فقال لأهله: دسموا نونته ففعلوا.

هذا من إظهار عدم الحسن، ليس التدسيم -وهو وضع نقطة في بعض الوجه- ليس لأجل أن تدفع تلك النقطة العين؛ ولكن لأجل أن يظهر بمظهر ليس بحسن؛ فلا تتعلق النفوس الشريرة به، فإذا كان وضع هذه النقطة التي ذكر لأجل اعتقاد أنها تدفع العين، فهذا من اتخاذ الأسباب الشركية التي لا تجوز، وإن كان لأجل إظهار عدم الحسن في تلك الصورة الجميلة، أو ذلك الجسد المعافى، أو نحو ذلك، فإن هذا لا بأس به، والله أعلم، نعم.

وهذا يقول: بعض العلماء أجاز التوسل، ودليلهم حديث الأعمى فكيف يرد عليهم؟ وجزاكم الله خيرا.

حديث الأعمى رواه الترمذي وغيره، وهو حديث حسن، وهناك رواية أخرى طويلة في معجم الطبراني الصغير في هذا الحديث وفيها زيادة أن أحد الصحابة وهو عثمان بن حنيف -رضي الله عنه- أنه أرشد إلى استعمال ذلك الدعاء بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام-.

والقدر الأول، وهو أن الأعمى توسل بالنبي -عليه الصلاة والسلام- في حياته، هذا صحيح وجار على الأصول؛ حيث إن التوسل بالنبي -عليه الصلاة والسلام- في حياته توسل بدعائه، وهو عليه الصلاة والسلام يملك ذلك، ويستطيعه ويقدر عليه.

أما التوسل بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أي بدعائه أو بذاته أو بنحو ذلك بعد وفاته، فإنه لا يجوز؛ لأنه مِن طلب الشيء ممن لا يملكه؛ والرواية التي في الطبراني الصغير ضعيفة، وفيها مجاهيل؛ ولذلك ليست بحجة فيما ورد في استعمال الصحابة ذلك بعد وفاته.

والذي يدل أيضا على أن ذلك خاص بالأعمى، وعلى أصل الاستشفاع، أنه رحمة من الله -جل وعلا- للمستشفع، وفضل منه عليه، وإزالة عما به أن ذلك الأعمى رأى النور وأبصر بعد دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام- له، وتوجه ذلك الأعمى إلى الله -جل وعلا- أن يجيب فيه دعاء نبيه -عليه الصلاة والسلام-.

الصحابة الآخرون الذين كانوا مكفوفين لم يدعو بهذا الدعاء، فكان في المدينة أناس عدة قد كُفَّتْ أبصارُهم، منهم ابن أم مكتوم وجماعة فما دعوا بذلك الدعاء، وإنما كان ذلك خاصا بذلك الأعمى، فالعلماء لهم في ذلك توجيهان:

التوجيه الأول: أن ذلك الدعاء كان خاصا بذلك الأعمى، بدليل عدم استعمال بقية الصحابة ذلك الدعاء، وعدم إرشاد النبي -عليه الصلاة والسلام- لهم أن يزال ما بهم من عمى البصر بذلك الدعاء.

والتوجيه الثاني: أن ذلك خاص بحياته -عليه الصلاة والسلام- ولا يكون بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- وهذا الثاني والأول جميعا ظاهرة صحيحة، والصحابة فهموا ذلك؛ ولهذا ثبت في البخاري وغيره أن عمر -رضي الله عنه- لما أجدبوا قال وهو يخطب للاستسقاء قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا بنبيك، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك، يا عباس قم فادع الله لنا .

قال العلماء: انتقل عمر من الفاضل وهو النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى المفضول وهو العباس عم النبي -عليه الصلاة والسلام- لعلة شرعية؛ وهو أن الدعاء من الحي ممكن، وأما من غير الحي، حياة الدنيا المعروفة، فإنه غير ممكن، وإلا يكون عمر -رضي الله عنه- انتقل من الفاضل إلى المفضول لغير علة شرعية؛ وهذا ممتنع فقها للصحابة -رضوان الله عليهم-. نعم.

بقي في الباب الذي قبله بعد الشفاعة الأسطر الأخيرة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فوقفنا عند قوله: وحقيقته يعني: حقيقة الشفاعة أن الله -سبحانه- هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه، وينال المقام المحمود، هذا في حقيقة الشفاعة فإننا ذكرنا لكم أن الشفاعة نفي أن يملكها أحد إلا الله -جل وعلا- قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا .

اللام هذه لام الملك يعني: الذي يملك الشفاعة، هو الله -جل وعلا- وقال: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ فإن الشفاعة إنما هي لله -تبارك وتعالى- وجاء في الأدلة أن الشفاعة منفية عن المشركين، وأن الشفاعة النافعة إنما هي لأهل الإخلاص بشرطين: الإذن، والرضا.

إذا تقرر ذلك فما حقيقة الشفاعة؟ يعني ما حقيقة حصولها؟ وكيف تحصل؟ الجواب في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: حقيقته أن الله -سبحانه- هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص يعني أن الذين شُفِعَ لهم إنما ذلك بتفضل الله -جلا وعلا- عليهم، وهم أهل الإخلاص حيث جاء في حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه، أو قال خالصا من قلبه ونفسه .

فأهل الإخلاص هم الذين يكرمهم الله بالشفاعة، فالمتفضل بالشفاعة هو الله -جل وعلا- فإذا ثبت ذلك انقطع القلب من التعلق بغير الله؛ لأجل الشفاعة، فإن الذين توجهوا إلى المعبودات المختلفة إلى الأولياء إلى الصالحين إلى الملائكة إلى غير ذلك توجهوا إليهم رجاء الشفاعة، كما قال -جل وعلا- عنهم: وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ .

فإذا بطل أن تكون لهم الشفاعة، وأن المتفضل بالشفاعة هو الله -جل وعلا- فإن الله -جل جلاله- إنما يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة من دعا بواسطة دعاء الذي أذن له أن يشفع، وهاهنا سؤال: لِمَ لَمْ يتفضل الله عليهم أن يغفر لهم بدون واسطة الشفاعة؟

والجواب عن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بقوله: ليكرمه، فهو إظهار فضل الشافع، إظهار إكرام الله -جل وعلا- للشافع في ذلك المقام؛ إذ كما هو معلوم أن الشافع الذي قبلت شفاعته، ليس في المقام مثل المشفوع له، فالله -جل وعلا- يظهر إكرامه لمن أذن له أن يشفع، ويظهر رحمته بالشافع؛ لأن الشافع له قرابة يريد أن يشفع لهم، أحباب يريد أن يشفع لهم.

لذلك الشفاعة يوم القيامة لأهل الكبائر ليست خاصة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بل يشفع الأنبياء، وتشفع الملائكة، ويشفع أيضا الصالحون، فهذه شفاعات مختلفة في أهل الكبائر؛ لإكرام الله -جل وعلا- للشافع ورحمة للشافع، وأيضا رحمة للمشفوع له، وإظهار فضل الله -جل وعلا- على الشافع والمشفوع له.

هذه هي حقيقة الشفاعة أن الله -جل وعلا- يتفضل فيقبل الشفاعة بإذنه، يتفضل على الشافع، ويكرمه بأن يشفع، يتفضل ويرحم المشفوع له فيقبل فيه الشفاعة.

فإذن هي كلها دالة لمن كان له قلب على عظم الله -جل وعلا- وتفرده بالملك، وتفرده بتدبير الأمر، وأنه الذي يجير ولا يجار عليه سبحانه وتعالى، هو الذي له الشفاعة كلها، هو الذي له ملك الأمر كله، ليس لأحد منه شيء، وإنما يظهر فضله ويظهر إحسانه ويظهر رحمته، ويظهر كرمه لتتعلق القلوب به.

فبطل إذن أن يكون ثم تعلق للقلب بغير الله -جل وعلا- لأجل الشفاعة فالذين تعلقوا بالأولياء، أو تعلقوا بالصالحين، أو بالأنبياء، أو بالملائكة؛ لأجل الشفاعة.

هذه هي حقيقة الشفاعة من أنها فضل من الله -جل وعلا- وإكرام، فإذا كانت كذلك وجب أن تتعلق القلوب به -سبحانه وتعالى- في رجاء الشفاعة؛ إذ هو المتفضل بها على الحقيقة؛ والعباد مُكْرَمُون بها لا يبتدئون بالقول، ولا يسبقون بالقول، وإنما يجلون ويخافون ويثنون على الله، ويحمدون حتى يؤذن لهم بالشفاعة.

ثم قال شيخ الإسلام: فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، التي نفاها القرآن في مثل قوله جل وعلا: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ هذه شفاعة منفية، هي الشفاعة التي فيها شرك، كذلك الشفاعة للمشركين منفية؛ لأنهم لم يرض عنهم.

فالشفاعة التي فيها شرك من جهة الطلب، أو من جهة من سئل له بأن كان ذلك مشركا، فإنها منفية عن أهلها لا تنفعهم، فإذن يثبت بذلك أن الذي هو حقيق بالشفاعة هو الذي أنعم الله عليه بالإخلاص، ووفقه لتعظيمه، وتعليق القلب به وحده دون ما سواه، فإذن كل مشرك الشفاعة عنه منفية، كل شرك الشرك الأكبر فالشفاعة عنه منفية؛ لأن الشفاعة فضل من الله لأهل الإخلاص.

أما الشفاعة المثبتة فهي التي أثبت يعني: جاء إثباتها بشرط الإذن والرضا. قال شيخ الإسلام بعد ذلك: "ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وهذه هي الشفاعة المثبتة، أثبتها بإذنه في مواضع" يعني: بشرط الإذن، والإذن إذن كوني وإذن شرعي، فالمأذون له لا يمكن أن تحصل منه الشفاعة إلا أن يأذن الله له كونا، بأن يشفع، فإذا منعه الله كونا أن يشفع، ما حصلت منه الشفاعة، ولا تحرك بها لسانه.

كذلك الإذن الشرعي في الشفاعة بأن تكون الشفاعة ليس فيها شرك، وأن يكون المشفوع له ليس من أهل الشرك، ويُخَصُّ من ذلك أبو طالب حيث يشفع له النبي -عليه الصلاة والسلام- في تخفيف العذاب عنه، فهي شفاعة ليست في الانتفاع بالإخراج من النار، إنما هي في تخفيف العذاب، وهي خاصة هذه للنبي -عليه الصلاة والسلام- بما أوحي الله -جل وعلا- إليه، وأذن له بذلك.

قال -رحمه الله- في آخر كلامه: "وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص، وهذه هي الشفاعة المثبتة" فتبين بهذا الباب أن الشفاعة التي تعلقت بها قلوب الخرافيون والمتعلقون بغير الله أن ذلك باطل، وأن قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله هذا قول باطل؛ إذ الشفاعة التي تنفع إنما هي لأهل الإخلاص، وما دام أنهم طلبوا الشفاعة من غير الله، فقد سألوا غير الله -جل وعلا- الشفاعة، وهذا مؤذن بحرمانهم من الشفاعة، فإنما هي لأهل الإخلاص.

وخلاصة الباب أن تعلق أولئك بالشفاعة إنما هو عليهم، ليس لهم؛ لأنهم لما تعلقوا بالشفاعة حرموها؛ لأنهم تعلقوا بشيء، لم يأذن الله -جل وعلا- به شرعا بأن استخدموا الشفاعات الشركية، وتوجهوا إلى غير الله وتعلقت قلوبهم بغير الله.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تركيه الخضرى
المدير المساعد
المدير المساعد
تركيه الخضرى


انثى عدد الرسائل : 3347
نقاط : 10540
تاريخ التسجيل : 19/02/2010

كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Empty
مُساهمةموضوع: باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ   كتاب التوحيد   شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ Emptyالخميس 08 أبريل 2010, 8:13 am

باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المصنف -رحمه الله تعالى-: باب قول الله -تعالى-: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .

وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعاد فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك فأنزل الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى وأنزل الله -تبارك وتعالى- في أبي طالب: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ


--------------------------------------------------------------------------------


الباب الذي بعده باب قول الله -تعالى-: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أن الهداية من أعز المطالب، وأعظم ما تعلق به الذين تعلقوا بغير الله أن يكون لهم النفع في الاستشفاع، وفي التوجه في الدنيا والأخرى.

والنبي -عليه الصلاة والسلام- وهو سيد ولد آدم، وهو أفضل الخلق عند ربه -جل وعلا- نفي عنه أن يملك الهداية، وهي نوع من أنواع المنافع، فدل على أنه عليه الصلاة والسلام ليس له من الأمر شيء، كما جاء في ما سبق في باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ في سبب نزول قول الله -تعالى-: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ .

فإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- ليس له من الأمر شيء، ولا يستطيع أن ينفع قرابته: يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا .

إذا كان هذا في المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأنه لا يغني من الله -جل وعلا- عن أحبابه شيئا، وعن أقاربه شيئا، وأنه لا يملك شيئا من الأمر، وأنه ليس بيده هداية التوفيق، فإنه أن ينتفي ذلك، وما دونه عن غير النبي -صلى الله عليه وسلم- من باب أولى.

فبطل إذن كل تعلق للمشركين من هذه الأمة بغير الله -جل وعلا- لأن كل من تعلقوا به هو دون النبي -عليه الصلاة والسلام- بالإجماع، فإذا كانت هذه حال النبي -عليه الصلاة والسلام- وما نفي عنه، فإن نفي ذلك عن غيره -صلى الله عليه وسلم- من باب أولى قال هنا: باب قول الله -تعالى-: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .

قال هنا: باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ "لا" هنا نافية، وقوله: "تهدي" الهداية المنفية هنا هي هداية التوفيق والإلهام الخاص، والإعانة الخاصة هي التي يسميها العلماء هداية التوفيق والإلهام.

ومعناها أن الله -جل وعلا- يجعل في قلب العبد من الإعانة الخاصة على قبول الهدى، ما لا يجعله لغيره، فالتوفيق إعانة خاصة لمن أراد الله توفيقه.

بحيث يقبل الهدى، ويسعى فيه، فَجَعْلُ هذا في القلوب ليس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ القلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، حتى من أحب لا يستطيع عليه الصلاة والسلام أن يجعله مسلما مهتديا، فمن انفع قرابته له أبو طالب، ومع ذلك لم يستطع أن يهديه هداية توفيق، فالمنفى هنا هو هداية التوفيق.

والنوع الثاني من الهداية المتعلقة بالمكلف: هداية الدلالة والإرشاد، وهذه ثابتة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بخصوصه، ولكل داع إلى الله، ولكل نبي ورسول قال جل وعلا: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ .

وقال جل وعلا في نبيه -عليه الصلاة والسلام-: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ فتهدي يعني: لتدل وترشد إلى صراط مستقيم بأبلغ أنواع الدلالة، وأبلغ أنواع الإرشاد، الدلالة والإرشاد المؤيدان بالمعجزات والبراهين، والآيات الدالة على صدق ذلك الهادي، وصدق ذلك المرشد، فإذن الهداية المنتفية إذن هي هداية التوفيق.

وهذا يعني أن النفع وطلب النفع في هذه المطالب المهمة يجب أن يكون من الله - جل وعلا- وأن محمدا -عليه الصلاة والسلام- مع عِظَم شأنه عند ربه، وعظم مقامه عند ربه، وأنه سيد ولد آدم، وأنه أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، وأشرف الأنبياء والمرسلين إلا أنه لا يملك من الأمر شيئا، عليه الصلاة والسلام.

فبطل إذن تعلق القلوب في المطالب المهمة في الهداية، وفي المغفرة، وفي الرضوان، وفي البعد عن الشرور، وفي جلب الخيرات إلا بالله -جل وعلا- إنه هو الذي تتعلق القلوب به خضوعا وإنابة ورغبا، ورهبا وإقبالا عليه، وإعراضا عما سواه سبحانه وتعالى.

قال بعد ذلك: "في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- …. إلى أن قال: فقال له: يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله.

فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله .

في هذا القدر من الفائدة أن هذه الكلمة كلمة لا إله إلا الله ليست كلمة مجردة عن المعنى، تنفع من قالها، ولو لم يقر بمعناها، والعرب كانوا لصلابتهم وعزتهم ورجولتهم ومعرفتهم بما يقولون، كانوا إذا تكلموا بكلام يَعُونَ ما يتكلمون به، يعون كل حرف، وكل كلمة، خوطبوا به أو نطقوا به هم.

فلما قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله، مع أنها كلمة يسيرة، لكن أَبَوْا؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة معناها إبطال إلهك من سوى الله -جل وعلا- ولهذا قال -جل وعلا-: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الآيات.

وكذلك قوله في أول سورة "ص" قول الله -جل وعلا- مخبرا عن قولهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا استنكروا لا إله إلا الله، وهذا هو الذي حصل مع أبي طالب حيث قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله .

فلو كانت مجردة من المعنى عندهم، أو يمكن أن يقولها دون اعتقاد ما فيها، ورضا بما فيها، ويقين وانتفاء الريب، لقالها لكن ليس هذا المقصود من قول: لا إله إلا الله؛ بل المقصود هو: قولها مع تمام اليقين بها، وانتفاء الريب، والعلم، والمحبة إلى آخر الشروط.

فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب وهذا فيه والعياذ بالله ضرر جليس السوء على المُجَالِس له فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك .

وهذا موطن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبة هذا الحديث لهذا الباب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لأستغفرن لك واللام هنا هي التي تقع في جواب القسم، فثَمَّ قَسَمٌ مقدرٌ تقديره: والله لأستغفرن لك .

وحصل من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن استغفر لعمه، ولكن هل نفع عمَّهُ استغفارُ النبي -صلى الله عليه وسلم- له؟ لم ينفعه ذلك، وطلب الشفاعة والاستشفاع هو من جنس طلب المغفرة، فالاستغفار طلب المغفرة، والشفاعة قد يكون منها طلب المغفرة فردت.

رد ذلك؛ لأن المطلوب له؛ لأن المُسْتَشْفَع له المشفوع له مشرك بالله، والاستغفار والشفاعة لا تنفع أهل الشرك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يملك أن ينفع مشركا في مغفرة ذنوبه، أو أن ينفع أحدا ممن توجه إليه بشرك في إزالة ما به من كربات، أو جلب الخيرات له.

لهذا قال: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله -عز وجل- مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ .

وهذا ظاهر في المقام أن الله -جل وعلا- نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر للمشركين، وكلمة مَا كَانَ في الكتاب والسنة تأتي على استعمالين:

الاستعمال الأول: النهي. والاستعمال الثاني: النفي.

النهي مثل هذه الآية وهي قوله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ هذا نهي عن الاستغفار لهم، وكذلك قوله: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً والنفي كقوله: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ .

ونحو ذلك من الآيات فإذن مَا كَانَ في القرآن تأتي على هذين المعنيين، وهنا المراد بها النهي، نهي أن يستغفر أحد لمشرك، وإذا كان كذلك فالميت الذي هو من الأولياء من الأنبياء من الرسل، فإذا نهي في الحياة الدنيا أن يستغفر لمشرك، فهو أيضا، لو فرض أنه يقدر على الاستغفار في حال البرزخ، فإنه لن يستغفر لمشرك، ولن يسأل الله لمشرك توجه إليه بالاستشفاع أو توجه إليه بالاستغاثة، أو بالذبح، أو بالنذر، أو تألهه، أو توكل عليه، أو أنزل به حاجاته من دون الله جل وعلا.

قال: وأنزل الله في أبي طالب إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ نعم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
كتاب التوحيد شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مقدمة مؤلف كتاب عقيدة اهل السنه والجماعه الشيخ محمد بن صالح العثيمين
» سيرة وقصة حياة الداعية الفقيه الشيخ الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله
» تقدمة كتاب عقيدة اهل السنه والجما عه للشيخ محمد بن صالح العثيمن رحمه الله
» رد الشيخ كشك على دكتور نصراني حول التوحيد والثالوث
» الى الاخوه زوار واعضاء منتدانا الحبيب كنوز النت (كتاب التوحيد سؤال وجواب)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كنوز النت الإسلامية :: © الأقسام الإسلامية © :: ©المنتدى الإسلامي العام©-
انتقل الى: