كنوز النت الإسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كنوز النت الإسلامية

منتديات كنوز النت الإسلامية لنشر علوم الدنيا والدين
 
الرئيسيةبوابة كنوز النتمكتبة الصورس .و .جبحـثالأعضاءالمجموعاتالتسجيلدخول

 

 القضاء والقدر؟؟!!!!

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عرباوي
المدير العام
المدير العام
عرباوي


ذكر عدد الرسائل : 22512
تاريخ الميلاد : 06/02/1980
العمر : 44
نقاط : 57839
تاريخ التسجيل : 21/09/2008

القضاء والقدر؟؟!!!! Empty
مُساهمةموضوع: القضاء والقدر؟؟!!!!   القضاء والقدر؟؟!!!! Emptyالجمعة 08 أكتوبر 2010, 12:48 pm

بسم الله وكفى، والصَّلاة والسَّلام على سيدنا المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن وفّى ووفى. وبعد:
فإنَّ الحديثَ عن القضاء والقدر شائكٌ وخطيرٌ لمن جهل حقيقته، وسَهْلٌ واضحٌ لمن فهم الدينَ، بوعي، وأحسنَ المقارنةَ بين النصوص الشرعية، وأَيقن بعدالة الله تعالى.
ولقد انزلقَ كثيرٌ من المسلمين الجاهلين إلى مهاوي الذلِّ، والكسل، والتقاعس، والجبن، والتواكل؛ لجهلهم بحقيقة القضاء والقدر، فأهملوا الأسبابَ، وانتظروا النَّصْر والفلاح، دون أن يسلكوا سبيلَهما، ففاتهم النجاح.
ولو أردنا الإِطالةَ والتفصيل لطال بنا المجال، وكثر، المقال، ولكنْ خيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ.
يُقال: قدّر فلانٌ الشيء، أي: حدّد مقداره، وقدر الشيء بالشيء، أي: قاسه به وجعله على مقداره.
ويقال: قدّر الخياط، أي: قاس طولَ فلان وحجمه؛ فقَصَّ الثوبَ مناسباً لقامته.
وقدّر اللهُ الأمرَ: عَلِم وعَرَف ما فَعَله الإنسانُ من خير أو شرّ، فأمر وحكم، وقضى أن يكافأ عطاءً وثواباً إن أحسن، أو يُعاقب جزاءً وفاقاً إن أساء:
]فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ[[الزلزلة: ٧ – ٨]
ويُقال: قضى الله الشيءَ، أي: قدّره. وقضى الله بالشيء، أي: أمر به. ومنه:
]وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً[[الإسراء: 23]
والمنطلقُ الصَّحيحُ في هذا البحث هو العدالةُ الإلهيةُ الحق. قال تعالى:
]أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ[ [التين: 8]
]وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً[[الكهف: 49]
وفي الحديث القدسي: «يا عبادي! إِنِّي حرَّمْتُ الظُّلْمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّماً فَلا تظالموا... إلى قوله: يا عبادي! إنما هي أعمالُكم أُحصيها عليكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجدَ خَيراً فليحمدِ اللهَ، ومَن وَجَدَ غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسَه»([1]).
اللهم رضِّنا بقضائك وقدرك، واجعلنا من الراشدين.
دمشق في 1 رمضان 1414ﻫ
وكتبه هشام الحمصي




المسؤولية تقتضي الحرية
لقد رتَّب اللهُ تعالى مسؤوليةً على العبد البالغ، العاقل، المختار، غير المكره، عن كل ما قال، أو فعل، أو عمل. وهذه المسؤولية تقتضي الحريّة، وإلا كان العقابُ ظلماً:
]مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[[فصلت: 46]
ولذلك يُعاقب القضاةُ المجرمين، لأن المجرمَ أساء بمحضِ إرادته، وقد خطَّط لجريمته. ولا تُعتبر نتيجةُ الامتحان للطلاب عادلةً إلا إِذا أُعطي الطالبُ الحريةَ الكاملةَ في أن يكتب، ويجيب عن الأسئلة، كما يعرف ويريد.
وآدمُ أَوَّلُ مخلوقٍ من البشر مُنِع من أكل الشجرة، وأعطي حرية التصرف، ولم يُكره على تركها، وكذا حواء، فأكلا منها مختارين، فحرية التصرف منحها اللهُ تعالى للبشر منذ البداية، وفي ذلك تكريمٌ للإنسان وسعادة.
ولا ريبَ أَنَّ عَقيدةَ الجبر والإكراه تطيحُ بالوحي والتَّنْزيل، وتمنع النشاطَ الإنسانيَّ والعمل، وتُفقد الإنسان الأملَ، وتُغْريه بالذلّ والكسل، وهي تكذيبٌ لما جاء عن الله تعالى ورسله الكرام من العدل:
]فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ[[الأنعام: 149]
وأهمُّ عناصر هذه الحجة:
1- العقل الذي وهبه الله للإنسان، وجعله مناطَ التكليف؛ ليميزَ به بين الحق والباطل، ويصلَ به إلى الإيمان بالخالق العظيم وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
2- والفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها:
]وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ*[[الحجرات: 7-8]
3- أرسل الرسل مبشرين ومنذرين.
4- أنزل عليهم الكتبَ، فيها شرائعُ الله تعالى لعباده، فيها ما يأمرهم به، أو ينهاهم عنه.
5- أكرم الإنسانَ بحرية التصرف والاختيار، وحمَّله أمانةً هي العقل، يفكر به فيختار الحق، ويرفض الباطل، ويفعل الخير، ويتجنب الشر، ويقوم بالتكاليف الشرعية كما شرعها الله تعالى، يفعل ذلك مختاراً لا مُكْرَهاً، فيسعد في دنياه وأخراه، فإن أساء فأعمل عقله وحواسه وطاقاته، وعصى ربه، خاب وخسر؛ لأنه آثر أن يكونَ ظلوماً لنفسه، ومجتمعه، ومستقبله، جهولاً، يخبط خبط عشواء:
]إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً[[الأحزاب: 72]
وإنما أعطاه حريةَ التصرُّفِ ليكرمه بذلك، ويسعده. فالحرية أَغْلى ما يملكُ الإنسان، ويسعد به. والله خلق الإنسانَ لأنَّه أرادَ أن يُوْجد مخلوقاً يعبده، ويستجيب له عن طواعية، وقناعة، وتعَقّل، ورضا، ورسم له طريقَ النجاة والفوز بالجنة، يسير إليها وبيده خيطٌ من حرير لا سلسلة من حديد.
ألا ما أسعدَ الإنسان حين يذوقُ حلاوةَ جهده وإخلاصه، فيؤمن عن يقين، ويستقيم عن رضا.
وما أسعد الطالبَ حين ينجح بجهده ودراسته، فيخرج إلى الحياة العملية بسلاحِ العلم الصَّحيح، فيعطي العطاءَ النافع، ويثمر الثمرَ اليانع.
ولن يسعدَ إنسانٌ عاش مقهوراً، أو سِيْقَ إلى الاعتقاد، أو إلى الخير مُجْبراً.
ولن يسعدَ طالبٌ نجح غشًّا وزوراً، ولن يفلح في الحياة العملية، ولن ينتج خيراً، ولن يعيشَ مسروراً.
وهل خُلِقَ الإنسانُ إلا ليسعدَ في الدارين؟! يعيشُ في الدنيا يسابقُ غيره في ساحة السَّعي للخلود بصحبة الخالق يوم الدين، فإذا فاز في سباق الإيمان والعمل الصالح، حظي بالمغفرة والرضا والجنة:
]فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[[الكهف: 110]
6- جعل بابَ الهداية مفتوحاً لمن أراد. فالرسلُ تدلُّ على طريق الإيمان، والحق، والفضائل، وتدعو إليه بالحكمة والحسنى، دون إكراه ولا قسر:
]وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [[الشورى: 52]
]وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [[المؤمنون: 73]
]فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ[[الغاشية: 21-22]
]فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [[المائدة: 92]
فإن وَجَدَ اللهُ تعالى من العبد صِدْقاً وإخلاصاً في الإقبال على طلب الحق، والإيمان، والهدى، وفَّقه لذلك، ومكّن ذلك في فؤاده.
]إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[[القصص: 56]
أي: إنَّ مهمتك أيها الرسول الكريم: التبليغ، والدلالة، والإرشاد، أما تمكين الهدى من القلوب فهو بيد الله وحده. فهو سبحانه وتعالى:
]وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ[ [الرعد: 27]
وقد يسّر سبيل الهداية لكل الناس، وأما من طغى، وأعرض، وآثر الحياة الدنيا، فقد فعل ذلك بمحض إرادته، فلابد من عقابه:
]وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى[ [فصلت: 17]
]فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[ [الصف: 5]
فهم الذين أرادوا الزيغَ، وأَصرُّوا عليه، فتركهم وشأنهم، فتابعوا طريق الضلال مختارين لا مكرهين، إذ:
]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[ [البقرة: 256]
فالرشدُ واضحٌ، ميسر، محبّب للنفوس، والغي واضح، معسَّر، مكره للنفوس كما رأيت من قبل في سورة الحجرات. والله تعالى قد سوّى نفسَ الإنسان، وفَطَرها على حُبِّ الإيمان، وزيَّن ذلك في قلوب الناس، وكرَّه إليهم الكفر، والفسوق، والعصيان، فإن استجابوا لتلك الفطرة الزكية النقية كانوا هم الراشدين.
وقد جَعَلَ اللهُ تعالى مسؤوليةَ الصَّغير على والديه، وحمَّلهما أمانةَ تربيته وتوجيهه نحو الإيمان، والحق، والفضائل:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ[ [التحريم: 6]
وقد بيَّن رسول الله r أنَّ كلَّ مولود يُولد على الفطرة، وأنَّ أبويه هما اللذان يجنحان به نحو الكفر والضلال إن كانا على غير هدى؛ لأنه يقلِّد ويستجيب دون تمييز، ومقتضى العدالة الإلهية أن يُرفع القلمُ والحسابُ عن الطفل وهو صغير، قال r: «رُفع القلمُ عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يعقل، والنائم حتى يستيقظ»([2]) لأنَّ تصرُّفهم عن غير وعي ولا إرادة.
وإِذا كان الفلاَّحُ يُسوِّي الأرض، أي: يزيل منها الحشائش الضارة، فيحرثها ويمهدها لتصبح قابلةً للزراعة، فقد يزرعُ فيها ما يحل وينفع، وهو مطلوبٌ منه، أو ما يضرُّ وهو محرَّمٌ عليه. والله عز وجل قد سوَّى نفسَ الإنسان، ونقَّاها، وفطرها على حب الهدى، والخير، وكره الضلالة والشر:
]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[ [الشمس: 7-8]
وجعل مسؤولية الطفل على مَن ربَّاه وهو صغير، فإذا بلغ عاقلاً صار مسؤولاً. والتوجيهُ نحو الخير مطلوب ومفروض، فإن كان نحو الشر فهو محرّم ومرفوض:
]فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ[ [التين: 7-8]


الفرق بين المشيئة والرضا
في بحث القضاء والقدر يجبُ أن نفرِّق بين المشيئة والرضا، فالله تعالى يشاءُ كلَّ ما يجري في هذا الكون أو يكون، وما من حركة ولا سكون إلا بإذنه، ومشيئته، وإرادته، فإن أراد الشيءَ كان، وإلا لم يكن. وكلُّ ذلك لحكمةٍ أرادها، وهو الحكيم الخبير:
]وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[ [التكوير: 29]
فهو سُبحانه وتعالى يريدُ الإيمانَ، والحقَّ، والخير، والفضائل، ويرضى بذلك، ويريدُ الكفر، والباطل، والشر، والرذيلة، ولكنه لا يرضى بها، يريدُها لأنه أعطى حريةَ التصرُّف، ولم يُكره أحداً على خير ولا شرّ:
]
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[ [المائدة: 48]
أي: ولو شاء الله أن يُكرهَكم على شيء لجعلكم جميعاً على ملَّة واحدة، ولكنه أعطاكُم حريةَ التصرُّف؛ لأنه خلقكم ليمتحنكم:
]لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[ [الملك: 2]
فإِذا أردتم النجاحَ في سباق الخلود بصحبة الخالق العظيم، والنَّجاة من عِقابه الأليم، فاستبقوا الخيرات، فإليه المرجعُ والمآب، حيثُ جزيل الثواب، أو شديد العقاب:
]إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ[ [الغاشية: 25-26]
ويفسر ما مرّ معنا قوله تعالى في سورة الأنعام:
]وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ[[35]
]وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً[[107]
]وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ[[112]
]قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ[[149]
والمفعول به لفعل شاء محذوف، أي: لو شاء إكراهكم على شيء لأكرهكم على الهدى، ولكن أعطاكُم حريةَ التصرف ليسعدكم، ويصدق الابتلاء والامتحان. وفي حرية التصرُّف والاختيار كرامةٌ لكم وسعادة.
وهذه الآياتُ من سورة الأنعام – ولها في القرآن أمثالٌ أخرى – واضحةُ الدلالة على أَنَّ الله تعالى منح الإنسانَ حرية التصرف لامتحانه وسعادته، وأمره بما ينجيه، ونهاه عمَّا يُرديه، فإن استجابَ أراد اللهُ تعالى ورضي، وإن عصى أراد الله ولم يَرْضَ.
قال تعالى:
]إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[ [الزمر: 7]
وسأضرب لك – عزيزي القارئ – مثلاً تدركُ منه الفرقَ بين المشيئة والرضا. كل والد يحبُّ ولده، ويرجو له التوفيق، والسعادة، والرضا. فإن كان عاقًّا فاسِداً نصحه، وصبر عليه كثيراً، فإذا تمادى الولدُ في عقوقه وفساده، طرده والده من بيته بإرادته، حتى إذا ذهبَ الولدُ دمعتْ عينا والده؛ لأنه لا يرضى بعقوق وضياع ولده. وقُلْ مثلَ ذلك في الأستاذ يريدُ ويرجو لتلميذه النجاح، والتفوق، فإذا تكاسلَ التلميذُ وضعَ له الأستاذُ علامة الإخفاق والرسوب بإرادته؛ لأن ذلك هو العدالةُ والإنصاف للفرد والمجتمع، ولكنَّ قلبَ الأستاذ يعتصرُ أسًى وألماً على طالبه الراسب؛ لأنه لا يرضى له الرسوبَ، ولا تطيبُ نفسُه بذلك.
ومن هذا الفهم والمنطلق السَّليم نقول:
إِنَّ اللهَ يُريدُ الانتحار والحسد ولا يرضى بهما؛ لأنَّ كلاًّ من المنتحر والحاسد حرّ التصرُّف كما رأينا وأثبتنا من قبل، ومسؤول عن تصرُّفه هذا، ولا يقع شيءٌ في الكون إلا بمشيئة الله، وهو:
]فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ[ [هود: 107]
والانتحارُ والحسدُ كبيرتان نهى الله تعالى ورسوله عنهما نهياً قاطعاً، ففي سورة النساء [29]:
]وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً[
وفي سورة طه [131]:
]وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[
وفي سورة الفلق [5]:
]وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ[ [الفلق: 5]
وفي الحديث الشريف: «مَن تردَّى مِن جبلٍ فقتل نفسَه فهو في نار جهنم يتردّى خالداً فيها أبداً...»([3]).
ويُقاس على ذلك كلُّ وسيلة للانتحار. وفي الحديث أيضاً: «ولا تحاسدوا»([4]) بالنهي الجازم.
فإِذا أصرَّ المنتحرُ على قتل نفسه فمات، وأصرَّ الحاسدُ على كُرْه نِعَم الله تعالى على عباده، فحسدَ الناسَ عليها، مادية كانت أو معنوية، وسعى في ذهابها عنهم بشتى وسائل الكيد، والمكر، والوِشاية، والأذى؛ فحصل من الحسد ضررٌ للمحسود. فإنَّ موتَ المنتحر، ونزول الضَّرر بالمحسود، لا يقعان إلا بقضاء الله وإرادته. وغاية ما في الأمر أنهما وافقا قدر الله وقَضاءه، زماناً ومكاناً، فوقع ما قدَّر اللهُ وقضى، وعُوقب المنتحرُ والحاسدُ على فِعْلهما، بحيث لو لم ينتحر الأولُ، ولم يحسد الثاني، لوقع ما قدّره الله من موت أو ضرر.
هذا وإنَّ الموتَ ليس نتيجةَ الحوادث، فقد تقعُ أشدُّ الحوادث ولا يعقبها موت؛ لأن سببَ الموت واحدٌ لا يتعدَّد، هو انقضاءُ الأجل بمشيئة الله وقدره وقضائه. فكم من أناس أقدموا على الانتحار بأعنف الوسائل ولم يموتوا، وأنقذوا، وعُولجوا، وعاشوا بعد ذلك طويلاً! وكم من حاسدين حسدوا، والغيظ يملأ قلوبهم، فلم يحصل من حسدهم شيء من ضرر أو أذى!
ففي سورة الأعراف [34]:
]وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[
وفي سورة يونس [49]:
]لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[
وفي سورة النحل [61]:
]وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[
وأخطأ الشاعر حين قال:
من لم يمتْ بالسَّيفِ مات بغيره



تعددتِ الأسبابُ والموتُ واحد


لأنَّ سببَ الموت واحد لا يتعدد، أَلا وهو (انقضاء الأجل):
كم مريض قد عاشَ من بعد يأسٍ



بعد موتِ الطبيبِ والعوّادِ!


قد يُصابُ القطا فينجو سليماً



ويحلُّ البلاءُ بالصّـيّادِ



* * *

تزوَّدْ من الدنيا فإنك لا تدري



إِذا جنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ


فكم من صحيحٍ مات من غير علَّةٍ!



وكم من عليلٍ عاش حِيناً من الدَّهرِ!


وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً!



وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدري


فقد يُصاب الجبان في آخر الصفِّ، وينجو مقارعُ الأبطال. وسيدنا خالد بن الوليد – رضي الله عنه – خاضَ من الحروب قبل إسلامه وبعد إسلامه ما لا يحصى، وكان الشجاعَ المقدامَ في أول الصفوف، وتمنّى أن يموتَ شهيداً، فلم يمت إلا على فراشه.
والإنسان على أية حال مُطالب أن يسلكَ سُبُلَ الخير، والعلم، والسلامة، والعافية، طالباً من الله العونَ، والتوفيق، والسَّداد، والرَّشاد.
وفي سورة يوسف [64]:
]فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[
فإن أفلح ونجا فبقدر الله وقضائه، وإن خاب وأخفق فبقدر الله وقضائه، وكلٌ لحكمةٍ أرادها اللهُ، والله هو الحكيم الخبير.
والتاريخُ يُحدِّثنا أنَّ أبا عبيدة بن الجراح – رضي الله عنه – لما أراد أن يتابعَ زحفه وفتوحاته في بلاد الشام، وقد انتشر طاعون عمواس، أمره عمرُ بن الخطاب – رضي الله عنه – بالانحسار عن مكان الطاعون، وحماية الجيش من الوباء، وهو ما يُسمَّى اليوم (الحجر الصّحي) فأرسل له أبو عبيدة: أنفرُّ من قضاء الله وقدره؟ فأجابه عمر: نعم، نفرُّ من قضاء الله وقدره إلى قضاء الله وقدره. أرأيت يا أبا عبيدة! لو كنتَ راعي غنم، وأمامك أرضان: الأولى فيها خِصب ونماء، والثانية خاوية جدوب، فأيّ الأرضين ترعى فيها غنمك؟ فأجابه: في الأولى، ذات الخصب والنماء. فقال: إِذاً فاحفظِ الجيشَ من الوباء والداء، واسلكْ به سبيلَ النجاة، والسلامة، والهناء.
ولشدّ ما كان فرحُه عظيماً حين أخبره أحدُ الصَّحابة، وأقسم له أنه سمع الرسول r يقول: «إذا سمعتم بالطّاعون في أرضٍ فلا تدخلُوها، وإذا كنتم فيها فلا تخرجوا منها»([5]). فأقام الدليلَ على أبي عبيدة عقلاً ونقلاً. وفي سورة البقرة [195]:
]وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ[
وفي سورة النساء [71]:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [
ورحم الله مَن قال:
يا راعيَ الشَّاءِ لا تهملْ رعايتها



فأنتَ عن كلِّ ما استرعيتَ مسؤولُ


إِنِّي لفي مَنْزلٍ ما زلتُ أعمره



على يقينٍ بأني عنه منقولُ


كُلْ ما بدا لك فالآكالُ فانيةٌ



وكلُّ ذي أُكُلٍ لا بُدَّ مأكولُ








الفرق بين المصيبة والمعصية
لا بُدَّ أن نميزَ بين المصيبة والمعصية.
فالمعصيةُ من العبد، وهو مسؤول، ومُعاقَبٌ عليها؛ لأنه حُرُّ التصرُّف، وقد فعلها راضياً بها، ساعياً لها، مختارًا، ولا مُكْرَهاً، ولكنه لم يَفْعَلْها قسراً عن إرادة الله، إذ لا يجري في الكون شيءٌ إلا بإذن الله وإرادته. وقد رأينا أنَّ اللهَ يريدُ المعصية، ولكنه لا يرضى بها، وشرحنا ذلك في حينه.
وقد قال بعضُ العلماء: نحن نؤمنُ بالقدر والقضاء، ونحتجُّ بهما في المصائب لا في المعاصي والمعائب. فاحتجاجُ العاصي بالقضا تبجُّح لا يُرتضى.
والله تعالى قد خَلَقَ في العبد طاقةً على الحركة، والقول، والعمل، وأمره أن يستخدمَها في الخير، والحق، والإيمان، والفضائل، لا في الشرّ، والباطل، والكفر، والرذائل. وطالبه بإصلاح نفسه، وحذَّره من فسادها، ووعده إن هو امتثل واستجاب أن يفلح، وأوعده إن هو عصى، وأعرض عن الله، أن يخيب ويندم. قال تعالى:
]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[ [الشمس: 9-10]
وأصابَ الحكمةَ، وكان على سداد ورشاد، مَن قال: «تُنسب الأعمالُ إلى الله خَلْقاً وإيجاداً، وإلى العبد كسباً وإرادة».
ففي اليد طاقةٌ يمكن أن تُستخدم لخير أو شر، والخير مفروضٌ والشر حرام ومرفوض، وفي العين طاقةٌ يمكن أن تُفتح لحلال أو حرام، والحلال مفروض، والحلال ممنوع ومرفوض. وفي الحديد يمكن أن تُستخدم للجهاد، والدفاع، وردّ الظلم والعدوان، وفي سبيل إعلاء كلمة الله، وحماية المؤمن أن يفتن في دينه، أو يُساء إلى حقوقه ومقدّساته، وذلك مطلوب ومفروض، ويمكن أن تُستخدم للجريمة، والظلم، وإقامة صروح الطغيان والفساد، وذلك حرام ومرفوض:
]وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[ [الحديد: 25]
والكتاب السماوي الوحيدُ الذي اهتمَّ بالحديد هو القرآنُ الكريم، فقد أفرد الله تعالى له سورة كاملة، هي سورة الحديد. وإن تعجبْ فعجب أن أمةَ القرآن، أمة سورة الحديد، هم أضعف الناس وأقلّهم خبرةً في مجال صناعة الحديد؛ الذي يُعتبر أهم المعادن في مضمار الحضارة، وساحة الحروب والجهاد!.
إنَّ حبذَ الدنيا، وكراهية الموت، جعلتهم على كثرتهم غثاءً كغثاء السيل، وقذفت في قلوبهم الوهن فتجرأ عليهم عدوهم.
ولقد كان مِن كَذِب الكفار، وسخفهم، أنهم ادّعوا أنَّ الله أرغمهم وآباءهم على الشرك، تهرُّباً من المسؤولية، وإصراراً على الباطل والكفر، فردذ اللهُ عليهم ردًّا مفحماً في سورة الأنعام [148]:
]سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ[
فهم كاذبون فيما ادّعوا، وما كفروا إلا باختيارهم. وقد رأينا أنَّ الإنسان حرُّ التصرف، مسؤول. ولذا جاءت الآية [149] من سورة الأنعام نفسها تتابع المعنى، وتقرّر حرّيةَ التصرُّف عند الإنسان، وأنَّ لله الحجة البالغة، إذ لم يُكره أحداً:
]قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ[[الأنعام: 149]
أي: لو شاء إكراهكم على شيء لأكرهكم على الهدى، ولكنه منحكم حريةَ التصرُّف؛ لتحقيق سعادتكم في الدنيا والآخرة، إذ لا سعادة بدون حرية، فله عليكم الحجّةُ القاطعةُ البالغةُ، ولا دليلَ ولا حجةَ لكم فيما أقدمتم عليه من كفر، أو تحريم مُباح، أو تحليل حرام؛ إنما تتّبعون أهواءكم. وفي سورة الأعراف [28 - 29] ردّ مُفحم آخر للمشركين، الذين ادعوا كذباً وزوراً: أن الله أمرهم بما يقومون به من سوء، وفحشاء، وظلم:
]وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ[ [الأعراف: 28-29]
والآية [30] بعد ذلك بيَّنتِ السببَ في ضلالهم، وكفرهم، وهو أنهم اتخذوا الشَّياطين، شياطين الإِنس والجن، أولياء لهم من دُون الله، وظنُّوا أنَّهم على صواب في ذلك:
]فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ[ [الأعراف: 30]
فالناسُ فريقان، فريق اهتدى بهدى الله تعالى، وبابه مفتوح لكل من أراد وأقبل مخلصاً. وفريق ضلَّ مختارًا، فظهرت به وعليه آثارُ الضلالة من ندم، وخسارة؛ لأنّهم اتخذوا الشياطين أولياء... وجملة:
]إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ[
جملة استئنافية تعليلية، بيّنت سببَ ضلالهم وخسارتهم، وأَنَّ ذلك باختيارهم، لا بأمر من الله؛ لأن اللهَ لا يأمر بالفحشاء، بل بالحق، والعدل، والفضيلة.
والصَّحابةُ الكرام – رضي الله عنهم – قد عاشوا فترةَ الوحي وسألوا الرسول r عن كل شيء أشكلَ عليهم. وفي تاريخهم المشرق ما يدلُّ على فَهْم عميق للقضاء والقدر، فعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وهو الشديدُ في الحق، أُتي بسارق توفرت فيه شروطُ قطع اليد، فأمر عمر بقطع يده، فاستعطفه مُدَّعياً أنه لم يسرقْ قبلها قط، وأنه تاب، ولن يعود لمثلها أبداً، وأُقيم عليه الحد، فلحق به سيدنا علي – كرَّم الله وجهه – وقال له: إنَّ الذي أعرفه من عدالة الله ورحمته أنه لا يأخذ العبدَ من أوَّل ذنبٍ، فأسألك بالله أن تصدقني، فأجابه: لقد سرقت قبل هذه عشرين مرة أو أكثر، فلم أَرْعَوِ، ولم أزدجر حتى وقعتُ فيما أستحق من عقاب.
ألا ما أعدل الله في حكمه وخلقه! وما أجهل الإنسانَ وما أظلمه!:
]وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ[ [إبراهيم: 34]
وسيدنا علي – رضي الله عنه – أُتي بسارق فسأله: لِمَ سرقتَ؟ ظانًّا أن له عذراً يخفّف عنه. فأجاب السَّارق: قضاءً وقدراً. فظهر الغضبُ على وجه أمير المؤمنين علي – كرم الله وجهه – وقال: «اقطعوا يدَه لأنه سرق، واجلدوه ثمانين جلدةً لأنه افترى على الله الكذب، فالقضاء والقدر لا يسلبان من العبد الاختيار، ولا يوقعانه في حيّز الاضطرار».
وفي هذه القصة تأكيدٌ على حرية الإنسان في التصرف، وأنه مسؤولٌ عن قوله وعمله.
ولعلَّ من الجميل هنا أن نذكرَ قولَ سيدنا علي – رضي الله عنه – أيضاً: «من اتَّهم مسلماً بفاحشة – أي: قذفه بها – أقمتُ عليه حدَّ القذف ثمانين جلدة إن لم يأت ببيّنة، فإن اتهم رسولاً أو نبياً جلدتُه مئة وستين جلدة» أي: ضاعفت له العقوبة؛ لأن الرسلَ والأنبياء قدوة معصومون، وفي الطعن بهم كذبٌ، وافتراء، وتضليل للناس، وإفساد للأمة.
ففي سورة ص الآية [82 و 83] على لسان إبليس:
]قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[ [ص: 82-83]
والرسل والأنبياء هم أول العباد المخلَصين.
وفي سورة يوسف [24]:
]كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ[
فالشيطانُ يقرُّ أن لا سلطانَ له على أهل التقوى، والإيمان، والإخلاص ولاسيما الرسل والأنبياء. وصدق الله العظيم:
]إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[ [النحل: 99]
ولقد حرَّف اليهودُ التوراةَ، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، واتَّهموا الأنبياءَ والرسل، بما لا يليقُ بهم خُلقاً، وعقلاً، وافتروا على الله الكذبَ، ودسّوا من الإسرائيليات المضلّلة المنحرفة الكثير؛ مما ينبغي التنبه له، ورفضه، وشجبه، وإنكاره، حيث قرأته، أو سمعته أو وجدته، حِرْصاً على الحقيقة، وحفاظاً على أخلاف الأفراد والأمم.

_________________

قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد




عدل سابقا من قبل عرباوي في الجمعة 08 أكتوبر 2010, 1:42 pm عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://oldcoins.yoo7.com/
عرباوي
المدير العام
المدير العام
عرباوي


ذكر عدد الرسائل : 22512
تاريخ الميلاد : 06/02/1980
العمر : 44
نقاط : 57839
تاريخ التسجيل : 21/09/2008

القضاء والقدر؟؟!!!! Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضاء والقدر؟؟!!!!   القضاء والقدر؟؟!!!! Emptyالجمعة 08 أكتوبر 2010, 12:48 pm

ولو رجعتَ إلى الأصول والنصوص الصحيحة لرأيتَ عصمة الرسل والأنبياء حقاً لا ريب فيه، فهم:
]الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً[ [الأحزاب: 39]
أمَّا المصيبةُ فهي من الله تعالى، ولكنها تصيبُ الإنسانَ لحكمةٍ أرادها الله:
]مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[ [الحديد: 22-23]
وكلمة ]لِكَيْلا[ تفيدُ التعليلَ، فما من مصيبة إلا بسبب، ولها عند الله هدفٌ معلومٌ، وأجل مسمَّى، وحكمة بالغة، تظهر للمتبصرين، وتَخفى على الغافلين.
وفي سورة النساء [78]:
]أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً[
لقد جرتْ عادةُ الناس قديماً وحديثاً أنهم إن نالوا خيراً، أو فازوا به، قالوا: هذا كله من عند الله، وإن نزل بهم شر، أو أصابهم سوء عقاباً لهم على ضلالهم وانحرافهم، نسبوا ذلك لمن يكرهون أو يحسدون، وقالوا له: هذه من عندك. وهذا بعضُ ما قاله الكفار لرسول الله r كما في الآية الكريمة، فردَّ اللهُ تعالى عليهم، مُبَيِّناً أنهم قومٌ جاهلون، لا يفقهون، ولا يدركون الحقائقَ لعدم إيمانهم اليقيني، إذ لو كمل إيمانُهم لعلموا، وأيقنوا أَنَّ كلاًّ من الحسنة والسيئة من عند الله وحده، فَهُو سبحانه يجزي المحسنين خيراً مما عملوا، ويجازي المسيئين بمثل ما أساؤوا، زجراً وردعاً لهم في الدنيا، وجزاءً وفاقاً في الآخرة. فأنت تقرأ في سورة النجم [3]:
]لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى[
وفي سورة التحريم [7]:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[
وفي سورة سبأ قصَّة قومٍ عاشوا في نعيم كبير، فكفروا بأنعم الله، وتحاسدوا وتباغضوا، وأعرضوا عن الله وشريعته، فهدم الله عليهم سدَّ مأرب، وأرسل عليهم سيلَ العرم، فتفرقوا أيادي سبأ، وتشتَّتوا في البلاد، ومُزّقوا كلَّ مُمَزَّق. لِمَ كان ذلك العذاب؟ كان بسبب كُفرهم:
]ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ[ [سبأ: 17]
وفي سورة يس يذكر لنا اللهُ تعالى أنَّ أصحاب قرية – والأغلب أنها إنطاكية – جاءها المرسلون، فكفروا بهم، وقالوا لهم:
]إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ[ [يس: 18]
أي: تشاءمنا منكم؛ لانقطاع المطر عنا، ونزول القحط والبلاء بنا. فكان جوابُ المرسلين لهم:
]قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ[ [يس: 19]
أي: إنَّ كُفْركم وإعراضكم عن الله والحق هو سببُ ما حلَّ بكم من سوء، وبلاء، فأنتم لا تهتدون – وإن ذكرتم – لأنكم ضالُّون، مسرفون، مصرُّون على ذلك.
وآية سورة النساء [78] التي شرحناها، لو تابعنا التلاوة لقرأنا بعدها الآية [79]:
]مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ[
فالحسنةُ من الله تعالى وبفضل منه:
]لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [ [سبأ: 4]
والسيئة ذات شطرين:
1- سبب.
2- وعقوبة.
فأما السَّببُ فهو من العبد؛ لكفره، وظلمه، وإعراضه:
]وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ [الشورى: 30]
وأما العقوبةُ فهي من الله تعالى:
]إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً[ [النبأ: 21-26]
فالعقوبةُ إذاً جزاءٌ عادل، وفاق لما اقترفت أيدي الكفار والمجرمين، ولما فرّطوا في جنب الله:
]إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً[ [النبأ: 27-30]
وهكذا يظهرُ لنا العدلُ الإلهي الحقُّ جليًّا في الثواب والعقاب:
]إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا[ [الإسراء: 7]
]مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[ [فصلت: 46]
وهاتان الآيتان تفسِّران بوضوحٍ آيتي النساء السابقتين [78-79] فتأمل.
وفي سورة الجن [10]:
]وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً[
ففعل ]أَرَادَ[ بُني للمجهول حيث ذكر الشر ]أُرِيدَ[. وبُني للمعلوم حيث ذكر الرشد والخير. وذكر الفاعل: ]رَبُّهُمْ [ إشارة إلى أن الحسنة والخير من الله، أما السيئة ]الشر[ فسببها جهل الإنسان وفسقه، والعقوبة من الله تعالى بعد ذلك عدل، وردع، وزجر.
أمَّا حين يُصاب الأنبياءُ والصالحون، فإنَّ في ذلك رفعاً لدرجاتهم، وزيادة في ثوابهم وحسناتهم، وتنبيهاً للنَّاس كي يقتدوا بهم في صبرهم، ورضاهم بقضاء الله وقدره، وحُسْن تصرُّفهم في الملمّات بما يرضي الله تعالى، فلا يقفوا عن العمل، ولا يفقدوا الأمل، يصبرون في الضرّاء، ويشكرون في السَّرَّاء.
وفي الحديث الشريف: «ما يُصاب المسلمُ من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا غمّ، ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر اللهُ بذلك من خطاياه»([1]).
و: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كلّه له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له، وإن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له»([2]).
والإنسانُ مطالبٌ أن يأخذَ حذره، ويحمي نفسه من كلِّ شر وضرر، ويستدرك أمره؛ فيصحح خطأه، ويصلح ما أفسد، ويتعاطى لكلّ شيء أسبابَه، ويسلك إليه السَّبيلَ المشروع مستفيداً من العلوم، سائراً في دروب السَّلامة والأمن.
أما الذين يُهملون الأسبابَ، ويفرّطون بالواجبات، ويُعَرِّضون أنفسَهم للضرر والضرار، حتى إذا انزلقوا إلى خطرٍ، أو صاروا إلى ما لا تُحمد عُقباه، تعلَّلوا بالقضاء والقدر، فهم يجهلون، أو يتجاهلون، أنَّ ما فعلوه انتحارٌ، أو سعيٌ لانهيار، أو اندثار، يسألون عنه، ويعاقبون.
وما أجمل أن نذكّر هنا بحديث رسول الله r: «اعقلها وتوكَّل»([3]) فلا عُذْرَ لمهملٍ، أو مفرط، أو مسيء، أو مفسد، أو جاهل:
]وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ[ [المرسلات: 36]
إذ لا عُذْرَ لهم.
أما مصيبةُ الموت فلا مجال للحذر منها، ولا محيص عنها، فهي مرتبطةٌ بانقضاء الأجل. وخلاصة ما يُطالب به المؤمنُ المسلم أن يَستقيم دائماً، فإذا جاءته المنيةُ فجأة ذهبَ إلى الله راضياً مرضياً:
]وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[ [آل عمران: 102]
والله تعالى يخاطبه فيقول له:
]يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[ [الفجر: 27-30]
ولله درُّ مضن قال:
هو الموتُ لم ينْج منه امرؤ



ولو أنه في بروجٍ تُشَيَّد


يموتُ الصَّغيرُ كما أنه



يموتُ الكبير فهل من مخلد؟!


وما المرءُ إلا رهينُ الردى



فسبحانَ الذي بالبقاء تفرَّد


مصابُكَ إن شئتَ تخفيفَهُ



ففكّر بموتِ النبيِّ مُحمَّد


ومن قال:
إنَّ الطبيبَ له في الطبِّ معرفةٌ



مادام في أجلِ الإنسان تأخيرُ


حتى إذا ما انقضتْ أيامُ مُدَّته



حارَ الطبيبُ وخانَتْهُ العَقَاقِيرُ


وقد أمرنا رسول الله r أن نطلبَ السلامة، وأن لا ندعوَ بشر أو سوء، خشية أن تُصيب ساعة إجابة، فيستجاب لنا، فنخيب، ونندم، فخيرُ الناس مَن طال عمره، وحَسُن عمله.
والحياةُ فرصةٌ لعملٍ صالح، فلنغتنم كلَّ لحظة فيها بالعمل الصالح، يرضي الله تعالى، فنسعد في دنيانا وأخرانا، والليل والنهار فرصةٌ لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكوراً:
يا نفسُ إني قائلٌ فاستمعي



مقالةً من مرشدٍ ناصح


ما صاحبَ الإنسان في قبره



غيرُ التقى والعمل الصالح


وفي القرآن الكريم أدلَّةٌ كثيرة على حرية التصرف، ونسبة العمل من خير أو شر إلى العبد نفسه، مختاراً دون إكراه:
]وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ[[الرعد: 27]
قال تعالى:
]فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً[[المزمل: 19]
]فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً[[النبأ: 39]
]لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [ [التكوير: 28]
]لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ[[المدثر: 37]
] كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ[ [المدثر: 54-55]
]إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا[[الإسراء: 7]
]لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ[[النحل: 30]
وفي الفاتحة:
]صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[ [الفاتحة: 7]
ولم يقل: - ولا المضلَّلين – فهم قد ضلُّوا مختارين، ولذا جاءتْ بصيغة اسم الفاعل لا المفعول.
ويظهرُ لك ذلك جليًّا في موقف المشركين واعتذارهم يوم الدِّين، حين يُظهر الحق، ويعلن، وتلزمهم الحجة فيندمون حيث لا ينفع الندم، ويتمنون العودة إلى الدنيا من جديد ليصلحوا حالهم، ويستدركوا أمرهم، ولكنهم لا يُجابون؛ لأنهم كاذبون، مصرُّون على الضلال والكفر باختيارهم، ولو ردّوا إلى الدنيا لعادوا لما نُهُوا عنه من كفر وضلال، ففي سورة الأنعام [27 و 28]:
]وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[
وفي سورة المؤمنون [99-100]:
]حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[
ويستعتبون بعد أن ينفخ في الصور ويدخلوا جهنم:
]أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ[ [105]
فيعترفون بضلالهم، وأنهم ضلّوا باختيارهم:
]قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ[ [106]
ويطلبون الرحمة، وأن يعطوا فرصة أخرى لعلهم يهتدون:
]رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ[ [107]
فيقرّعون، ويذكّرون باستهزائهم بأهل الحق في الدنيا، والضحك منهم، والإساءة إليهم بإصرار وعناد:
]قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ[ [المؤمنون: 108-110]
فالعقابُ عادلٌ، جاء جزاءً وفاقاً لما جنتْ أيديهم، واقترفوا من إثم.
ولعل هذه العدالة الإلهية الكاملة تتضحُ لنا في سورة العنكبوت الآية [40] حيث ذكرَ اللهُ تعالى أنواعَ العقاب في الدنيا قبل الآخرة لمن ظلم وكفر، مبيِّناً أنَّ ذلك العقابَ إنما نزلَ بهم لظلمهم:
]فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً[
- أي: كقوم لوط -:
]وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ[
- أي: كأهل مدين -:
]وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ[
- أي: كقارون وأمثاله -:
]وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا[
- أي: كقوم نوح الكافرين وفرعون وأعوانه -:
]وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[
وآيات سورة سبأ [15-17] تدعم هذا المعنى بوضوح:
]لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ[
فالعقابُ الذي نزل بهم هو عقابٌ عادلٌ بسبب كفرهم بأنهم الله، وإعراضهم عن أوامره.
وفي سورة النبأ الآيات [21-30]:
]إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً[
وجملتا:
]إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّابا[
جملتان تعليليتان، تبينان سببَ ما نزلَ بأهل جهنم من عقاب، وما قُدِّم لهم من شراب.
أَمَّا حديث: «إِنَّ أحدكم ليجمعُ خَلْقُهُ في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسلُ إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات: أجله، وعمله، ورزقه، وشقي أو سعيد»([4]).
فالذي يتضحُ لي أن الرواية الرَّاجحة قالت: «ويُؤمر بأربع كلمات» ولم تقلْ: ويكتب، مما يدلُّ على أنَّ الملك ينفخُ الروح، ويرافق الإنسانَ ليكتب تلك الأربع بعد وقوعها لا قبله، كما يظن الكثيرون.
ذلك أنَّ الأوامرَ والنَّواهي في القرآن الكريم، والسُّـنَّة الشريفة، لن يكون منها أيَّة فائدة إذا كانت تلك الأربع مفروضة قسراً وجبراً على الإنسان – باستثناء الأجل – ولو كان الأمرُ كذلك لاحتجَّ الكسولُ لكسله، والمتخاذل لتخاذله، والظالم لظلمه، والمفسد لفساده؛ بالقضاء والقدر. ولأُهملت الفروض والواجبات، وانتشرت المفاسدُ والموبقات بحجّة أَن الإنسان ريشةٌ في مهبِّ الرياح، قد فُرِض عليه قولُه وعملُه من الأزل، ولا يملك له تغييراً.
والأدلة القرآنية، والأحاديث الصحيحة، تدعمُ وتؤيد أَنَّ ذلك يُكتب على الإِنسان بعد أن يفعله لا قبله، ولعل أهمّها مايلي.
آية آل عمران [181]:
]لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ[
ولم يقل: (كتبنا) – في الماضي – بل قال ]سَنَكْتُبُ [ – في المستقبل –.
وفي سورة التوبة [120]:
]وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ[
أي: كتب ذلك بعد ما فعلوه، وهذا ما تقتضيه قواعدُ اللغة العربية.
وفي سورة يونس [21]:
]إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ[
بصيغة المضارع.
وفي سورة الأنبياء [94]:
]فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ[
أي: باستمرار إلى أن يموت.
وفي سورة يس [12]:
]إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [
وفي سورة الزخرف [19]:
]سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ[
وفي سورة الزخرف [80]:
]أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ[
بصيغة المضارع المفيد للحاضر والمستقبل.
وفي سورة ق [18]:
]مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[
أي: يرافقه ملك يكتبُ عنه كلَّ شيء.
وفي سورة الانفطار [10-12]:
]وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[
فهذه الآياتُ الكريمةُ واضحةُ الدلالة على أنَّ الملائكة تكتب أقوال وأفعال العباد بعد وقوعها لا قبله، مما يوافق ويؤكِّد عدل الله تعالى المطلق الكامل:
]وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً[[الكهف: 49]


_________________

قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://oldcoins.yoo7.com/
عرباوي
المدير العام
المدير العام
عرباوي


ذكر عدد الرسائل : 22512
تاريخ الميلاد : 06/02/1980
العمر : 44
نقاط : 57839
تاريخ التسجيل : 21/09/2008

القضاء والقدر؟؟!!!! Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضاء والقدر؟؟!!!!   القضاء والقدر؟؟!!!! Emptyالجمعة 08 أكتوبر 2010, 1:45 pm

عِلْمُ الله كاشفٌ لا مُكْرِه
مما لا ريبَ فيه أَنَّ اللهَ يعلمُ الغيب كله، ماضيه، وحاضره، ومستقبله، ما كان وما يكون وما سيكون، ولكن علمه هذا لأفعال، وأقوال، وأعمال العباد كاشف، لا ضاغطٌ ولا مكره، كالمرآة تكشفُ ما تلبس أو تعمل، وليست هي التي أكرهتك على ذلك.
ولو كان عِلْمُ الله ضاغِطاً أو مكرهاً للعباد على قول أو فعل، لكان ذلك ظلماً وحاش لله أن يظلم، وهو أحكمُ الحاكمين، أقام الكون على الحق والعدل، وأمر عبادَه بهما. وقد رأيت ذلك جلياً في أول هذا البحث.
ولقد ضلّت فئةٌ قديماً وحديثاً زعمتْ أنَّ اللهَ لا يعلمُ مستقبلَ الغيب إلا بعد حصوله، ولا يعلم أفعالَ العباد ولا أقوالهم إلا بعد وقوعها. يريدون بذلك – على حدِّ زعمهم – أن ينَزّهوا الله عن الظلم، فنسبوا إليه الجهلَ بالغيب – والعياذ بالله – فضلوا وأضلّوا.
والنصوصُ القرآنية التي تبطل زعمهم وافتراءهم كثيرة، قطعية الدّلالة على علم الله الشامل لكل غيب، ومنه غيبُ المستقبل بكلياته وجزيئاته، نختار لكم منها في آية الكرسي:
] يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [[البقرة: 255]
أي: ما فعلوا قديماً وما سيفعلون في المستقبل.
وقد تكررت هذه الألفاظ في عدة سور. وفي أول سورة الروم:
]غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ[
فاللهُ يخبرُ عن حرب ستقعُ في المستقبل، حدّد لها بضعَ سنين، أي: من ثلاث إلى تسع سنين، وبيَّن أن الروم سيغلبون فيها الفرس، وقد حصل الأمرُ كما ذكر سبحانه، وهذا دليلٌ قاطعٌ على علمه بما سيقع في المستقبل.
وفي سورة المسد:
]تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ[
يخبرُ الله تعالى في هذه السورة أنَّ أبا لهب وامرأته سيموتان على الكفر، وقد ماتا عليه؛ مما يدلُّ على علمه بما سيقع في المستقبل.
وقد أخبر جبريلُ عليه السلام رسولَ الله r أنَّ أُبَّي بن خلف سيموت كافراً، وهو الذي جاء بعظم بالٍ من القبر، وضرب به مثلاً وقال للرسول r: من يحيي هذه وهي رميم؟ أأنت تزعم أنها تعود إنساناً سوياً؟ قال له r: «نعم سيعيدك ويدخلك جهنم»([1]). وقد ماتَ كافراً في أُحُد على يد النبي r حين أصرَّ وأقسم أن يقتل محمداً r فقال لهم r: «خلّوا سبيله إليّ». وبارزه فقتله. وفيه نزلت آية يس [78]:
]وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ[
وإخبار جبريل عليه السلام أن أبَّي بن خلف سيموتُ كافراً هو وحي بأمر الله تعالى ومنه، وهذا يدلُّ على عِلْم الله بما سيقع في المستقبل.
وفي سورة الفتح [11]:
]سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا[[الفتح: 11]
وهذا إخبارٌ منه سبحانه وتعالى بما سيقوله المخلَّفون من الأعراب، المتقاعسون عن الجهاد، وقد قالوه بعد ذلك، مما يدلُّ على علم الله تعالى بكل ما سيقع في المستقبل، ولذا انتهت الآية بقوله تعالى:
]بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً[
وفي سورة الحج [68]:
]وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ[
وفي الآية إخبارٌ بأنَّ الله على علم بما يعمل وسيعمل الناس جميعاً، فصيغة المضارع ]تعملون[ تفيدُ الحاضر والمستقبل.
وفي آخر سورة لقمان [34]:
]إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [
في هذا الآيات إخبارٌ من الله تعالى أن مفاتحَ الغيب في المستقبل بيده، يجهلها الخلق، وهو تعالى بها عليم خبير.
وفي الأنعام [59]:
] وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ [
وفي سورة البقرة [235]:
] عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ [
وفيها إخبار أن الله يعلمُ ما سيقعُ في المستقبل.
وفي سورة المزمل [20]:
] عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [
] عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى [
وفيهما إخبار بأن الله عَلِم ويعلَمُ ما سيقعُ في المستقبل. ذلك لأن الزمانَ مِن خَلْق الله، يخضع له المخلوق، وهو الإنسانُ وغيره من المخلوقات، ولا يخضعُ له الخالقُ سبحانه وتعالى، فإن قدرته وعلمه يتجاوزان الزمان الذي هو من خلقه، والخالق لا يخضعُ لما خَلَق.
وقد رأيتَ، وقرأتَ، وسمعتَ الأدلةَ التي ذكرتُها لك من القرآن الكريم، وكلها أدلةٌ منطقيةٌ، وقرائن لفظية، ووقائع تاريخية صادقة، تدلُّ على عِلْم الله المستقبلي بكلِّ شيء، كما يعلمُ الماضي والحاضر:
]وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [[البقرة: 282]
فَعِلْمُه تعالى يشملُ كلَّ شيء في كلِّ زمان ومكان. وصيغة ]عليم[ صفة مشبهة تدلُّ على الثبوت، والدوام، والاستقرار في كل زمان ومكان.
وفي سورة يس [76]:
]فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ[
بصيغة المضارع، فالله يعلمُ ما نسرُّ وما نعلن في الماضي والحاضر، والمستقبل.
وفي سورة التوبة [78]:
]أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [
بصيغة الجمع؛ ليشمل غيب الحاضر، والماضي، والمستقبل، فإذا دخلت ]قد[ على المضارع، وكان الإخبار عن الله تعالى، فهي حرف تحقيق كما في سورة الحجر [97]:
] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [
وفي سور النحل [103]:
] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [
واللام الداخلة على ]قد[ موطئة للقسم تؤكد التحقيق.
وفي سورة الأنعام [33]:
] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [
وما أكثر الآيات القرآنية الدَّالة على ما ذكرتُ، وفي هذا القدر كفاية.
أمَّا قوله تعالى في سورة العنكبوت [1 و3]:
] الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [
فقوله تعالى: ]فليعلمن[ أي: فليكشفن حقيقةَ وواقعَ الصادقين والمكذبين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بيّنة، ولئلاّ يُخْدَعَ أحدٌ بماكر، أو منافق، أو كافر.
والعلمُ سبيلٌ إلى الكشف والبيان، فأطلق السببَ وأراد الهدف منه، وهو كشفُ واقع المنافقين، وما ينطوون عليه من كذب، ومكر، وخداع. والكشف يحصلُ بتعريضهم لامتحاناتٍ كثيرة في أمور الدين والدنيا، منها: الجهاد، والزكاة، والصبر على المصائب، وترك المعاصي، والمثابرة على الطاعات، فيصعبُ على المنافقين إخفاءُ ما في نفوسهم من كفر، وهوىً، وبُخل، وجبن، وجزع، وكسل، وتخاذل، فتنكشف حقيقتُهم للناس. ولكَ أن تُفَسِّرَ ]فليعلمن[ بالجزاء والعقاب أيضاً؛ لأنَّ العلمَ بذنب المذنب سبيلٌ إلى عقابه على ما اقترف، ولعل الكشفَ أولى وأوضح فهو من التنبيه بالسبب على المسبّب.
ولو تابع القارئ سورة العنكبوت، فوصل إلى الآيات [10-12]:
] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ *[
أي: أو ليس اللهُ عالماً بما تنطوي عليه نفوسُ الناس – ومنهم المنافقون – وهو استفهامٌ تقريري جوابه: (بلى).
ثم أقسم أن يكشفَ واقعَ المنافقين والمؤمنين فقال:
] وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [
فإذا كان معنى ]وليعلمن[ لا يتناول الكشفَ، وإظهار واقع الأمر، لم يكن لذكر ]وليعلمن[ أيَّةُ فائدة؛ لأنها بتقرير أنَّ اللهَ عليم بما في صُدور المؤمنين والمنافقين:
] أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ [
فلا بُدَّ أن تفسّر: ]وليعلمن[ بـ(وليكشفنَّ – وليظهرنَّ) واقعَ الجميع من: صِدْق المؤمن، وكذب المنافق؛ ليستقيم معنى الآية، فتأمل.
وتتمةُ الآيات تُظْهِرُ نوعاً من هذا الكشف لأساليبهم في الكذب، والخداع، والاستحالة، والإغراء؛ ليوقعوا المؤمنين في حبائلهم فيضلّوهم؛ ليكون المؤمنين على حذر، ويقظة، فلا يَنْزَلقوا إلى ضلال:
]وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ*13[
فَعِلْمُ الله قديم كاشفٌ لا مُكْرِه.
وقوله تعالى في سورة الحاقة [49]:
]وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ*[
وفي سورة ق [16]:
]وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ*[
دليلٌ قاطعٌ على ما ذكرنا من عِلْم الله القديم السابق.
وقِسْ على هذه الآيات مثيلاتها من كتاب الله الكريم، كما في سورة البقرة [143]:
] وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [
وسورة الكهف [12]:
]ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً*[
وسورة محمد [31]:
] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [
ففعل ]نعلم[ في هذه الآيات ومثيلاتها معناه: (نكشف ونظهر) فتأملْ تُفْلِحْ، وتكنْ من المهتدين.
ولعلَّ الحديث الصحيح: «إِنَّ الرجلَ ليعملُ بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينه وبينها إلاَّ ذراع، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»([2]) يُؤيِّد ما ذهبنا إليه من معنى الكشف والإظهار لما في نفوس المنافقين. فقوله: «فيما يبدو للناس» واضحُ الدّلالة على أنَّ الرجلَ المذكور في هذا الحديث منافق، يتصنَّع خلاف حقيقته، ويتظاهَرُ بالتقوى، وهو من أهل الفجور في السِّر، فيبدو للناس أنه من الصَّالحين، وهو غيرُ صالح، فلا بُدَّ أن يكشفَ اللهُ أمره، ويُظْهِرَ كذبه ونفاقه للناس، فقد كتب، وفرض، وأمر أن يتَّضح نفاق المنافقين، وينكشف؛ لئلا يُخدع بهم أهلُ الإيمان والتقوى. فيتصرَّف المنافقون بما يكشف ما في نفوسهم من نفاق، وكفر، وكذب، وفي ذلك إرغامٌ للباطل، ونَصْرٌ للحقِّ.
وللعبد فرصٌ لدفع البلاء والعقاب عنه:
أ- فإذا استحقَّ عقاباً في الدنيا قبل الآخرة فتاب، وأناب، وعمل صالحاً، ودعا، وألحَّ في الدعاء، كشف عنه البلاء، ورفع العقاب؛ لما ورد في الحديث الشريف: «لا يردُّ القضاءَ إلا الدُّعاء»([3]).
«صنائعُ المعروف تقي مصارعَ السوء، وصدقةُ السِّرِّ تطفئُ غضبَ الرب، وصلةُ الرَّحم تزيدُ في العمر»([4]).
ب- وإذا استحقَّ العبدُ خيراً ورزقاً، فعصى وغوى، قبل وصول الرزق إليه، فقد يُحرم ذلك الرزق، ويُمنع عنه.
وفي الحديث الشريف: «إِنَّ العبدَ ليحرمُ الرزق بالذنب يصيبه»([5]).
وإذا حملنا قولَه تعالى:
] يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [[الرعد: 39]
على العموم، كما رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ولم نخصَّصها بالمعجزات، علمنا أنَّ الثوابَ والعقابَ ليسا مقطوعاً بهما لا يتغيران، بل تابعان لتصرُّف العبد في قوله وعمله، وهو حرُّ التَّصرف فيهما كما رأيت، فإن أحسنَ أُحسن إليه، وإن أساء عُوقب. قال تعالى:
]مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ[[الجاثية: 15]
كما قال:
] إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [[الرعد: 11]
وإذا عرفنا أنَّ (ما) من ألفاظ العموم، أدركنا صِدْقَ المعنى الذي ذكرناه من قبل.
ﺟ- وإذا ضلَّ العبدُ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يرضى له الضلال، وقد يريده، وقد مرَّ معك الفرقُ بين الإرادة والرضا، ولذا فإنَّ الله تعالى يضايقُ الضالَّ رحمةً به؛ ليعود إلى الهُدى الذي فُطر عليه.
ففي سورة طه [124-127]:
]وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى *[
وفي سورة الأنعام [125]:
]فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ[
وفي الحديث الشريف: «استقيموا ولن تحصُوا»([6]) أي: إذا استقمتم فلن تستطيعوا أن تحصوا الخيرَ الذي سيأتيكم، لاستقامتكم.
فَقُلْ للذين ضلّوا، وضاقت بهم سبل الحياة والرزق، كما ضاقت بهم صدورهم:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً[[الأحزاب: 70-71]




ليس للشيطان سلطان على المتقين
أذكر أنَّ أحدَ الطُّلاب سألني عن تفسير قوله تعالى في سورة هود [119]:
] وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [
فقلت له: لا بُدَّ من تلاوة جميع الآيات التي تتحدَّثُ في هذا الشأن؛ لنصلَ إلى الفيصل في القضية، فما أُجْمِلَ في مكانٍ فُصِّل في غيره. وخيرُ تفسير للقرآن الكريم أن نرجعَ إليه نفسه – والله أعلم بمراده – ولا يجوز لمسلم أن يكونَ جاهلاً بكتاب الله، ولاسيما إن كان من طلاَّب العلوم الشرعية. والربطُ بين الآيات القرآنية ذات الموضوع الواحِد نعٌ من التدبُّر والتفكر. ولو فعلتَ يا بُنيَّ لوصلتَ إلى الرأي السَّديد الذي يدُّلك على عدالة الله الشاملة، الكاملة، وأنَّ دخولَ جهنم مصيرُ الكافرين والمشركين والضالين والمنافقين والفاسقين؛ الذين فعَلوا ذلك بمحض إرادتهم دون قسر ولا إكراه، والله تعالى يقول في سورة النساء [147]:
] مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [
فتعالَ معي نتدبَّر آيات الله فيما سألت عنه:
يقول اللهُ تعالى في سورة الأعراف [156-158]:
] قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [
فمحمد r رسولٌ للبشرية جمعاء، ولكل إنسان، فلا نجاةَ لأهل الكتب السماوية الأخرى إلا بالإيمان به، والتصديق بما جاء به. ولقد جاءنا بالحسنيين: خيري الدنيا والآخرة:
]وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[[النجم: 3-4].
فمن آمنَ فقد اهتدى، ومَن كفر أصابه العذاب.
وسورة الأعراف نفسُها تُجيب عن سؤالك يا بني، وتُبيِّن الذين سينالهم ذلك العذاب، ففي الآية [179] يقول تعالى:
]وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[ 179
فقد استحقّوا دخولَ جهنم لإهمالهم طاقاتهم، وعقولهم، وحواسهم، إذ لو أحسنوا استخدامها لوصلتْ بهم إلى أنَّ اللهَ حقٌّ، وأنَّ ما أَوْحَى به إلى رسله حقٌّ.
وتقرأ في سورة ق [24-37]:
]أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[
فالنَّارُ لمن ضلَّ، وغوى، وأشركَ، وكفر، ومَنَع الخير، واعتدى. والجنة للمتقين: لمن وعى، واهتدى وخشي الرحمن بالغيب، وكان ذا قلب سَليم منيب، والعاقل من سمع الحقَّ فاتَّعظ، وادَّكر، ووعظته العِبَرُ.
وفي سورة السجدة [13]:
]وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ[
أي: لو شاء اللهُ إكراهَ عباده على شيء لأكرههم على الإيمان والهدى، ولكنه فَطَرهم على الخير، وأعطاهم حريَّة التصرُّف، وكتب الجنة لمن آمن، واهتدى واستقام، وعمل صالحاً. وكتب النارَ لمن عرفَ الحقَّ فتجاهله، ونسيه أو تناساه، فَيُهْمَل يومَ الدِّين، ولا يُرْحَم بسبب كفره وضلاله.

([1]) رواه ابن مردويه.

([2]) رواه مسلم.

([3]) رواه الترمذي والحاكم.

([4]) رواه الطبراني في الأوسط.

([5]) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.

([6]) رواه أحمد ومالك وابن ماجه.

_________________

قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://oldcoins.yoo7.com/
عرباوي
المدير العام
المدير العام
عرباوي


ذكر عدد الرسائل : 22512
تاريخ الميلاد : 06/02/1980
العمر : 44
نقاط : 57839
تاريخ التسجيل : 21/09/2008

القضاء والقدر؟؟!!!! Empty
مُساهمةموضوع: رد: القضاء والقدر؟؟!!!!   القضاء والقدر؟؟!!!! Emptyالجمعة 08 أكتوبر 2010, 1:45 pm

وفي سورة التحريم [7]:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[
وفي سورة الأعراف نفسها – موضوع تساؤل الطالب – تقريعٌ من الله تعالى للشيطان، وردٌّ عليه بجواب مفحم، واضح، مُسكت، ففي الآية [18]:
]قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ*[
فأهلُ النار الذين ستُملأ بهم جهنَّم هم أتباعُ الشيطان، وطواغيت الجنّ والإنس.
وفي سورة الإسراء [63]:
]قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً*[
وفي سورة ص [82-85]:
]قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ*[
وفي سورة الحجر [39-43]:
]وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ*[
فالشيطانُ يقرُّ إذاً بأنه عاجزٌ عن التأثير بعباد الله المخلَصين، وعلى رأسهم الرسل والأنبياء الكرام، ومنهم يوسف عليه السلام حيث وصفه الله تعالى في سورة يوسف نفسها بأنه من المخلصين، فقال سبحانه:
]وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ[[يوسف: 24].
فالرسل والأنبياء قدوةٌ حَسَنةٌ، وأسوةٌ صالحةٌ للناس، اصطفاهم اللهُ من خيرةِ خَلْقه، وهم معصومون من كُلِّ معصية، أو سوء، فحذارِ حذارِ من الإسرائيليات، ومن كل ما دُسّ على يوسف وغيره، مما لا يليق بعامة الناس فضلاً عن الأنبياء والرسل الكرام.
ولقد ذكرتُ لك من قبل أن سيدنا عليّاً – كرم الله وجهه – قال: «من قذف غيره» أي: اتهمه بالزنا «ولم يأت بالبينة جلدته ثمانين جلدة، ومن قذف أو اتّهم رسولاً أو نبياً جلدته مئة وستين جلدة» لأنه كاذبٌ ومُفْتَرٍ، وقد اتهم القدوة المعصومين، فاستحق مضاعفة العقاب.
ولا يصلحُ حالُ أمةٍ، ولا يصلح حالُ شبابها، وشاباتها، ورجالها، ونسائها، إلاَّ حين يتخذون هؤلاء الرُّسل والأنبياء المعصومين أسوةً وقدوةً، وأن يروا فيهم الكمال، والجمال، فإذا أساؤوا بهم الظَّنَّ انزلقوا إلى مهاوي المعصية والضلالة، فضلّوا، واستحقوا شديد العقاب.
وأذكرُ أنَّ أحدَ الطُّلاب سألني أيضاً يقول: في سورة فاطر [8]:
]أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[
فإذا كان الله تعالى قد زيَّن لهم المنكرات ليفعلوها، وأخبر أنَّه يضل من يشاء، فما ذنبهم إن فسدوا أو ضلّوا؟
فقلت له: على رسلك يا بني! فالآية تحتاجُ إلى تفسير دقيق وعميق، نرجع في ذلك إلى القرآن الكريم نفسه، مستخدمين اللغة العربية لتوضيح ما التبسَ فهمُه عليك، وذلك يتطلَّبُ منا البحثَ في ثلاثة أمور نتساءل فيها:
1- أين الخبرُ في الآية؟
والجواب تدلُّنا عليه سورة محمد [14]:
]أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [
والخبر هنا (الكاف) في (كمن) أي: هل المهتدي مثل الضال؟! والخبرُ في آية فاطر محذوف تقديره: (كمن كان على بينة من ربه) أي: هل الضال مثل المهتدي؟. والكاف اسم بمعنى مثل.
وفي سورة الملك [22] ذُكر الخبر صريحاً واضحاً:
]أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [
فكلمة (أهدى) في الآية هي الخبر.
ويساعدنا على فَهْم المحذوف في سورة فاطر آية سورة القلم [35-36]:
]أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ*[
إلا أنَّ الكاف – هنا – هي المفعول الثاني لفعل نجعل، أي: أنسوِّي بين الطيب والخبيث؟ بين المحق والمبطل؟ فنجعل المسلمَ مثل المجرم، ما لكم كيف تقبلون بهذه التسوية الجائرة الباطلة؟! واللهُ يقولُ الحقَّ، ويحكمُ بالعدل.
2- من المزيِّن في الآية؟
تجيبنا عن ذلك آية سورة النحل [63]:
]فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [
وآية سورة النمل [24]:
] وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [
فالشيطانُ هو الذي يُزيِّن السُّوءَ لأتباعه، فيزينونَ السوءَ للناس. ففي سورة الأنعام [137]:
] وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [.
و]شركاؤهم[ هي فاعل ]زَيّن[ وهم أعوانُ الشيطان. ذلك أن الله يُزَيِّن للخير لا للشر، ففي سورة الحجرات [7]:
]وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ[
وأما آية سورة آل عمران [14]:
]زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ[
فهو تزيينٌ للخير ولإعمار الكون بأناسٍ يُوحِّدون الله تعالى، ويفعلون الواجبات، ويؤدُّون الحقوقَ، وينشرون الفضائلَ، ويُتَمِّمون مكارم الأخلاق، لهم ذرية صالحة، وبنون أبرار، يتابعون السيرَ على طريق الإيمان، والحق، والفضيلة، مستخدمين وسائل العيش من ذهب، أو فضة، وخيل، وأنعام، وما تنبت الأرضُ من نباتٍ، وشجر، وثمر، فهو متاعُ هذه الحياة الدنيا، فمن تزوَّج كما أمر الله، واستخدم نِعَمَهُ في الوجوه المشروعة، فقد فاز بما عند الله من حُسْن المآب.
وإذا تلوتَ من سورة آل عمران الآيات التي بَعْد هذه الآية، رأيتَ دليلاً واضحاً على هذا.
وفي الحديث الشريف: «وفي بُضْع أحدكم صدقةٌ» قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوته ويكتب له بذلك أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أليس عليه في ذلك وزر؟» قالوا: بلى. قال: «كذلك إذا وضعها في حلال، فإنَّ له بذلك أجراً»([1]).
وأما قولُه تعالى في سورة النمل [4]:
]إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ[
فهو مجازٌ على حدِّ قول الله تعالى:
]فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [[الصف: 5]
أي: عندما أصرّوا على الزَّيغ والضلال، وقد عرفوا الحقَّ والهدى، وعندما اتَّبَعوا خطوات الشَّيطان، الذي زيَّن لهم أعمالهم الفاسدة، وأعرضُوا عن صوت الحق وضيائه، سمحنا بزيغهم وتأثير الشيطان عليهم؛ لأنهم اتَّبعوه راضين، فهم الغاوون، فأردنا لهم ما أصرّوا عليه من الزيغ، والفساد؛ لئلا يقعَ شيءٌ إلا بإرادتنا:
]وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[[التكوير: 29]
وآية الصف [5]:
]فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[
تدلُّ على هذا بوضوحٍ، ويدعمها قولُه تعالى في سورة آل عمران [178]:
]وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ[
وفي سورة مريم [75-76]:
]قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً[
3- ما معنى قوله تعالى:
]يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ[[فاطر: 8]
الجوابُ يقودُنا إلى البحث في الضمير، وإلى أين يعود والقاعدةُ النحوية تقولُ: يعودُ الضمير إلى أقرب مذكور قبله، ما لم يصرفه صارفٌ إلى غيره بقرينة.
فقولُه تعالى في سورة يوسف [23]:
]وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[([2]).
يعود الضميرُ في ]إنه ربي[ على الله تعالى، وهو أقربُ مذكور في الآية، ولا يعود على زوجها إذ لا قرينة تصرفه إلى زوجها. ثم إنَّ سيِّدَنا يوسف عفَّ عنها خَوفاً من الله تعالى، لا مراعاةً لشأن زوجها الذي أحسن إليه، فهو عفيفٌ، شريف، معصومٌ، تقي، نقي، لا يمكن بل يستحيلُ أن يعصيَ الله، أو يفعل منكراً، وهو سيعفُّ عنها ولو أساء إليه زوجها. ولو أعدنا الضمير على زوجها لظنَّ السَّامعُ، أو القارئ أن يوسفَ عفَّ عنها لأنَّ زوجَها أحسنَ إليه، ولو لم يحسنْ إليه لأساء إليها، وهذا ما لا يجوزُ أن يخطر في بال أحد. واليهود هم الذين يسيئون لسمعة الأنبياء والرسل، والتوراةُ محشوَّةٌ بالافتراء والتزييف على الأنبياء والرسل، واتِّهامهم بما لا يليقُ. فتنبه.
والنبي حيث يقول: ]إنه ربي[ فهو لا يقرُّ بالربوبية إلا لله تعالى وحده قبل البعثة وبعدها، فإذا أدركنا هذا توصَّلنا إلى أن الضميرَ في قوله تعالى: ]يضل[ و]يهدي[ يعود إلى ]من[ وهو أقربُ المذكور، فيصير المعنى: يضل الله من يشاء الضلالة ويهدي من يشاء الهداية.
أي: يضلُّ اللهُ فلاناً إن شاء الضَّلالة، ويهدي فلاناً إن شاء الهداية، وليست هناك قرينة تصرفُ الضمير إلى البعيد. والعدالةُ الإلهية تقتضي عودَ الضمير هنا على القريب، وهو ]من[.
وإذا أردت أن تعرفَ مثلاً على عود الضمير على البعيد لقرينة، فإليك آية سورة التوبة [24]:
]قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[
فالضميرُ في قوله تعالى: ]في سبيله[ يعودُ حتماً إلى الله تعالى لا إلى رسوله، أي إلى المذكور البعيد لا القريب لقرينة عفلية، وهي: أن الله تعالى نصَّ في قرآنه الكريم كما ذكر رسوله r في أحاديثه الشريفة الصحيحة أن الجهادَ لا يكونُ، ولا يُقبل، ولا يجوزُ، ولا يُثابُ عليه صاحبُه، إلا إذا كان في سبيل الله وحده لا شريك له.
وفي القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ تُعيد الضميرَ في الضلال والإِضلال على الإنسان نفسه، أو يرد في الآية هو الفاعل للضلال بإرادته، أو تبين أن ما نزل، وسينزل به، من عقاب فمرجعه ضلاله واختياره الشر دون الخبر والباطل دون الحق، والضلالة دون الهدى، أو تبين أنَّ الشيطانَ هو الذي قاد أهلَ الضَّلالة إلى كُلِّ شر وفساد حين رأى عندهم رغبة في ذلك، وبُعْداً عن الهدى وسبيله، أو ترد ذلك إلى أعوان الشيطان. من ذلك قوله تعالى في سورة النساء [60]:
]وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً[
]وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً[[116]
]يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[[176]
أي: لئلا تضلوا.
وفي سورة الأعراف [38]:
]رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ[[الأعراف: 38]
ولو تابعتَ القراءةَ لرأيتَ في أواخر الآيات بعد هذه الآية:
]فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ[[الأعراف: 39]
]وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ[[الأعراف: 40]
]وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ[[الأعراف: 41]
وفي سورة الإسراء [15]:
]مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا[
وفي سورة الكهف [103-106]:
]قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً[
وفي سورة الحج [3-4]:
]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ[
وفي سورة الشعراء [99] على لسان الكفار يوم الدين:
]وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ[
وفي سورة الأحزاب [66-68] في الحديث عن أهل جهنم الكافرين:
]يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً[
وفي سورة ق [27-29]:
]قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[
على أنَّ هناك آيات يعودُ الضميرُ فيها على الله تعالى في يضل، أو يذكر لفظ الجلالة فاعلاً في الآية. كما في سورة إبراهيم [27]:
]وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ[[إبراهيم: 27]
وفي سورة البقرة [26-27]:
]وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[
وفي سورة محمد [1]:
]الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ[
وفي سورة مريم [75-76]:
]قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً[
]وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً[
وفي سورة غافر [34]:
] كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ [
فواضحٌ أنَّ الله يُضِلُّ مَنْ أَصَرَّ على الضلالة، وسعى لها سعيها، وأعرض عن الهدى وقد ظهر له، واتضح، فأذن الله بضلاله لإصرار الضال على ذلك. وقد رأيت في آخر سورة الفاتحة ]ولا الضالين[ ولم يقل: ولا الذين أضللتهم، فهم ضلّوا وأضلّوا، فأراد الله ذلك، إذ لا يقع شيء إلا بإذنه وإرادته، وهو سُبحانه حين يُريد ذلك لا يرضى عن الكفر وأهله، ولا يحبُّ لهم ذلك، وإنما يرضى عن الإيمان وأهله، وقد فطر الناسَ عليه:
]رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ[ [البينة: 8]
وقد مرَّ معك من قبل أن ذلك كلّه تفسِّره آية سورة الصف [5]:
]فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [
(زاغوا) هو فعل الشرط: (لما) و(أزاغ) جواب الشرط؛ وهو شرط غير جازم، فهم بدؤوا الزيغ مصرِّين عليه، ساعين إليه، راغبين فيه، فسمح لهم به:
]وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[
وفي سورة النساء [115]:
]وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً[
وأنت ترى في الآية إشارةً واضحة إلى حرِّية الفرد في التصرُّف ولو من بعد ما تبيَّن له الهدى.
وفي سورة الرعد [27]:
]قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ[
فبابُ الهداية مفتوح لمن أرادَ فتاب، وأناب، واهتدى، والله تعالى يقرُّ العبد على مراده، ولاسيما إن أصرَّ العبدُ على ذلك، فيضلُّ من يشاءُ الضلالةَ، ولا يرضى عن ضلاله، ولا يعينه عليه، بل يضايقه ليعود إلى جادة الصواب:
]وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[[السجدة: 21]
ويهدي من يشاء الهداية ويرضى عن هدايته ويعينه في ذلك.
وإليك آيات كثيرة تدلُّ بوضوح على هذا:
ففي سورة محمد [17]:
] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [
وفي سورة مريم [7]:
]وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [
وفي سورة البقرة [213]:
] وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [
وفي سورة الرعد [27]:
]وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ[
وفي سورة الشورى [13]:
]وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ[
وآخر آية من سورة العنكبوت تقول:
]وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[
وفي سورة القصص [56]:
]وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[
وفي سورة التغابن [11]:
]وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [
وفي سورة المائدة [51]:
] إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [
[67]:
] إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [
[108]:
]وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[
وفي سورة غافر [28]:
]إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ[
وفي سورة الزمر [3]:
]إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ[
ومَن رَفَضَ هُدى الله فلن يهتدي، ولن تجد له ولياً مرشداً؛ لأنَّ الهدى الحق هو هُدى الله تعالى:
] قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [[البقرة: 120]
وفي سورة الإسراء [15]:
]مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [
وفي سورة آل عمران [73]:
] قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ [
وفي سورة الليل [12]:
]إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى[
وأما قوله تعالى:
]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[[البقرة: 256]
فلا يعني تعطيلَ الجهاد في سبيل الله كما حسِب بعضُ الدارسين لكتاب الله الكريم، وإنما يعني أن إدخالَ الإيمان في القلوب وتمكينه فيها هو من عمل الله تعالى وفضله، حين يرى صدق العبد، وإخلاصه، وسلامة نيته في الإقبال على الهدى والإيمان. قال تعالى:
]وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ [[النمل: 81]
وفي سورة القصص [56]:
] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [
كما تعني أنَّ الإكراهَ في العقيدة لا يُفيد التابعَ ولا المتبوع شيئاً. وأما قولُه تعالى في سورة الشورى [52]:
] وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [
أي: إنك لتدلُّ عليه، وتقود إليه، فأنت مبلِّغ مُذكِّر، لا مُسيطرٌ، والله أعلم بالسَّرائر:
]فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ[[الغاشية: 21-22]
وقد ذكرتُ في كتابي: (نظرات في كتاب الله تعالى) بحثاً ملخّصاً عن معاني الهداية في القرآنِ الكريم، فارجعْ إليه إن شئت.
فإذا استغنى الإنسانُ وأعرضَ عن هُدى الله فقد طغى، وغوى، وخاب، وخسر. ففي سورة العلق [6-7]:
]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى[
وفي سورة طه [123-127]:
]فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى[
والعمى في الآية هو عمى البصيرة، لا عمى البصر:
]فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[[الحج: 46]
فتأمَّل.
+^

إزالةُ اللّبس في فهم بَعْض

الآيات القرآنية الكريمة

والأحاديث النبوية الشريفة

أولاً: قوله تعالى:
]وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً[[الإسراء: 16]
فهذه الآيةُ: لابُدَّ لفهمها من معرفة المفعول الثاني لأمرنا الذي يأتي غير صريح، أي: يأتي بصيغة الجار والمجرور.
تقول: أمرت ولدي بالدراسة، أمرته بالتقوى، ولقد فسرت هذا المفعول الثاني المحذوف عدة آيات أخرى منها:
]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى[[النحل: 90]
فيصير معنى الآية: إذا أردنا أن نهلك أمةً طغت، وبغت، أمرنا الكبراء، والمترفين، وذوي التأثير على غيرهم بالتقوى والاستقامة، بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، بالرجوع إلى الحق، فإن فعلوا نجوا، وإلا فقد حقَّ عليهم القولُ، والعقاب العادل، بعد صبر عليهم طويل، فدمرناهم تدميراً.
والحذفُ في القرآن الكريم كثيرٌ، وهو من الإعجاز، فارجع إلى كتابي (نظرات في كتاب الله تعالى) تجدْ في ذلك بياناً.
ثانياً: قوله تعالى:
]وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [[الحج: 52]
وفَهْم هذه الآية يتوقَّفُ أيضاً على حذف المفعول به، ومعناها: ما من رسول ولا نبي قبلك إلا لاقى من قومه المعاندين الخصومة، والعداوة، والمكر، والكيد. فإذا تمنى لقومه: الخير، والإيمان، والإسلام، والهداية، والسير في طريق الحق، ألقى الشيطانُ في طريق تلك الأماني تحقيقها: العقبات، والسدود، والمعوقات، والشبهات، والافتراء، فينسخُ اللهُ ما ألقى الشيطانُ، ويحكم الله آياته، وينصر الحق على يد أنبيائه ورسله، والله عليم حكيم.

([1]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

([2]) ارجع إلى كتابي: «نظرات في كتاب الله تعالى» تجدْ فيه بحثاً مقنعاً مرضياً عن سيدنا يوسف عليه السلام وعفَّته.

_________________

قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://oldcoins.yoo7.com/
 
القضاء والقدر؟؟!!!!
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» حصريا درس بعنوان ( الفرق بين القضاء والقدر ومراتبه والايمان به ) بقلم الشيخ محمد الازهرى فقط كنوز النت الاسلامية
» المعتقد الصحيح في أركان الإيمان الستة : الإيمان بالقضاء والقدر
» هل يجوز أن نسأل الله رد القضاء
» نظيف: استطعنا القضاء علي الوساطة في التعيينات
» عيش أجمل 55 دقيقة مع حفلة لملك المقرئين عبد الباسط والقصص والحاقة والقدر

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كنوز النت الإسلامية :: © الأقسام الإسلامية © :: ©المنتدى الإسلامي العام©-
انتقل الى: