الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال شيخ الإسلام والمسلمين مُجَدِّد الدعوة والدين الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: كتاب التوحيد، وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وقوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا .
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال: لا تبشرهم فيتكلوا أخرجاه.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بعث عباده المرسلين بتوحيده، فأقاموا الحجة على العباد، واتفقوا من أولهم إلى آخرهم على ألا معبود حقٌ إلا الله، وعلى أن عبادة غيره باطلة، وأنه ما عُبِدَ غير الله إلا بالبغي والظلم والعدوان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تأكيدا بعد تأكيد، ببيان مقام التوحيد، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد.
فهذا الكتاب، وهو كتاب التوحيد للإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب وهو غني عن التعريف؛ لما جعل الله -جل وعلا- لدعوته من أثر في شرق الأرض وفي غربها وفي شمالها وفي جنوبها ذلك أنها دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وكتاب التوحيد -الذي نحن الآن بصدد شرحه- كتاب عظيم جدا، وأجمع العلماء أعني: علماء التوحيد على أنه لم يُصَنَّف في الإسلام في موضوعه مثلُه، فهو كتاب وحيد وفريد في بابه؛ لأنه -رحمه الله- طرق في هذا الكتاب مسائل توحيد العبادة، وما يضاد ذلك التوحيد إما من أصله وإما يراد كماله، وهذا على نحو التفصيل الذي ساق به الشيخ -رحمه الله- تلك المسائل والأبواب لم يوجد في كتاب على نحو سياقته مجموعا.
ولهذا طالب العلم لا يستغني ألبتة عن هذا الكتاب من جهة معرفته بمعانيه؛ لأنه مشتمل على الآي والحديث، وقد شبه بعض العلماء هذا الكتاب بأنه قطعة من صحيح البخاري -رحمه الله- وهذا ظاهر في أن الشيخ -رحمه الله- جعل هذا الكتاب ككتاب البخاري من جهة أن الترجمة فيها آية وحديث، والحديث دال على الترجمة، والآية دالة على الترجمة، وما بعدها مُفَسِّر لها، وما ساق من كلام أهل العلم من الصحابة أو من التابعين، أو من كلام أئمة الإسلام، فهو على نسق طريقة أبي عبد الله البخاري -رحمه الله- فإنه يسوق أقوال أهل العلم في بيان المعاني.
هذا الكتاب صنَّفه إمام الدعوة ابتداءً في البصرة لما رحل إليها، وكان الداعي إلى تأليفه ما رأى من شيوع الشرك بالله -جل جلاله- ومن افتقاد التوحيد الحق في المسلمين، فرأى مظاهر الشرك الأكبر والأصغر والخفي، فابتدأ في البصرة جمْعَ هذا الكتاب وتحرير الدلائل لمسائله.
ذكر ذلك تلميذه وحفيده الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- في المقامات ثم حرَّره الشيخ -رحمه الله- وأكمله لما قدم نجدا، وصار هذا الكتاب كتاب دعوة فهو يمثل الدعوة إلى التوحيد؛ لأن الشيخ -رحمه الله- بيَّن فيه أصول دلائل التوحيد، بيَّن فيه معناه وفضله، وبيَّن ضده والخوف من ضده، بيَّن أفراد توحيد العبادة، وأفراد توحيد الأسماء والصفات إجمالا.
وبيَّن الشرك الأكبر وصورا من الشرك الأكبر، وبيَّن الشرك الأصغر وصورا من الشرك الأصغر، وبيَّن الوسائل، وبيَّن حماية التوحيد، وما يكون به، وبيَّن أيضا شيئا من أفراد توحيد الربوبية، فهذا الكتاب -كتاب التوحيد- كتاب عظيم جدا.
ولهذا يعظم أن تعتني به عناية حفظ ودرس وتأمل؛ لأنك أينما كنت فأنت محتاج إليه في نفسك، أو في تبليغ العلم لمن وراءك، سواء كان ذلك في البيت أم كان في المسجد، أم كان في العمل، أم في أيِّ جهة، فمن فهم هذا الكتاب فهم أكثر مسائل توحيد العبادة، بل فهم جُلَّها وأغلبها.
نبتدأ الشرح، وقد كنت نظرت في كيف تكون طريقة شرح هذا الكتاب، والكتاب كما تعلمون طويل، لا يمكن شرحه بتوسط أو ببسط في نحو ثمانية عشر درسا، والعلماء الذين شرحوه -وهم كُثر- كانوا بين مطيل ومتوسط ومختصِر، فنظرت في ذلك فتقرر أن يكون الشرح فيه ذكر للفوائد التي كثيرا ما تلتبس على طلبة العلم، وفيه بيان مناسبة الآي والأحاديث في الترجمة.
وفيه بيان وجه الاستدلال من الآية أو من الحديث على المقصود، وفيه ذكر شيء من تقرير الحجج مع الخصوم في هذه المسائل ربما بما لا يطالعه كثير منكم في الشروح، وهذه الطريقة التي سنسلكها طريقة مختصرة سوف نأتي بها إن شاء الله تعالى، ونسأله المدد منه والإعانة والتوفيق، سنأتي بها على الكتاب كله بإذن الله، مع عدم الإخلال بإفهامه وعدم الإخلال بمعانيه.
قوله: كتاب التوحيد، وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ عادة المصنفين والمؤلفين أن يضعوا بعد البسملة، والحمد له خطبة للكتاب يذكرون فيها طريقتهم في هذا الكتاب، ومرادهم من تأليفه، وهاهنا سؤال معروف، وهو أن الشيخ -رحمه الله- خالف طريقة المصنفين فلم يجعل للكتاب خطبة يبين فيها طريقته، بل قال: كتاب التوحيد وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فأخلاه من الخطبة والسبب في ذلك والسر فيه فيما يظهر لي أن التوحيد الذي سيبينه الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب هو توحيد الله جل جلاله. وتوحيد الله بيَّنه الله -جل وعلا- في القرآن، فكان من الأدب في مقام التوحيد ألا يجعل فاصلا بين الحق، والدال على الحق، وكلام الدال عليه فالحق الذي لله هو التوحيد، والذي دل على هذا الحق هو الله -جل جلاله-، والدليل عليه هو كلامه، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا من لطائف أثر التوحيد على القلب كما صنع البخاري -رحمه الله- في صحيحه؛ إذ لم يجعل لصحيحه خطبة بل جعل صحيحه مبتدئا بالحديث ذلك أن كتابه كتاب سنة، ومن المعلوم أن الأدب ألا يتقدم بين يدي الله ورسوله، فلم يقدم كلامه على كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- فجعل البخاري صحيحه مفتتحا بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وكتابه كتاب سنة، فجعل كتابه في ابتدائه مبتدئا بكلام صاحب السنة -عليه الصلاة والسلام- وهذا من لطيف المعاني التي يرعاها مَن نوَّر الله قلوبهم لمعرفة حقه، وحق رسوله -صلى الله عليه وسلم-. كتاب التوحيد، التوحيد مصدر وحَّد يوحد توحيدا، وقد جاء هذا اللفظ التوحيد بقلة، وجاء في السنة الدعوة إلى توحيد الله كما جاء في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال: إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله إلى أن يوحدوا الله - يوحدوا مصدره التوحيد. وفي الرواية الأخرى من حديث ابن عباس هذا الذي فيه قصة بعث معاذ إلى اليمن، وهي في الصحيحين قال: فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فدل على أن التوحيد هو: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتحقيق هاتين الشهادتين هو تحقيق التوحيد. التوحيد جعل الشيء واحدا، وحَّد يعني جعله واحدا، نقول: وحدت المتكلم إذا جعلته واحدا، ووحَّد المسلمون الله إذا جعلوا المعبود واحدا وهو الله -جل وعلا- والتوحيد المطلوب يشمل ما أمر الله -جل وعلا- به في الكتاب من توحيده، وهو ثلاثة أنواع:
الأول: توحيد الربوبية.
والثاني: توحيد الألوهية.
والثالث: توحيد الأسماء والصفات.
توحيد الربوبية معناه توحيد الله بأفعاله، أفعال الله كثيرة منها: الخلق والرزق، والإحياء، والإماتة، وتدبير الملك، والنفع والضر، والشفاء، والإجارة يجير ولا يجار عليه، وإجابة دعوة المضطر، وإجابة دعوة الداعي، ونحو ذلك من أفراد الربوبية. فالمتفرد بذلك على الكمال هو الله -جل وعلا- فتوحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله، سبحانه.
وتوحيد الألوهية مأخوذٌ من أَلِهَ يأله إلهة وألوهة إذا عبد مع المحبة والتعظيم، يقال: تأله إذا عبد معظما محبا فَفَرْقٌ بين العبادة والألوهة، فإن الألوهة عبادة فيها المحبة والتعظيم، والرضا بالحال، والرجاء والرَّغَب والرَّهَب ـ فمصدر أله، يأله، ألوهة، وإلهة ـ ولهذا قيل: توحيد الإلهية وقيل: توحيد الألوهية، وهما مصدران لأله يأله، ومعنى أله في لغة العرب يعني: عبد مع المحبة والتعظيم، والتأله: العبادة على ذاك النحو قال الراجز:
يعني: من عبادته، فتوحيد الإلهية أو توحيد الألوهية هو توحيد العبادة يعني جعل العبادة لواحد، وهو الله، جل جلاله.
والعبادة أنواع، والعبادة يفعلها العبد والله -جل وعلا- هو المستحق للألوهة وللعبادة يعني: هو ذو الألوهة، وهو ذو العبادة على خلقه أجمعين.
توحيد الألوهية: هو توحيد الله بأفعال العبد، أفعالك متنوعة التي تفعلها تقربا، فإذا توجهت بها لواحد كنت لواحد، وهو الله -جل وعلا- كنت موحدا توحيد الإلهية، فإذا توجه العبد بها لله ولغيره كان مشركا في هذه العبادة.
والنوع الثالث من التوحيد توحيد الأسماء والصفات ومعناه أن يعتقد العبد أن الله -جل جلاله- واحد في أسمائه وصفاته لا مماثل له فيهما ـ وإن شرك بعض العباد الله -جل وعلا- في أصل بعض الصفات لكنهم لا يشركونه -جل وعلا- في كمال المعنى، بل الكمال فيها لله وحده دون من سواه.
فمثلا المخلوق قد يكون عزيزا، والله -جل جلاله- هو العزيز، له للمخلوق من صفة العزة ما يناسب ذاته الحقيرة الوضيعة الفقيرة، والله -جل وعلا- له من كمال هذه الصفة منتهى ذلك، ليس له فيها مثيل، وليس له فيها مشابه على الوجه التام قال جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ . هذه الأنواع الثلاثة من التوحيد ذكرها الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب لكن لما كانت التصانيف قبله اعتنى فيها العلماء -أعني: علماء السنة والعقيدة- ببيان النوعين الأول والثالث، وهو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، هما توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ لما اعتنى العلماء بهما لم يبسط الشيخ -رحمه الله- القول فيهما، وإنما بسط القول فيما الناس بحاجة إليه، ويفتقدون التصنيف فيه.
وهذه طريقة الإمام -رحمه الله- فإن كتاباته مختلفة، وإن مؤلفات الشيخ إنما كانت للحاجة ليست للتكاثر، أو للاستكثار أو للتفنن، وإنما كتب فيما الناس بحاجة إليه، لم يكتب لأجل أن يكتب، ولكن كتب لأجل أن يدعو وبين الأمرين فرق، فإن الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب بين توحيد الإلهية والعبودية، وبيَّن أفراده من التوكل والخوف والمحبة والرجاء والرغبة ونحو ذلك، والاستعانة والاستغاثة، والذبح والنذر كل هذه عبادات لله سبحانه دون من سواه.
والشيخ -رحمه الله- لما بسط ذلك بيَّن أيضا ضده وهو الشرك فهذا الكتاب كتاب التوحيد الذي فيه بيان توحيد العبادة والربوبية والأسماء والصفات، وفيه أيضا بيان ضد ذلك، وضد التوحيد الشرك، والشرك اتخاذ الشريك يعني أن يجعل واحدا شريكا لآخر، يقال: أشرك بينهما إذا جعلهما اثنين أو أشرك في أمره غيره إذا جعل ذلك الأمر لاثنين، فالشرك فيه تشريك.
والله -جل وعلا- نهى عن الشرك، كما سيأتي الشرك في كلام أهل العلم مبينين ما دلت عليه النصوص يقسم إلى قسمين باعتبار ويقسم إلى ثلاثة باعتبار آخر، الشرك يقسم إلى شرك أكبر وإلى شرك أصغر، ويقسم أيضا باعتبار آخر إلى شرك أكبر وشرك أصغر وشرك خفي، والشرك هو اتخاذ الشريك مع الله -جل وعلا- في الربوبية، أو في العبادة أو في الأسماء والصفات، والمقصود هنا النهي عن اتخاذ الشريك مع الله -جل وعلا- في العبادة والأمر بتوحيده سبحانه.
التقسيم الأول: أن يكون الشرك أكبر وأصغر، الأكبر هو المُخرج من الملة، والأصغر ما حَكَمَ الشارع عليه بأنه شرك، وليس فيه تنديد كامل يلحقه بالشرك الأكبر، وعبر عنه بعض العلماء بقوله: ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر، على هذا يكون الشرك الأكبر ثَمَّ منه ما هو ظاهرٌ وثَمَّ منه ما هو باطن خفيّ.
الظاهر من الشرك الأكبر كشرك عباد الأوثان والأصنام، وعباد القبور، والأموات، والغائبين، والباطن كشرك المتوكلين على المشايخ، أو على الآلهة المختلفة، أو كشرك وكفر المنافقين؛ لأن المنافقين مشركون في الباطن، فشركهم خفي، ولكنه أكبر وفي الباطن وليس في الظاهر.
الشرك الأصغر على هذا التقسيم منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن خفي، الظاهر من الشرك الأصغر كلبس الحلقة، والخيط وكالتمائم، وكالحلف بغير الله، ونحو ذلك من الأعمال والأقوال.
والباطن من ذلك الخفي كيسير الرياء، ونحو ذلك فيكون إذن الرياء على هذا التقسيم منه ما هو أكبر كرياء المنافقين يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ومنه رياء المؤمنين، رياء المسلمين حيث يتصنع في صلاته، أو يحب التسميع أو المراءاة. التقسيم الثاني للشرك: أن يكون ثلاثة أقسام أكبر، أصغر، خفي، وهذا التقسيم يعنى به أن الأكبر ما هو مخرج من الملة، مما فيه صرف العبادة لغير الله -جل جلاله-.
والأصغر ما كان وسيلة لذلك الشرك الأكبر، فيه تنديد لا يبلغ به من ندَّد أن يخرج من الإسلام، وقد حكم الشارع على فاعله بالشرك أو حقيقة الحال أنه ندد وأشرك.
الشرك الخفي هو يسير الرياء، ونحو ذلك في هذ التقسيم، من أهل العلم من يقول بالأول، ومنهم من يقول بالثاني، وهما متقابلان، وهما متساويان أحدهما يوافق الآخر ليس بينهما اختلاف، فإذا سمعت من يقول: إن الشرك أكبر وأصغر، هذا صحيح، وإذا سمعت -وهو قول أئمة الدعوة- أن الشرك أكبر وأصغر وخفي، فهذا أيضا صحيح.
إذا تبين ذلك فالشرك يعبر عنه بالتنديد، ولهذا قال جل وعلا: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك التنديد منه تنديد أعظم ومنه تنديد ليس فيه صرف العبادة لغير الله، فإذا كان التنديد في جعل العبادة لغير الله صار التنديد أكبر صار شركا أكبر، وإذا كان التنديد فيه جعل غير الله -جل وعلا- ندا لله في عمل، ولا يبلغ ذلك الشرك الأكبر، فإنه يكون تنديدا أصغر، وهو الشرك الأصغر، هذه مقدمات وتعاريف مهمة بين يدي شرح هذا الكتاب العظيم. قال إمام هذه الدعوة -رحمه الله-: "كتاب التوحيد، وقول الله -تعالى-" قول هذه كما في صحيح البخاري تنطقها إما على العطف كتاب التوحيد وقول الله يعني وكتاب قول الله، أو على الاستئناف، وقول الله -تعالى- قال: وقول الله -تعالى-: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ هذه الآية فيها بيان التوحيد، وجه ذلك أن السلف فسروا إلا ليعبدون يعني إلا ليوحدون. دليل هذا الفهم أن الرسل إنما بعثت لأجل التوحيد، توحيد العبادة فقوله: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ يعني إلا ليوحدون، قوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا هذا فيه حصر، ومعلوم أن "ما" النافية مع "إلا" تفيد الحصر والقصر، معنى الكلام خلقت الجن والإنس لغاية واحدة هي العبادة دون ما سواها، ففيه قصر علة الخلق على العبادة، وقوله: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إلا هذه تسمى أداة استثناء مفرغ، مفرغ من أعم الأحوال، كما يقول النحاة يعني: وما خلقت الجن والإنس لشيء أو لغاية من الغايات أبدا إلا لغاية واحدة وهي أن يعبدوني. وقوله: لِيَعْبُدُونِ اللام هذه تسمى لام التعليل، ولام التعليل هذه قد يكون المعنى تعليل غاية، أو تعليل علة. تعليل الغاية يكون ما بعدها مطلوبا لكن قد يكون، وقد لا يكون، يعني: هذه الغاية ويسميها بعض العلماء لام الحكمة، وفرق بين العلة والحكمة يعني: ما الحكمة من خلق الجن والإنس؟ أن يعبدوا الله وحده دون ما سواه هذا التعليل بقوله: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قلنا: تعليل عناية مثلا قلت لك لما أحضرت الكتاب؟ قلت: أحضرته لأقرأ، فيكون علة الإحضار أو الحكمة من الإحضار القراءة، قد تقرأ، وقد لا تقرأ بخلاف اللام التي يكون معناها العلة التي يترتب عليها معلولها، والتي يقول العلماء في نحوها: الحكم دائر مع علته وجودا وعدما. هذه علة القياس التي لا يتخلف فيها المعلول عن العلة، فهنا اللام هذه لام علة الغاية؛ لأن من الخلق من أوجد وخلقه الله -جل وعلا- لكن عبد غيره، ولام الحكمة شرعية ما بعدها يكون مطلوبا شرعا، قال جل وعلا هنا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ نفهم من هذا أن هذه الآية دالة على التوحيد من جهة أن الغاية من الخلق هو التوحيد، والعبادة هنا هي التوحيد، حقيقة العبادة الخضوع والذل، فإذا انضافت إليها المحبة والانقياد صارت عبادة شرعية. قال طرفة في وصف ناقة:
المور الطريق، والمعبد هو الذي ذلل من كثرة وطء الأقدام عليه.
وقال أيضا في معلقته:
يعني الذي صار ذليلا؛ لأنه أصيب بالمرض فجعل بعيدا عن باقي الأبعرة فصار ذليلا؛ لعدم المخالطة.
في الشرع العبادة هي امتثال الأمر والنهي على جهة المحبة والرجاء والخوف، قال بعض العلماء: إن العبادة هي ما أمر به من غير اقتضاء عقلي ولا اضطراب عرفي، وهذا تعريف الأصوليين.
وقال شيخ الإسلام في بيان معناها في أول "رسالة العبودية": العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. إذن فيكون دلالة هذه الآية أن كل فرد من أفراد العبادة يجب أن يكون لله وحده دون ما سواه؛ لأن الذي خلقهم خلقهم؛ لأجل أن يعبدوه فكونهم يعبدون غيره، وهو الذي خلقهم هذا من الاعتداء والظلم؛ لأنه ليس من يخلق كمن لا يخلق قال جل وعلا: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ . قال الشيخ -رحمه الله-: وقوله وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هذه الآية تفسير للآية قبلها، الآية قبلها فيها بيان الغرض من الخلق، وأنه لأجل العبادة، هذه العبادة أرسلت بها الرسل بدليل قوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ بعثت الرسل بهاتين الكلمتين اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ففي قوله: اُعْبُدُوا اللَّهَ إثبات، وفي قوله: اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ نفي. وهذا معنى التوحيد وهو أنه مشتمل على إثبات ونفي: لا إله إلا الله اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ لأن النفي فيه اجتناب الطاغوت وهو كل إله عبد بالبغي والظلم والعدوان، والإثبات إثبات العبادة لله وحده دون ما سواه ففي قوله: اُعْبُدُوا اللَّهَ التوحيد المثبت، وفي قوله: اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ نفي الإشراك. والطاغوت هو فعلوت من الطغيان، وهو كل ما جاوز به العبد حدَّه من متبوع أو معبود أو مطاع. قال: وقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ قضى -كما فسرها عدد من الصحابة- هنا بمعنى أمر ووصى، وأمر ووصى فيها معنى القول دون حروف القول. فتكون أن لا تعبدوا أن هنا تفسيرية يعني أمر ووصى بماذا بلا تعبدوا إلا إياه وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ هذا معنى لا إله إلا الله بالمطابقة؛ لأن "لا" نفي في الجملتين، وهنا تعبدوا وفي كلمة التوحيد "إله" والإله هو المعبود أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ يعني احصروا العبادة فيه وحده دون ما سواه أمر بهذا، ووصى بهذا، وهذا معنى التوحيد، فإن دلالة الآية على التوحيد ظاهرة في أن التوحيد إفراد العبادة لله، أو تحقيق كلمة لا إله إلا الله، وهذا الذي دلت عليه هذه الآية. قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا يعني: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، قال: وقوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا هذا أيضا فيه إثبات ونفي، فيها أمر ونهي، أما الأمر ففي قوله: واعْبُدُوا اللَّهَ والنهي في قوله: وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . وقد مر معك دلالة قوله: اعْبُدُوا اللَّهَ مع النفي على توحيد الله قوله هنا: وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا لاحظ أن لا هنا نافية، ومن المتقرر في علم الأصول أن النفي إذا تسلط على نكرة فإنه يفيد العموم، ولا بعدها نكرة وهو المصدر المستكن في الفعل؛ لأن الفعل المضارع مشتمل على مصدر وزمن أَلَّا تُشْرِكُوا يعني لا إشراكا به فتشركوا متضمنة لمصدر، والمصدر نكرة. فيكون قوله: أَلَّا تُشْرِكُوا يعني بأي نوع من الشرك وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا و"شيئا" هنا أيضا نكرة في سياق النهي أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا فدلت على عموم الأشياء، فصار إذن عندنا في قوله -تعالى -: وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثَمَّ عمومان: الأول: دلت الآية على النهي عن جميع أنواع الشرك وذلك؛ لأن النهي تسلط على الفعل، والفعل فيه مصدر مستكن، والمصدر نكرة.
والثانية: أن مفعول تشرك شيئا، وشيئا نكرة، والنكرة جاءت في سياق النهي وذلك يدل على عموم الأشياء يعني لا الشرك الأصغر مأذون به، ولا الأكبر ولا الخفي بدلالة قوله: وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ . وكذلك ليس مأذونا أن يشرك لا بملك ولا بنبي ولا بصالح ولا بعالم ولا بطالح ولا بقريب ولا ببعيد بدلالة قوله: شَيْئًا وهذا استدلال ظاهر الوضوح في الدلالة على التوحيد بالجمع بين النفي والإثبات، قال: وقوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا قُلْ تَعَالَوْا يعني يا مَن حرَّم بعض الأنعام، وافترى على الله في ذلك قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . قال العلماء: "أن" هنا تفسيرية متعلقة بمحذوف تقديره وصاكم؛ لأن "أن" التفسيرية تتعلق كما ذكرت لك بكلمة فيها معنى القول دون حروف القول وحددوها بقوله: وَصَّاكُم ؛ لأنه في آخر الآي جاء ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ في الآية الأولى، ثم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ في الآية الثانية، ثم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ في الآية الثالثة كلها فيها الوصية. فإذن يكون تقدير الكلام: "قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم وصاكم ألا تشركوا به شيئا" يعني: أمركم، والوصية هنا شرعية، وإذا كانت الوصية من الله شرعية، فهي أمر واجب، فقوله: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا دلالتها على التوحيد كدلالة آية النساء قبلها. ثم ساق الشيخ -رحمه الله- ـ أثر ابن مسعود قال: قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه، فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا . يعني: التي كانت من آخر ما وصَّى به، من آخر ما أمر به يعني: التي لو قُدِّرَ أنه وصى وختم على هذه الوصية، وفتحت بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- وانتقاله إلى الرفيق الأعلى لكانت هذه الآيات التي فيها الوصايا العشر.
هذا من ابن مسعود للدلالة على عظم شأن هذه الآيات التي افتتحت بالنهي عن الشرك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ابتدأ دعوته بالأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الشرك، واختتمها أيضا -كما دل عليه كلام ابن مسعود هذا- بالأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك، فدل على أن ذلك أولى المطالب وأول المطالب وأهم المطالب.
قال -بعد ذلك-: وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا . هذا موطن الشاهد حق العباد على الله حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وهذا قد مر بيان معناه، لكن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبته للابتداء ابتداء كتاب التوحيد أنه أتى فيه بلفظ حق أتدري ما حق الله على العباد، ثم قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا هذا الحق حق واجب لله -جل وعلا- لأن الكتاب والسنة؛ بل ولأن المرسلين جميعا أتوا بهذا الحق وببيانه، وأنه أوجب الواجبات على العباد. ثم قال: وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا حق العباد على الله، هذا حق أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في بعض أقوالهم، كما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-. حق العباد على الله، هل هذا الحق واجب أم لا؟ نقول: نعم هو حق واجب، لكن بإيجاب الله ذلك الحق على نفسه، والله -جل وعلا- يحرم على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته، ويوجب على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا . حرم الله الظلم على نفسه، كذلك أوجب على نفسه أشياء، بعض أهل العلم تحاشى لفظ الإيجاب على الله، وقال: يعبر بأنه حق، يتفضل به، حق تفضل لا حق إيجاب، وهذا ليس بمتعين؛ لأن الحق الواجب أوجبه الله على نفسه، والعباد لا يوجبون على الله -جل وعلا- شيئا من الحقوق، وهو -جل وعلا- أوجبه على نفسه؛ لأنه تفضل على عباده بذلك، والله -جل جلاله- لا يخلف الميعاد.